«مِن الكسّارة إلى الوزارة» سيرة عصامي مكافح ورحلة حياة جديرة بالتسجيل والقراءة
عرار:
الدكتور أنس الزيود العبادي
لا شك أن فن السيرة بنوعيه: الذاتية والغيرية قد حاز مكانةً مهمةً بين الفنون السردية لدى النقاد والقـرّاء، ولقي اهتماماً واستحساناً منهم، حتى يمكن القول إنَّ السيرة أصبحت تنافس الرواية والدوافع وراء ذلك كثيرةٌ ومتعددة، أبرزها أنَّها تتناول حياة شخص مؤثر في مجتمعه، دوّن تجارب كثيرة عاشها، يأخذ منها القارئ دروساً وعبراً يستنير بها في حياته. أسعفتنا الفرصة بالاطلاع على سيرة العصامي المكافح محمد داودية (من الكسّارة إلى الوزارة)، وبدون مبالغة هذه السيرة تمثّل رحلة حياة جديرة بالتسجيل والقراءة؛ لما تزخر به من أحداث وتجارب، ومواقف طريفة مــرَّ بها الرجل، وعقبات تجاوزها، ونجاحات وصل إليها، وإخفاقات انعرج إليها مسير حياته عبر مشوار كفاحه الطويل. ولك أن تتخيّل ثراء هذه السيرة وزخمها بالأحداث، إذا علمت أنَّ هذا الرجل وُلـِد فقيراً، قاسى معاناة اليتم والحرمان، وعمل في ابتداء حياته في بيع الصحف والمجلات، ثم في المحجر والكسّارة، وفي المطاعم، ومقاولَ صبّات بيوت لفترة زمنية، وغيرها من المهن الشاقّة، ثــمّ معلماً تنقّل بين عدة محافظات، ومن التعليم إلى حقل الصحافة، ومنه بدأت رحلة الصعود إلى العمل الدبلوماسي والسياسي، بدءاً بالتمثيل النيابي لأبناء محافظته الطفيلة في انتخابات 1993، ثم تبوّأ منصب الوزارة ثلاث مرات، وتقلّد سفارة الأردن في المغرب واليونان وأندونيسيا. تخيّل عزيزي القارئ حجم الحياة التي عاشها هذا الرجل، والمحطات التي مــرّها بها، أليس هذا جاعلاً منها حياة جديرة بالتسجيل والتدوين. إنَّ حياة محمد داودية -كما صوّرها في سيرته- لا تنقل حياته فقط، وإنّما تجعلنا نقف على حياة الجيل الذي ينتسب إليه، تلك الشريحة التي كافحت واجتهدت، وقاست وتألّمت، وتمكّنت بفضل العناية الإلهية، وحنوّ الأقارب والناس الطيّبين من تذليل الصعوبات، حتى وصلوا لما استحقّوا أن يصلوا إليه. في سنّ السادسة عشرة، أصبح الفتى محمد مقاولاً يتعهّد بصبّات البيوت، يأخذ (16) ديناراً لقاء كلّ صبّة، يشغّل معه رجالاً مفتولي عضلات وبشوارب كثّة، أكبر منه سنّاً، ومع هذا «فلا هم تذمّروا، ولا هم فكّروا في القيام بنفس عملي، ولا أنا استكثرتُ على نفسي أن أقودَ رجالاً مكتملين في عمر الوالد». و نقف على جزء من المعاناة التي قاساها في بداية شبابه، لدرجة أنَّه اضطرّ للمبيت في المطعم؛ ليتجنّب مخاطرَ العودة إلى البيت سيراً على الأقدام، فكان يصفّ أربع طاولات، يفرش عليها وينام «أعمقَ نومٍ يحصل عليه إنسان». ومن النقاط المهمة التي يعثر عليها القارئ في السيرة ميثاق الصدق الذي يقدّمه داودية في البداية، إذ يقول: «لستُ مضطرّاً إلى اختلاق شخصياتٍ وتخليقِ أحداث؛ كي أكتبَ مادةً تليق بذائقة القارئ، وتُـتيحُ له اشتقاق بعض العبر من حياتي الصاخبة الزاخرة بالتحدي والاستجابة، بقيتُ مُـوزَّعاً بين أن أسكبَها في قوالبَ أُعْنى باختيارها، أو أن أتركَها للتلقائية، فـتـتدفقَ وتنحتَ وتشقَّ مسارها؛ لتصنعَ قالبها». وبالفعل جاءت فصول السيرة متدفقةً بتلقائية، وناحتةً مسارها في ذهن القارئ، لم يترفع عن ذكر بعض المواقف الطريفة والتجارب الخاصة، وهذا -من دون أدنى شكّ- من مظاهر القوة والجمال في السيرة، التي تُحبّبها وصاحبَها للقــرّاء، فلا تزلّف ولا رياء ولا مبالغة، فلم يسبغ داودية على نفسه ثوب القداسة والمثالية، ولم يظهر (سوبرمان) بطولاته لا تتوقف، بل مثل باقي الناس، فيه القوة والضعف، والجِـدّ والهزل، والأمل والنجاح في مقابل اليأس والإخفاق. ولم يتعالَ عن ذكر الطرائف التي ما زالت تلتمع في ذاكرته، فمن المواقف الطريفة التي يذكرها، وتنكشف بها دماثة خلقه، (أنا محمّى عن الرز)، وهي حيلة اتّخذها ليتمكّن من أكل اللحم في الأعراس في الجنوب ذي الطقس السيبيري في فصل الشتاء على حـدّ وصفه، فهو يذكر: «كنتُ أشارك في أعراس الأهالي، أُنقّط العريس وأدبك وأغنّي، وأطخ في كلّ عرس باغتين أو ثلاث باغات......» ومع القيام بهذا الواجب كلّه، كان لا يناله نصيبٌ من قطع اللحم الموجودة على سدر المنسف، وليمة الغداء للضيوف في الأعراس الأردنية، يصف المشهد: «فما أن توضع المناسف على الأرض، حتى يتحلّق المدعوون حولها، وفي لمح البصر تختفي قطع اللحم القليلة بين أيدي المدعوين الضخمة، لم يكن لائقاً أن يدافش المعلم... على قطع اللحم». ومن المواقف التي صارح بها، حديثه وتجاربه مع النساء، ولا عيبَ في ذلك، فالعشق والانجذاب للأنثى والجمال عاطفةٌ نبيلة، وميل في النفس الإنسانية، والمرء عندما يكاشف بذلك فهو يعزّز هذه العواطف عند القـرّاء، مثل قوله: «فأيُّ خبالٍ يدعو المرء إلى سؤال امرأة عن عمرها؟! كانت أنثى بكامل لهفتها، امرأة تستحقّ العشق، استقرّت في رأسي، كنتُ مفتوناً بها، أصبحتُ أعشقها بكلّ جوارحي... سوف أظلُّ ممتناً لهذه المرأة التي منحتني أول الزغب وأول الخفر». ومن المواقف الغرامية التي يكاشف بها، أنَّه ما زال إلى اليوم يتذكر وجه فاطمة، تلك الفتاة التي «أخرجت كامل ذراعها البضّ من النافذة»، ولــوّحت له: «فاطمة عيني.. فاطمة». فقد طلبت منه: «عيني أبو جاسم، ممكن موي بارد»، وما زال أبو جاسم إلى اليوم يتذكر فاطمة «بكلّ روائها وبهائها، وغضاضتها ونداوتها، وسطوة عينيها الباذختين». ومن روح الهزل والدعابة إلى الجِــدّ والانضباط، فداودية قارئ نهم منذ طفولته، كان منكبّاً على القراءة والعلم، شغوفاً بمجالسة الكبار والحكماء، كثيراً ما يرتاد مجالسهم، حتى وإن لم يبلغ الحلم، ومن لطف العناية القدرية أنَّه بدأ القراءة منذ تفتّح وعيه، فعندما كان يبيع المجلات والصحف في المفرق، كان يسترق لحظات راحته، يجلس في الفيء يطالع المجلات من الجلدة إلى الجلدة، وشاءت الأقدار أن يصبح في المستقبل صحفياً مبرزاً ذائع الصيت، هذا يدلّ -كما قيل- العلم في الصغر كالنقش في الحجر، وعمله المتواصل في ريعان طفولته وشبابه، شحذ إرادته وهمّته، فكان المعلم المتفاني، والصحفيّ الجادّ، والوزير الملتزم، والبرلمانيّ الحَــذِق، والسفير المخلص. لكن مع هذا لم تخلُ الحياة من الإخفاقات، فلم يكتب له النجاح في العمل التجاري، وكانت تجربته محدودة فيه، ولاحقاً حوربفحُـرِمَ من موقع نقيب الصحفيين، لكنَّ الله عوّضه بالعمل مدير إعلام في الديوان الملكي في أبهى فترات الأردن السياسي، ومنه صعد إلى الوزارة حتى برق اسمه ولمع نجمه في الصالونات السياسية. وبخصوص العنوان الذي اختير للسيرة (من الكسّارة إلى الوِزارة)، فإنّ له دلالة عميقة، فَـلِــمَ اختيرت (الكسّارة) دون غيرها من الأعمال الشاقة التي عمل فيها، ربما (الكسّارة) هنا لا تعني فقط ذلك المحجر الذي يُحَطّم فيه الحجارة، بل هي بداية تكسيره الظروف القاسية والصعوبات التي كانت في طريقه، وكذلك الأمر بالنسبة للوزارة، فهي لا تعني المنصب وامتيازاته، بقدر ما تمثّل ذروة الطموح الذي وصل إليه على الصعيد العملي، أي رحلة الصعود من القاع حيث تكسير صخور المعاناة والشقاء، صعوداً إلى ذروة النجاح والرفاه الوظيفي. إنَّ سيرة (من الكسّارة إلى الوزارة) تمثّل رحلة أي رجل عصاميّ طموح، قاسى الفقر والحرمان، وخبر الحياة بمـرّها وحلوها، ومرارتها وعذوبتها، وكدرها وصفوها، مصوّراً -في أثناء ذلك- حياة جيله، وناقلاً قضايا مجتمعه ومعاناة ناسه، وكيف صعد رويداً رويداً إلى القمة التي حلم بها. كلّ هذا حاكه داودية بمغزله السلس النافذ، فجاءت اللغة واضحة بليغة، قريبة من فهم القارئ، متدفقة بتلقائية، منسابة بلا تكلّف، مشحونة بالعاطفة، طافحة بالصور الجميلة الطريفة، نحو قوله في وصف الهدف الذي سجّله اللاعب الإماراتي بخيت سعد في مرمى المنتخب الكويتي: «أرسل قذيفةً كرباجيةً من نصف الملعب»، ومن الصور البليغة التي تعلق بذهن القارئ (غادرتني كغامة)، و(صوتها الناعم الباذخ الرطب السخيّ، ذي الطبقات المتدرجة الملونة كقوس قزح)، و(ويُطرّزها بالمقالاتِ النارية)، و(أوغل في دهاليز العمل السياسي)، وغيرها. وإلى جانب هذا وُظِّــفَت بعض الألفاظ الدارجة في اللهجة الأردنية على نحو مناسب في ثنايا السيرة، مثل: (يـِدافش)، (ورطتي)، (البنط العريض)، (شرشبة خُـرج)، وعبارة: «حين يتولّى الضعيفُ القيادةَ يصبحُ قـوّاداً!»، وغيرها، وهذا التوظيف يجعل القارئ -لا سيما الأردنيّ- يندغم بها، ويسافر وجدانه في أرجائها، متشوقاً ومتمسّكاً بمتابعتها إلى نهايتها.