«بازار الفريسة» لخالد سامح... رواية تقول ما لا يقال
عرار:
إبراهيم خليل بعد أعماله القصصية « نافذة هروب « 2008 و» نهايات مقترحة « 2011 و يبقى سرًا 2016 وبين سطور المدينة (2017 ) وروايته الهامش (2020) تصدر للقاص الروائي الإعلامي خالد سامح رواية جديدة بعنوان بازار الفريسة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان) ليحتل بها وبتلك التي سبقتها مقعدا في الصفوة الأولى من الراوئيين الأردنيين . فمن يقرأ الرواية يجد نفسه مدفوعا للكتابة عنها إن كان ممن ابتلوا بالكتابة عن الرواية بصفة عامة أو لم يكن. وذلك لأن الرواية، من حيث هي فن أدبي ذو مرتكزات وقواعد فنية رسخها المتفوقون من كتابها منذ أجيال عديدة أصبحت في أيامنا هذه، ونظرا لجاذبية السرد الذي يجيده، أو لا يجيده، من هبّ ودبّ، أصبحت عمل من لا عمل له على رأي الكاتب السوري المخضرم نبيل سليمان. ولهذا تغدو الكتابة عن الرواية إذا كانت جيدة ضريبة لا مفر من أدائها لدى المتابعين، لسببٍ بسيط، وهو الحد من قُدرة الهراء السردي المنتشر على خلط الحابل بالنابل، وتزييف الروايات تزييفا أخطر على القراء من تزييف النقود على المتعاملين بها لدى شركات الصرافة. لا سيما وأن في الأفق مؤسسات ما فتئت تغالي في تشويه الرواية العربية كتلك التي تمنح جائزة بوكر لروايات في قمة الضعف والهزال، ولا تقل عنها تلك التي تحمل اسم كتارا، ومحسن قطان، وباسم سليمان، والحبل على الغارب.ورواية خالد سامح المجالي من الروايات التي تشجع الدارس على تناولها، والكتابة عنها، وسط هذا البحر الطامي من الروايات التافهة التي تتكدس في المكتبات. يمثل موضوع رشيد مرعي العمود الفقري لرواية بازار الفريسة، ذلك أنه توفي بعد إجراء عملية قسطرة في أحد المشافي بعمان بمدة قصيرة. وحكايته مع مجلة سلاحي، ومجلة الجبهة، والرفاق سامي وعبود وكمال وخليل رفاع وغيرهم حكاية معروفة ترويها لنا زوجته هالة جبران تارة، وتارة رفيقه في المجلتين سامي. أول الحب: ففي اثناء الحرب الأهلية اللبنانية وانخراط المقاومة الفلسطينية فيها إلى جانب فريق دون آخر، تعرفت هالة جبران مصادفة على المناضل المزعوم رشيد مرعي، وسبب المعرفة رغبتها في أن تكون كاتبة مسرحية لامعة، ووجدت لدى مجلة الجبهة كل التشجيع من سامي تارة، وتارة من رشيد، الذي وقع في حبها من النظرة الأولى. في ذلك اللقاء الذي يعد لقاء عابرا تمادى في التغزل بها حد الاعتقاد بانه وقح أكثر منه كاتبا أو إعلاميا أو مناضلا. ولأن لديها ميولا متحررة جدا، ولا تقيم وزنا للعادات ولا للتقاليد ولا للأخلاق،ولا للمذهب الطائفي،قابلت تحرشه بالاستجابة. بعيد ذلك تمادى في علاقته بها حد التقدم لخطبتها فوافقت على الفور بالرغم من معارضة والديها اللذين لا يؤمنان بالزواج المختلط. وعلى الرغم من أن لهما الكثير من الذكريات في بيروت، إلا أن الحكاية تبدأ من وفاة رشيد مرعي قبل بدء الحكاية بعام. وتقتصر على المدة التي استهلتها بقدومهما إلى عمان. فقد جاءا واستقرا أول الأمر في منزل بماركا انتقلا منه إلى جبل التاج، ثم إلى الأشرفية، فإلى بيت آخر في جبل عمان قريب من الدوار لأول. ثم استقر بهما المقام في بيت امتلكاه في حي أم أذينة الذي يصفه الراوي بالحي الراقي، فالسكنى فيه تقتصر على الأثرياء ممن ينطبق عليهم الوصف « بورجوازيون « أو «أرستقراطيون « من الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. شائعات: بعيد وفاته تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي سيرة المتوفى رشيد مرعي بالغمز واللمز. وتكرر الحديث عن فساده، وعلاقاته المشبوهة في منشورات بعضها لرفاق سابقين، وبعضها لمن تصفهم هالة بالغيورين. تشعر عندئذ بالضيق، ويتراءى لها أن ما يقال، وينشر، عن زوجها،إما أنه صحيح، فتكون قد خُدعت به طوال هذه العشرة، وإما أنه غير صحيح، ولا غاية له، ولا هدف، سوى تشويه سمعته من حيث هو مناضل فلسطيني فارق الحياة، فوجدوا في وفاته، وغيابه، فرصة للنيل منه ميتا إذ لم يقدروا على النيل منه وهو حيّ. لذا تتحرى الحقيقة كي لا تظل فريسة الخداع. وعلى نحو طبيعيّ تتذكر رفاق رشيد الذين قدموا مع القادمين إلى عمان من بيروت. منهم الرفيق سامي الذي انتهت به الأحوال لإدارة دكان لبيع الكتب (وراق) وسط البلد في زمن أطاح فيه الإنترنت بقيمة الكتاب الورقي. وجدته في أحوال تثير الحزن والشجن. عندما سألته عما يشاع عن رشيد، صمت قليلا، ولم يكذب الأخبار تكذيبا مطلقا. أومأ إلى شكوك تساوره حول الغنى المفاجئ الذي انصب على رشيد، والثراء الفاحش، فجأةً،وانتقل به من طبقة (الطفارى) إلى طبقة أصحاب الملايين. وهذه الثروة لا تهبط على مناضلين في مثل موقعه بلا أسباب، وبلا مصادر، ومن حق الآخرين لا سيما القريبون منه أن يسألوه: من أين لك هذا؟ وفاء ودينا: حاولت التحري أكثر عن طريق وفاء ذات العبء المسرحي، والشخصية المتحررة، ودينا صاحبة الموقع الإلكتروني والتجربة الأدبية التي توقفت عن كتابة أي جديد. مع هاتين الصديقتين راحت تجرب حظها في التحري دون أن تبلغ غايتها من اليقين، ولا حتى شبه اليقين. تساؤلات: وذات يوم، وهي تفكر فيما آلت إليه بها الحال، تلقت مكالمة من سيدة تدعي أنها محامية، وأنها ابنة جلال الذي عمل مع رشيد منذ عام 1996 في مؤسَّسته (مركز جسور الحوار للدراسات السياسية) في الشميساني. تذكرت هذا الاسم وتذكرت أنه كان بمنزلة الذراع الأيمن لزوجها الراحل، ولكن العلاقة بينهما ساءت في المدة الأخيرة، وأعفاه من هذا المنصب بطريقة تخلو من اللياقة. ولا تعرف شيئا عن الأسباب التي أدت لذلك، مع أن رشيدا اعتاد أن يشيد به، ويعتمد عليه. طلبت تلك المحامية من هالة لقاءً مباشرًا، وتمنت هالة جبران قائلة: اللهم اجعله خيرا! ولكن من أين سيأتي الخير، وهذه محامية تفتش بدقة عن الأدلة التي تدين الزوج،وتؤكد الشائعات. فبعد مدة من انضمام والد سارة لمركز جسور الحوار، وتسلمه مهمات كبيرة تتعلق بشؤون التواصل، وترتيب الفعاليات والملتقيات التي ينظمها المركز، بدأ جلال هذا يلاحظ أن لرشيد علاقاتٍ قوية تربطه ببعض السفارات الأجنبية، والمؤسسات ذات الاهتمام بالتحول الديمقراطي، وبحقوق الإنسان، وتمويل هذه الجهاتللمركز بمبالغ مالية كبيرة ليتمكن من مواصلة النشاط في الشرق الأوسط دعمًا لفكرة التعايش ومحاربة العنف(ص179) . تلك الملاحظ أثارت لديه الكثير من التساؤلات الحائرة. وسرعان ما تنبه رشيد لشكوك جلال، وأنّ لديه تساؤلاتٍ تساوره. فقرر الاستغناء عنه، وإعفاءه من المنصب.(ص 180) فقد كان رشيد متورطا بعلاقات تعاون مستمرة مع جهات إسرائيلية، ومع الـ C.I.A وقدم لهما ما تريدان من الدراسات والبيانات التي تختص بالربيع العربي، والتظاهر في عمان، وما يصدر من بلاغات، وبيانات عن الإخوان المسلمين، وعن الأحزاب السياسية؛ اليسار منها واليمين والوسط. وما للفصائل الفلسطينية من نشاط مقاوم في الضفة الغربية، وغزة. وتقديم معلومات دقيقة عمن يعارضون اتفاق أوسلو 1993 والرافضين لسلطة محمود عباس. رفاع وعبود: إذن لم تكن ملاحظ الرفيق سامي عن صفقة الأسلحة التي باعها رزق عبود للسوريين بألفي دولار عام 1978 حكاية كاذبة. ولا ما قيل عن خليل رفاع من أنه على تواصل مع دوائر مخابرات عربية وأجنبية مقابل مبالغ كبيرة أنشأ بها مجلة، واسهم مع عملاء آخرين باغتيال صحفيين، واختطاف آخرين، بالافتراء. وبعيد اتفاق أوسلو المشؤوم ظهر هذا إلى جانب ياسر عرفات، وشغل مناصب كبيرة، وأنشأ لحسابه الخاص استثمارات ضخمة في رام الله كان المرحوم رشيد شريكا في بعضهما على الرغم من ادعائه المتكرر المعلن أنه من معارضي أوسلو. (ص69) هذه الأخبار التي سمعت بها هالة جبران، أو اطلعت عليها، لم تكن كافية. فقد جاءتها سارة بملفّ ضخم، ودفعت به إليها دفعا قائلة هذا هو ملف زوجك المناضل الشريف. مهام قذرة: يحتوي الملف على وثائق، ومراسلات تلقاها رشيد في مناسبات وأوقات متباعدة تظهر تقديمه المعلومات المطلوبة عن أملاك اليهود الذين هاجروا من مصر ولبنان وسورية والعراق للصالح مؤسسة في لندن باسم (متحدون للدفاع عن حقوق الأقليات في العالم) (ص89) وبيانات تهتم بموضوع دعم مؤسسات المجتمع المدني، والتحول الديمقراطي في الأردن (ص180). ووثائق توضح المشروعات التي جرى تنفيذها في رام الله بالتعاون مع مراكز بحث ومؤسسات ذات أجندات سياسية تروج للحلول السلمية من وجهة النظر الإسرائيلية. وفي الملف عدد غير قليل من الرسائل المتبادلة مع ضباط الـ C. I.A وملحقين بالسفارة الأميركية بعمان، وبيانات عن بعض الناشطين الذين يصنفون بالخطرين من نوابٍ، وأئمة مساجد، وطلبة جامعات(ص181). نماذج متكررة: تثير حكاية رشيد مرعي بعض الأسئلة، فهل في مناضلي المقاومة الفلسطينية نموذج كهذا؟ الجواب عن هذا السؤال واضح، ولا يحتاج لطويل جدال، ولا للإقناع. فرشاد أبو شاور منذ نشر روايته البكاء على صدر الحبيب(1974) سلط الضوء على نماذج شبيهة برشيد مرعي، وخليل رفاع، ورزق عبود، وسامي، والرفيق كمال، ومن لف لفهم. مريد البرغوثي في كتابه رأيت رام الله(1996)أشار لعدد غير قليل من الفاسدين بالوراثة، أو محدثي الفساد. ووفيروايتها « الخيمة البيضاء 2016 « سلطت ليانة بدر الضوء على مظاهر الفساد في إدارة رام الله، مؤكدة أن بعض من عادوا للضفة من تونس، وكانوا لا يملكون في جيوبهم شروى نقير، أصبحوا من ذوي الملايين. وأوضح فيصل حوراني في سيرته (حنين) 2004 أن أحد المسؤولين الفاسدين عرض عليه أن يكون « سحيجا « وله ما يشاء من الفيلات، والسيارات الفارهة، والأرصدة في البنوك، عدا الهيلوكبتر فلا يستطيعون توفيرها، لا له، ولا لغيره. وتبعا لهذا لا يستبعد وجود شخص كهذا يمتطي صهوة القضية الفلسطينية، فيسيء إليها وإلى فلسطين. وبما أن الروائي – مثلما يقال- يصور الواقع، فليس مما يُحظر عليه أن يهتم بتصوير الشخص الذي يتصف بالسلبي، أو الخائن، أو المنتفع، فهو شيء واقعي، وموجود، ولا أحد يستطيع إنكاره. فالتحريات التي تقوم بها هالة جبران من ناحية، وسارة من ناحية أخرى، كشفت لنا عن حقيقة محترفي النضال ممن انتهت بهم المرحلة إلى هذا المصير البائس والمشين. وربَّ قائل يقول: لا تسلم أي حركة ثورية في العالم من بعض مرضى النفوس، إلا أن الكاتب الروائي، كالشاعر والقاص والمسرحي، لا ينبغي له أن يعنى بهؤلاء المتساقطين، وإنما يفضل أن يتجه لتصوير شخصيات أخرى تتصف بنظافة اليد، ونقاء السريرة. وردا على هذا نقول: إن المؤلف
-بصفة عامة - لا يعبر في روايته عن آرائه فحسب، بل يعبر عن آرائه وآراء الآخرين من خلال الشخصيات التي هي شخصيات مستقلة، لها آراؤها، وللمؤلف آراؤه. وقد يلتقيان في بعض الروايات، ويختلفان في أخرى. وبصفة أساسية تعد رواية خالد المجالي رواية تعتمد رؤية (إصلاحية) إذا جاز التعبير، فهو ينتقد المسيرة في سعي للتصحيح، وفي حرص حريص على نقاء المقاومة، ونقاء الثورة. أي أن روايته هذه تقول بشجاعةٍ ما لا يقال. فنية الرواية: وهو في جل الأحوال معنيٌ أولا، وأخيرا، بعمله الروائي؛ شكلا وفحوىً. وهذه الوظيفة تنبع، وتنبجس، من الاتقان الافتراضي للجانب الأدبي من الرواية، وليس من كون هذا النموذج فاسدًا أو غير فاسد، فهذه الفكرة عن فساده من عدمه نتركها لهالة جبران، ولابنيه عامر وهشام، ولصديقتيهم وفاء وناديا، وللرفاق سامي وكمال وللقارئ أيضا. فماذا عن الفن في بازار الفريسة؟ ردا على هذا نقول قد يترسخ في وعي القارئ العادي، غير المتخصص، أنها رواية شديدة التشويق. وقد ردد غير واحد من نقاد الرواية وألح على أن الحكاية هي العمود الفقري للرواية. وأن جودة الحكاية تتوقف على مدى ما تثيره من تشويق لدى القارئ العادي لا المتخصص الذي لديه خبرة بأساسيات الرواية، وما تقوم عليه من ركائز الفن. ومن هذا الباب تشبه رواية خالد سامح الرواية البوليسية، فهذا النوع يشد القارئ شدا، ويجعل منه قارئا متلهفا لمعرفة نتائج البحث، والتحري عن أسرار الجريمة من حيث الدوافع، والتنفيذ، وإدانة المجرم أو المجرمين. وفي « بازار الفريسة « شبَهٌ بالرواية البوليسية من حيث أن هالة جبران تحاول التوصّل بإلحاح لمعرفة الحقيقة عما يقال عن زوجها الذي مات ودفن، ودفنت معه أسراره. وبذلك ضمن الكاتب لحكاية روايته هذه قدرتها على شد القارئ. وهو معيار تفتقر إليه الكثير من الروايات التي يتاجر بها الناشرون في أيامنا هذه. على أنَّ الرواية البوليسية ذات التشويق اللافت يهيمن عليها الاهتمام بالحدثact والوقائع المتتالية، وتهمل بسبب ذلك الشخوص characters والزمن time والمكان space والحوار بنوعيه dialogue والمناجاة monologueوتخلو خلوا شبه تام من البعد الدرامي. وهي الأقرب إلى السرد التاريخي الباهت من حيث الفن، إلا في شيء واحد تتفوق عليه، ألا وهو التشويق، والإحساس بالترقب. بيد أنَّ رواية المجالي، وإن بدا عليها الشبه بالرواية البوليسية، إلا انه يعنى فيها عناية خاصة بالشخوص. هالة جبران: فالقارئ بلا ريب تستوقفه شخصية هالة ببعدها النسوي والثقافي والأخلاقي والاجتماعي. ويعجب من علاقتها بالأصدقاء من الجنسين: سامي، كمال، سمير ضرغام، ناديا، ووفاء، وغيرهم ممن ذكروا، حتى الأوغندية جاميما. ومن خلال علاقتها بهؤلاء توحي بما جبلت عليه وفطرت من انفتاح وانبساط وبعد لافتٍ عن الانطواء، حتى في علاقتها بابنها هشام والآخر عامر، فثمة ما تفترق به عن غيرها من الأمهات. ولا تختلف عن هذا لا في تعاملها مع والديها، ولا مع شقيقها ميشيل الذي ما فتئ يسخرُ ممن يريدون تحرير فلسطين. وعندما نقرأ ما يرويه الراوي عن تكريمها في مؤسسة عبد الحميد شومان نجد أن لديها تواضعا قلما نجده لدى امرأة اقترنت بواحد كرشيد مرعي. تضاف إلى هذا كله علاقتها بالفن، التشكيلي منه والمسرحي، وزيارتها لمكتبة سامي، ولبيت المسنين في الزرقاء لترى الرفيق كمال الذي أعياه الزهايمر. وهذا-إذا أخذت التفاصيل بالحسبان- تبين لنا منه أنها شخصية سردية مدروسة من جوانبها كافة، نامية، متطورة، تعلق بذاكرة القارئ، وهذا شيء لا نجده في الرواية البوليسية حيث الشخصياتُ لا تعدو كونها أسماءً تؤدي وظائف فحسب. وثمة شخصيات أخرى تضيق هذه الرقعة عن البحث في ملامحها التي عني بها الكاتب. وقد جمع المؤلف بين هذه المزية لروايته ومزية أخرى تتصل بالمكان. الفضاء الروائي: فالمؤلف أدار متواليات هذه الرواية في فضاء سردي متسع، ومتنوع، فإلى جانب بيروت والجزائر وتونس وعدن احتلت أمكنة شتى من عمان موضع البؤرة في الوصف المكاني. وهذا أشرنا إليه، ونبهنا عليه، سابقا. على أنه في مقاربته لبيروت من زاوية العلاقة بين هالة والمكان، ثمة مقارنات بينها قبل الحرب الأهلية وبعدها. فالوصف لما قبل الأهلية يحببنا ببيروت، والذي يتصل بما بعده يصرف النظر، فهي على رأي هالة مدينة بلا روح، واسم تاريخي لا غير. وتلي هذه البؤرة المكانية واحدة أخرى هي [جونية] التي توقف الكاتب بنا فيها عند الحديث عن عودة هالة لزيارة بيروت بعد رحيل رشيد مرعي. ولقائها بميشيل وابنيه روجيه وميرنا، والتقاطهم صورًا. ففي هذا الجزء من الرواية رحلة ترفيهية لهالة، وترفيهية للقارئ، فهي تضيف لونا من الامتاع على السرد الذي غلب عليه شيء من غموض الهدف. في هذا السياق تتذكر الرفيق كمال الذي نخره داء الزهايمر، فأرادت زيارته لعل لديه بعض ما يجلو الحقيقة عن رشيد، وقيل لها إنه في دار المسنين بالزرقاء التي لم تزرها إلا مرة واحدة برفقة المتوفّى، ولم تشعر حيالها بالارتياح، لهذا أرادت أن تأخذ من تؤانسها في هذه الزيارة (ص164-165) ويالها من زيارة! فقد ذكرتها بالهجمة الشرسة التي تعرض لها الرفيق من شلة مخمورين ينتسبون لإحدى المليشيات اليمينية، فظنوه من لهجته فلسطينيا. وقال له زعيمهم وهو يصوب المسدس نحوه ما دام معك جنسية أردنية شو مجيْبَك ع لبنان يا أخو... روح انقبر في بلدك يا ... ثمّ طلب ممن معه أن يضربوه(ص168). فزيارتها لدار المسنين أحيت في نفسها ذكريات مؤلمة، ولم تظفر بما كانت تتمناه من الرفيق الذي بصعوبة تذكرها، وتذكر من تكون. وهذا الشعور يتلاءم مع ضيقها أصلا بالقدوم، وزادها ضيقا الازدحام المروري الذي وجدت نفسها فيه، والجو الخانق، الدبق، الذي أحاط بها، فبصعوبة استطاعت الإفلات من الفخ. سرد متقطع: مراوحة في الزمن: يُفترض في هذه الحكاية أنها بدأت في العام 1978 إلا أن الكاتب لم يتقيد على مستوى المجريات بهذا، فقد تصرف تصرفا فنيا بطريقة السرد. فذكر بعيد وفاة رشيد بعام وقائع جرت قبل نيف وأربعين عامًا. وراوح في الزمن، فتارة هو في الوقت الذي تواصل فيه هالة البحث، وطورًا هو في بيروت، أو في أسفار تنقل فيها رشيد في عواصم شتى. وهو في الزرقاء يفتح قوسين يروي ما بينهما حوادث وقعت قبل عشرات السنين، أو وهو في جونية يعود بنا عن طريق الذاكرة لأيام سبقت بسنين، وما أسرع ما يتنقل بين حدث وقع في بيروت قبل الحرب الأهلية وآخر يقع في زمن التحري عن حقيقة رشيد. أي في زمن كتابة الحكاية. ويذكرُ لنا سارة جلال لنعود بذكرها إلى العام الذي لقي فيه جلال رشيدًا، وعمل لديه في مركز جسور الحوار للدراسات إلخ. أحلام، وكوابيس، ترويها البطلة بعضها من شهر العسل، وبعضها بعد الوفاة. وهذه المراوحة في الزمن تضفي -بلا ريب - على الحكاية، وعلى الحوادث، بعض الغموض، وتشحذ الإحساسَ بالترقُّب لدى القارئ، وتمنح السرد بعدًا جماليًا لا نجده في السرد الخطي الرتيب. الحوار: ولا ضيْر في أن نشير للحوار في هذه الرواية، وهو يحتل مساحة كبيرة، ومثلما عودنا في روايته الهامش يسعى لتشكيل الحوار متناسبًا مع أقدار الشخوص، ومستوياتهم ومواقفهم. فستار الجبوري يقول شلون عيني مذكرا بأنه عراقي، وهالة تقول عنهن مذكرة بأنها لبنانية، ورشيد وكمال وسامي يتحدثون بلهجة تبين أنهم فلسطينيون أو أردنيون. ووفاء تتلفظ بكلمات يتضح منها أنها منفلتة لا تخشى الاتهام ببذاءة اللسان. وهذا كله يمثل مزيجًا من المستويات التي تضفي على حواره ما يوهم بمحاكاة الواقع. وهي صفةٌ يحرص الكاتبُ عليها -عادة- لإقناع القارئ بحقيقة ما يرويه، وصدقه، على الرغم من أنه من صنع الخيال.