د. يوسف حمدان/ الجامعة الأردنية يعمل الروائيُّ الكويتيُّ «فيصل عادل الوزان» على التأصيل التاريخيِّ والثقافيِّ للهُويَّة الكويتيَّة في روايته «حديث كاظمة»،[1] وليس هناك أداةٌ لفعل ذلك أفضل من البحث في المكان الذي نشأ فيه ذلك التاريخ وتحرَّك خلاله، لتبيانِ عُمقِ العلاقة بين الزَّمن والمكان، ولتمثيلِ فكرةٍ وحملِها إلى أبناء هذه البلاد من الأجيال المعاصرة، مفادُها أنَّهم غير منبتِّين عن ماضٍ حضاريٍّ عريقٍ، فيه تعرُّجاتٌ وتحوُّلاتٌ على مستوياتٍ شتّى، وأنَّ وجودهم ليس وجوداً طارئاً في المكان، بل هو مُتأصِّلٌ في عُمق الزمن. إنَّ رواية «حديث كاظمة» ترسيخٌ لجوانبَ مهمَّةٍ ومركزيّة في هُويَّة الكويت، عبر تسريدٍ أدبي لتاريخ «كاظمة» منذ عصور ما قبل الإسلام وصولًا إلى العصر الرَّاهن، علمًا أنّ «كاظمة» هي الاسم القديم للكويت. يتجاوز الرِّوائيُّ «فيصل عادل الوزان» المادَّة التاريخيَّة، ليسرد علينا قصةَ «كاظمة» بطريقةٍ ثريَّةٍ بالمعلومات التي تضيء جوانب خفية من تاريخ البلاد، يتتبع فيها حيوات الناس وطبائعهم وتقاليدهم، إحقاقًا لمسيرتهم التاريخية، وإبرازًا لهذا التاريخ في نفوس أبناء الكويت الحاليين –من ناحية- وإشعارهم بطبيعة امتداد بلادهم عبر التاريخ وانغراسهم العميق فيه. ومن ناحية ثانية، تتضمَّن رسالةً إلى القارئ العربيِّ خارج الكويت عن العُمق التاريخي لهذه البلاد، المُتجاوز لمعرفتهم بها بعد اكتشاف النفط، وتحوّلها إلى مركز اقتصاديٍّ على المستوى العالميِّ، دون التفكير مليًّا بهُويَّتها وتشكيلاتها المُركَّبة وعواملها المُتداخلة. بدأ هذا التسريد بنقطةٍ مركزيةٍ تُشكِّل الجوهر الحقيقيَّ الذي انبنت عليه أحداثُ الرواية، تظهر من خلال جملةٍ على لسان «سيف» –أحد أبطال الرواية- الدَّارس للتاريخ في جامعة الكويت ستكون منطلقَ الأحداث ومدارَ حركتها: «اختلفتُ البارحةَ مع أحدهم في الديوانية؛ فقد ادّعى أن بلادنا لم تنبعث من حضارة أو تاريخ قديم، وأنها وليدة القرنِ الماضي فقط! ولولا النفط ما برزنا.»[2] ومن أجل إبراز هذه الجملة المركزية ووضعها في سياق أدبي يُسرَد عبرَه تاريخُ الكويت أو «كاظمة»، عَمدَ الروائيُّ إلى اختيار عددٍ من الأبطال مُتخصِّصين بالتنقيب والحفر عن الآثار في مدينة الكويت، وهم: فهد وسلطان وسيف وحامد، وسيتكلَّل عملهم بالعثور على «جرَّة فخاريَّة بيضاوية كبيرة» تحوي داخلها مجموعةَ أوراقٍ على هيئة مخطوطة تحت عنوان «حديث كاظمة.» وفي التعامل مع هذا الأمر، «أمسك فهد الورقة الأولى بسبابته وإبهامه وقلبها بكل ما أُوتِي من رفق، فبانت صفحة العنوان، وقرأ سلطان بصوت مسموع: «حَدِيثُ كاظِمَة.»[3] ستكون هذه المخطوطة بمثابة الوثيقة التاريخية التي تحوي بين صفحاتها تاريخ الكويت أو «كاظمة»، ابتداءً من الألف الثاني قبل الميلاد وصولاً إلى سنة 899 ميلادي. وسيتدرَّج الروائيُّ، بحركةٍ ممتعةٍ عبر الزمن، بالانتقال بهذا التاريخ من الأحدث إلى الأقدم: 1- (كاظمة – قرية المِقَّر جمادي الآخرة 286هـ/ يونيو 899م)[4] 2- (رحلة إلى قرى كاظمة ومضاربها. محرم 287هـ/ فبراير 900م)[5] 3- (كاظمة، معركة ذات السلاسل: سنة 12هـ/ 633م)[6] 4- (فاطمة بنت الملك المنذر والمُرَقَّش الأصغر، 530م تقريباً)[7] 5- (يوم الصُّلَيْب بكاظمة قبل الإسلام)[8] 6- (جزيرة أجاروم [فيلجا]، 220 قبل ميلاد المسيح)[9] 7- (أجاروم [فيلكا]، حضارة دلمون – في الألف الثاني قبل ميلاد المسيح)[10]...إلخ. لقد جاء هذا السرد على مستوى الخطاب معاكسًا لخطيَّة التاريخ الذي يتحرّك قُدُمًا من القديم إلى الحديث لجعل العلاقة بين الزمن في مراحله التاريخية المختلفة والقضيّة المركزيّة في الرواية وهي الهُويَّة علاقةً جوهريّةً لا يصحُّ فيها انفصالٌ أو انعزالٌ؛ إذ يؤدّي ذلك إلى تحطيم الهُويَّة وجعل حضورها ضحلًا وهشًّا، لا سيّما بعد الربط القهريِّ بين وجود الكويت على الخريطة وبين نفطها، بمعنى اقتران وجودها في الذهن بمستوى اقتصاديٍّ يسعى الناس إليه طلباً للرزق. لهذا، جاءت رواية «حديث كاظمة» نسفًا للمقولات السريعة والضحلة عن هذه البلاد -سواء لدى أبنائها أو لدى القارئ خارج الكويت- مع ما استلزمه هذا النسف من تسريدٍ لتاريخ حافلٍ وثريٍّ، يُشكِّل في جوهره عُمقَ الهُويَّة وحقيقيتها. فليس معقولاً أن تكون هذه المساحة الجغرافية غيرَ مُتصلة تاريخيًّا بالمناطق المحيطة بها وبتراثها وأدبها وقيمها، سواء في العراق أو في الجزيرة العربية أو بحر العرب، بل لا بُدَّ –وفقاً لمنطق الجغرافيا والتاريخ معاً- أن تكون متصلةً بهذا التاريخ ومُتشكِّلة بفعله ومن ثقافته، أوَّلًا على المستوى اللغوي، ومن ثَمَّ الاجتماعيّ والثقافيّ المعرفيّ. بناء على ذلك، رواية «حديث كاظمة» انتصارٌ داخل الرواية للهُويَّة الكويتيَّة، وتأكيدٌ على جذورها الضاربة عُمقاً في التاريخ. لكن المفارقة اللافتة في الرواية هي أنَّ المخطوطة التي وجدها «فهد» ورفاقُه أثناء عمليات الحفر والتنقيب في مُتحف الكويت، قد سُرقت! وقد «مَيَّزَ المُحقِّقُ من كلامِهم المتداخل جملةَ: سُرِقَت المخطوطة»![11] في إشارة لمَّاحة وذكية من الروائيِّ إلى أنَّ روايته «حديث كاظمة» هي الوثيقة أو نسخة أصلية عن المخطوطة التي سُرِقت، فمن أراد أن يعرف تاريخ الكويت والهُويَّة الحقيقية لهذا البلد، فعليه أن يجدَ ذلك في رواية «حديث كاظمة». فالرواية بديلٌ حقيقيٌّ، بما تمتاز به من بنية حكائيّة ممتعةٍ وسلسةٍ، عن تاريخٍ مَنسيٍّ أو مُتناسى في أذهان الناس. المراجع: [1] د. فيصل عادل الوزان، حديث كاظمة، ذات السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع، الكويت، ط1، 2024. [2] حديث كاظمة، مرجع سابق، ص 11. [3] المرجع السابق، ص 27. [4] المرجع السابق، ص 31. [5] المرجع السابق، ص 77. [6] المرجع السابق، ص 99. [7] المرجع السابق، ص 115. [8] المرجع السابق، ص 123. [9] المرجع السابق، ص 219. [10] المرجع السابق، ص 235 [11] المرجع السابق، ص 9.