عن دار أروقة للطباعة والنشر والتوزيع بعمان صدر في مجلد أنيق كتاب الرقم على البردة، من تحقيق د. محمد عايش وتأليف شمس الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الصائغ النحوي. والكتاب المذكور ُيحقق ويطبع وينشر للمرة الأولى. ذلك لما لهذا المصنف من قيمة علمية وأدبية ولغوية، إذ يتضمن شرحا فريدا لبردة البوصيري(608- 695هـ) الموسومة بالكواكب الدرية في مدح خير البرية. معتمدا في تحقيقه على مخطوطات خمس، وأضاف إليها مخطوطتين قديمتين من البردة التي أعاد تحقيقها تحقيقا جديدًا في هذا الكتاب، يضاف لما هو متداول من تحقيقات. والبردة قصيدة معروفة، مشهورة، ولا تخفى على من لديهم الاهتمام بالمدائح النبوية، وبشعر التصوف. وسميت بالبردة لما ذكر من أن الشاعر رأى في منامه النبي، ومسح بيده على رأسه، وخلع عليه بردته. ولما أصبح، وجد نفسه قد شفي من المرض، وأبلى. وكانت حكاية مثل هذه الحكاية قد رُويت عن كعب بن زهير. فقد قيل : إن النبي(ص) بعد أن سمع كعبا في» بانت سعاد « خلع عليه بردته، وقد ظل آلُ أبي سلمى يفخرون بها، وبأن كعبا أول من خُلع عليه ببردة النبي، إلى أن ابتاعها منهم معاوية. وقد عورضت ميمية البوصيري في معارضات كثيرة، فأولها: أمنْ تَذكُّر جيرانٍ بذي سَلَمْ مزجْتَ دمعًا جرى مِنْ مُقْلةٍ بِدَمِ وهذه المعارضات تمثل تراكما ضخما من قصائد ُصنفت على أنها من المديح النبوي. وكان المنشدون ينشدونها في الموالد والمجالس والمناسبات الدينية، وحلقات التصوف، وحدها، أو مع الموسيقى. وتبعا لذلك عُني ابن الصائغ بشرح هذه البردة شرحا وافيا يتفتق لنا عن كل ملاحظة لطيفة، ويسفر عن كل بديعة ظريفة. ولكننا قبيل المضي في الحديث عن هذا الشرح وما فيه من أعاجيب جمة، ولفتات لغوية مهمّة، نود التوقف إزاء تحقيق الدكتور عايش. فهو لا يهجم على الكتاب هجوم(الغشيم) بصنعة التحقيق، بل هجوم من لديه الخبرة، والمَلَكَة، التي تجعل من جهوده جهودًا متميزة. فقد عرّفنا بادئ ذي بدء بصاحب الكواكب الدرية، مشيرا إلى مصادر ترجمته كالوافي بالوفيات للصفدي، وعقود الجمان للسيوطي، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب للعماد الحنبلي، ومسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، وغيرها من المصادر المعنية بتراجم الرجال. والمعروف أن البوصيري مصري المولد (608هـ) والنشأة، وإن كان صُنْهاجيّ الأصل، مغربي الأرومة. وقد اختص بمدح الوزير زين الدين يعقوب (656- 659) وفي حياته عانى من سوء الحال، وكثرة العيال، ففي ديوانه الذي حققه ونشره محمد سيد كيلاني في القاهرة أبياتٌ كثيرة يشكو فيها الفاقة. ويذم الزمان الذي أحوجه لهذه الشكاة. والأرجح أنه توفي في العام 695 وإن ذكر بعضهم أنه من وفيات 696هـ. وللمزيد من التعريف بالكواكب الدرّية يتناول المحقق في شيء من الإيجاز الحياة الأدبية والنقدية وموقع البردة منها في القرن السابع الهجري. وكان الأدب العربي، والتراث اللغوي بصفة عامة، قد شهد هذا اللون من الانشغال بأديب معين، أو بنص أدبي معين. فقد عني القدماء عناية كبيرة بالمعلقات، والحماسات، واعتنوا حينا من الدهر بشعر الغزلين من أمثال كثير وجميل وعمر بن أبي ربيعة وقيس، وغيرهم من عذريين، وإباحيين، واهتموا بشعر الطائيين أبي تمام والبحتري، وليس كتاب الآمدي « الموازنة « إلا واحدا من شواهد تلك المعارك الأدبية التي انقسم فيها الناس إلى متعصب لأبي تمام ومتعصب للبحتري. ودارت معركة أخرى في الحياة الأدبية بين من يفضلون المتنبي ومن يفضلون خصومه. وكان شعراءُ النقائض من جرير إلى الفرزدق، فإلى الأخطل، فإلى الراعي النميري، وغيرهم فرسان هذه الحلبات. والكواكب الدرية، كقصيدة بانت سعاد، شغلت المهتمين بالشعر عامة، وبالمديح النبوي خاصة. ولهذا لا نعجب إذا وجدنا الكواكب الدرية تستأثر بجهود النقاد، فضلا عن الشعراء، والشراح. يذكر المحقق الفاضل نقلا عن مؤلف « جامع الشروح والحواشي « أنّ عدد من شرحوا الكواكب الدرية يربو على السبعين شارحًا. أما من نظموا على منوالها المعارضات، والمشطرات، وما شابه ذلك وشاكله، فأضعاف هذا العدد. وحظيت البردة أيضا بعناية النَقَدَة، فمنهم من استوقفته المغالاة في المديح ومعانية، ومنهم من استوقفته الألفاظ المنتقاة، والأساليب، والتراكيب الغنية بالبيان، والثرية بالبديع. أي أن الجانب الفني استأثر بانتباه هذا الفريق، وهو الجانب الذي تتوارى فيه الأفكار والمعاني من الصدارة لصالح ما يُستحسَنُ من بديع النسج، وجمال التصوير. وهذا كله من معارضات ومن نقد معني بالجانب الفني الجمالي، قادا معا لظهور ما يعرف بالبديعيات. وهي مدائح نبوية يكثر فيها، ويغلب عليها البديع؛ من جناس، ومن طباق، ومن تكرار، ومن كنايات، وتوريات، ومن تقسيم، وترصيع، ومن أسجاع إلخ.. وممن برعوا في هذه البديعيات صفيّ الدين الحلي صاحب المعارضة التي أولها: إنْ جِئتَ سَلْعًا، فسلْ عنْ جيرةِ العَلمِ واقرا السلامَ على عُرْبٍ بذي سَلَمِ وعلى الرغم من كثرة الشرّاح، وكثرة مقلدي البردة، فلم يكن البوصيري في منأى عن سوء الفهم، فقد هوجم، واتّهم في دينه، وفي معتقده، مثلما اتهم المعري، وقبلهما الحلاج، وغيره. على أن اللافت للنظر، الجاذب للبصر، ما نشره المؤلف في الكتاب من صور لمخطوطتين قديمتين من الكواكب الدرية في مدح خير البرية. مع وصف لهما، ومن نشر للقصيدة في نحو10 صفحات من 63- 73 متنا وضبطا بالحركات، وشرحا للألفاظ الغريبة، وهي في ستين ومائة بيت. أولها البيت الذي ذكرناه آنفا وآخرها قوله: ما رنَّحتْ عذباتِ البانِ ريحُ صبا وأطْرَبَ العيسَ حادي العيسِ بالنَغَمِ وربَّ سائل يسأل: من هو ابن الصائغ مؤلف هذا الكتاب؟ وما هي هويته؟ وبماذا اشتهر وعُرف؟ وما هي مصنفاته، ومؤلفاته؟ وما هو آخر شأنه؟ متى ولد، ومتى توفاه الله؟يقول المحقق إن ابن الصائغ من أعلام الأدب في القرن الثامن الهجري، وهو أبرزهم بكلمة أدق. وأبعدهم ذكرا، وأوسعهم شهرة. ولد في القاهرة المحروسة سنة 714هـ وتتلمذ لغير قليل من شيوخ العصر كابن الجزري وابن المرحّل والقزويني والدبّوسي وأبي حيان الأندلسي وابن سيد الناس وصلاح الدين الصفدي . ومما تذكره المصادر أنه غادر المحروسة طلبا للعلم فانتجع حلقات الدرس في حلب، ثم في دمشق، قبل أن يعود ليتولى التدريس في جامع ابن طولون. وقد انتهى به الأمر لتقلد إدارة الفتيا بديوان العدل ولما توفاه الله في سنة 776هـ كان قد ترك لنا من المؤلفات نحو الخمسين بين كتاب ورسالة. من أكثرها قيمة إيضاح المسالك إلى ألفية ابن مالك، وتخليص التلخيص، وكتاب الرد على مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري. وكتاب الرقم على البردة، والرقم هو النقش ويقال: الكتاب المرقوم لأن الكتابة فيه تشبه النقوش من حيث هي رقش مصداقا لقول الشاعر: فالدار قفرٌ والرسومُ كما رقَّشَ في ظَهْر الأديمِ قَلَمْ وله كتابُ: الكشافُ عن غوامض الكشاف. وفيه يتعقب ما خالف فيه الزمخشري غيره من المفسرين. وله مطالع الشموس في وقائع الدروس. ومن المؤسف أن هذه التآليف تنتظر همم الباحثين والمحققين. وكعادة المحققين يصف لنا الدكتور عايش المخطوطات الخمس التي اعتمدها في التحقيق، متخذا من المخطوطة التي عثر عليها في الدار المصرية النسخة الأصل، فيما اتخذ من الأربع الآخرى فروعا يرجع إليها عند الحاجة. فنسخة فيض الله أفندي يرمز إليها بالحرف (ف) من كلمة فيض. والثانية التي عثر عليهها في مكتبة إسماعيل باشا في تركيا فعند الضرورة يرمز إليها بالحرف س من إسماعيل. والرابعة التي استخرجها من من مكتبة جامعة لايبزغ الألمانية فيرمز لها بالحرف - ل – وهو الأول من اسم الجامعةLibsig والأخيرة التي وجدها في الأحقاف فيرمز إليها بالحرف ح وهو أول حرف أصلي في أحقاف. ويتضح أن نسخة دار الكتب المصرية هي الأولى بالاعتماد، أماسائر النسخ فيستأنس بها عند التعثر بإشكالات في الضبط، او التصحيف، أو النقص، أو الطمس. أما الجهد الذي قام به المحقق في جعل المطبوع كفؤا لإفادة القارئ، ويسيرا على الفهم، والاستيعاب، بعيدا عن اللبس، فعدا عن أنه جهد كبير يصعب وصفه، فقد زاد على ضبط متن الكتاب: تخريج الأشعار من الدواوين، وتحديد الأعاريض والأوزان، وعزو النقول لمصادرها، والتعريف بالأعلام المغمورين، علاوة على هذا كله أضاف المحقق عددا من الفهارس التحليلية خدمة للقارئ فمنها فهرست الآيات، والأشعار، والأحاديث، وأسماء الأعلام، وعنوانات الكتب، وهذا جهد مضنٍ، جدير بالاستحسان. فإذا تركنا جهد المحقق إلى جهد المؤلف ابن الصائغ، وجدناه يشير في ديباجة الكتاب لشيء مما يشير إليه قدماء المؤلفين عادة، وهو القول بأن المؤلف يجيب في الكتاب عن سؤال أحد الأصحاب ممن يعز عليه ألا يجاب، والسؤال هو أن يضع له شرحا للبردة. ولأن البردة من الشعر الريق الرصين، وليس من الغث بل من السمين، فقد بادر للجواب، راجيا من الله تعالى حسن الثواب. يقول وسميته « الرقم على البردة «. وإذا نظرنا في طريقة المؤلف في الشرح وجدناه يذكر معاني الألفاظ، والأدوات، وما لها من علاقة بالمفاهيم النحوية، فالنحْو يغلب عليه. ويذكرنا بابن النحاس في شرح القصائد الطوال الموسومة بالمعلقات. يقول ابن الصائغ في شرح البيت الأول: الهمزة للاستفهام التقريري أو التعجبي. وتَذكُّر مقلوب ذكرت مصدره تَذَكُّر، والجيران جمع جار، مثل بيبان: جمع باب، ونيران: جمع نار، وقيعان: جمع قاع. والجار عند أبي حنيفة الملاصق، وعند الشافعي إلى أربعين دارًا. وذو سلم: مكان. قال في الصحاح: والسَلَمُ أيضًا شجرٌ، واحده سَلَمة. والمزج الخلط. وبعد هذا الشرح المجزأ ينتقل لذكر المعنى قائلا: أمَزجتَ دمعا جاريا من مقلة بدم من أجل تَذكُّر جيران بمكان كذا؟ ويعلق زاعما أن الشاعر بعد أن جرَّد من ذاته شخصا آخر يخاطبه، عاد في آخر البيت ليقول بدمي، فكأنه التفاتٌ من المخاطَب إلى المتكلِّم، كقول علقمة الفحل: طحا بك قلب في الحسان طروب. ثم قال بعده تكلفني ليلى وقد شطّ وليُها. وهذا ضربٌ من الشرح لا يختلف عن الشروح المعتادة التي نجدها في الدواوين، والمختارات، سواء تلك التي وضعها ابن السكيت أو ابن نحاس او ابن الأنباري أو المرزوقي أو التبريزي أوغيرهم من الشراح الذين لا يهتمون بالجانب الفني إلا نادرًا. ويظنون – وبعض الظن إثم- أنَّ المتلقي لا هم لديه سوى مراجعة المفاهيم الصرفية والنحوية، التي تظهر عادة في الشعر وكأنها قُصدت لذاتها، وهذا ضربٌ خاطئ من الظن. فهو ينطلق من النحو ومن الصرف ومن المعجم ومن الفقه- لا فقه اللغة- بدليل ذكره رأي أبي حنيفة والشافعي في الجار
الجنب. وقد غاب عن ابن الصائغ أن البوصيري في تساؤله يتساءل عما هومعروف بالحدس، لا بالعقل، وإنما أراد أن يستثير المتلقي بهذا الأسلوب. فالشاعر يُظهر تجاهلا فيما هو معروف، ولا يحتاج للأجوبة، كقول زهير: « أمن أم أوفى دمنة لم تكلم «. وكقول دريد ابن الصمة « أرثَّ جديد الحبل من أم معبد « وكقول امرئ لقيس « لمن طلل أبصرته فشجاني «. وآخر: «لمن الديار بقنة الحِجْرِ أقوين مذ حجَجٍ ومُذْ دهر» فهو كغيره من الشراح يكثر من الشواهد والأمثلة، فتارة من القرآن، وطورا من الحديث، والأمثال المأثورة، ومن الشعر. لذا لا يجد القارئ الممحِّص في هذا الشرح شيئا جديدًا، أو علامة فارقة تميزه عن الشروح المعتادة، إلا من لفتات لطيفة، وإشارات ظريفة لبعض الألقاب البيانية، وبعض البديع، والقياس النحوي، أو الصرفي، أو الرجوع لمعاجم اللغة. والمغانم التي تنم على الجودة في هذا الكتاب، هي مغانم التحقيق، والجهد الذي بذله الدكتور محمد عايش، وإلا فالكتاب كغيره من الشروح التي توصفُ، في أكثر الأحيان، بالشروح التقليدية التعليمية، لا أكثر.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-05-2024 09:07 مساء
الزوار: 188 التعليقات: 0