في مواويله التي ترددت على دروب الغربة (1973) ومتاهات الوحشة، هيمنت على شعر لافي مشاعر الوحدة، والعزلة، واكتست الطبيعة في رؤاه بالمظهر الخريفي الحزين، وأحلامه، وخيالاته طغى عليها الفرار من الواقع، والتحليق فيما وراء الغيم، حيث ينابيع الكوثر الخمري المذاق، فيعب منه عبا يشعره بأنه في دنيا غير الدنيا التي فيها يعيش، وعلى ترابها يدبُّ ويسعى، فهو يتطلع للانبعاث من الموات في الحياة، والخروج من العالم السفلي إلى آخر علوي:
وتبني لي هناك بظله قصرا
تحف به جنان الخلدْ
مياه الكوثر الخمرية السكرى
تروّيني وتقتل في شراييني
دماء العالم السفلي
تحييني
فأبْعث مرة أخرى
وكأيّ شاعر رومانسي يصف حبه، وعشقه، بالجنون، ويشبّه هواه بعشق الندى للزهر، وهو بذلك كالراعي الذي لا يفارقه الناي، ولا يفتأ يملأ سمْعَ العالم، وخلدهُ، بغنائه الشجي، ومزماره الذي يفيضُ بالشجَن:
على الجسرين أنتظرُ
معي شبابتي الغناء والقمرُ
معي الأحلامُ والصورُ
معي المطرُ
معي الخمرُ
على كفيَّ باقة وردْ
وأنتظرُ
وقد شاب موقفه الوطني شيءٌ من الرومانسية، فيخاطب الأم خلف النهر، مازجا بين الغربة، والحنين للديار، وحنو الأمومة، في رؤية ضبابية لعلاقته هو بالعالم. فهو لاجئ يبكي، لكن هذا البكاء، وما يذرفه من دموع، لا يحجب رؤيته المتفائلة بالعودة، والخلاص من دوائر الحنين، ومتاهات النفي:
أماه إن فاضت عيوني بالدموع
وبطاقتي حملت إشارة لاجئٍ
أو ربما
لكن فديتك، لا تهوني
فغدًا أعود مع الربيع،
مع كل زهرة ياسمين
فترقَّبيني
واقع الحال أن ذكر الربيع، وذكر الياسمين، وذكر الترقب، والعودة غدا، إشاراتٌ توحي بالتحول الذي شهدناه في بعض تلك المواويل التي غناها على الدروب. إذ تتخللها كلمات كالغضب، والخيول التي هدها القتال، وأزرى بها الصهيل. والمقاومة، والرفض، وتخليه عن الرؤى التي تتسم بالحنين البائس، والتوق المنتهي بخيبة المسعى. وهذا بيِّن واضحٌ في بعض قصائد «الانحدار من كهف الرقيم» 1975 فقد تطرقت كلمات الشاعر للسجون، وللجلاد، وللطبقة التي ينتمي لها المتكلم وينتسب (انظر كتابنا: من الشعر الحديث والمعاصر، ورد الأردنية، عمان، 2009 ص 111). وهي على أيّ حال طبقة كادحة، مهمشة، ومسحوقة. ولا يمل في القصائد الحديث عن المعاناة، والرفض، لا بمعناه المطلق، بل بالمعنى السياسي الذي يعني فيما يعنيه الثورة:
أنا من أجل العيون السود
أحببتُ المشاوير الطويلة
واشتهيت الرفض يوما في حياتي
علني أثبت ذاتي
علميني الثورة الكبرى على شيخ القبيلة
ففي هذ الاقتباس يبدو الشاعر وقد أدار ظهره لذلك الحنين الرومانسي، وبدأ يجنح للرمز؛ فالمرأة التي تتصف بسواد العينين - ها هنا - ليست كتلك التي تغنى بها غناء مجنون في المواويل؛ فهي تختلط لديه بالمشاوير الطويلة، وبالرفض، وتوكيد الذات عن طريق الثورة على من يرون في نفوسهم شيوخًا وفي الآخرين عبيدًا. أي أن معجم الشاعر تحول من الدموع، والبكاء، والمعاناة من الغربة، واللجوء في المنافي؛ إلى الرفض والثورة، وإلى التمرد على السجن، وعلى السجان، والتصدي للغزاة القادمين من حيث لا نعرف:
من بلاد الضباب أتوا
نحن نعرف كيف نرُدّ الخيول
وأن الجبال تقاتل معْ أهلها والسهول
نحن من جسد الأرض.. لا..
لن يكون الرحيل
فالمتكلم، الذي شكا في مواويله اللجوء، يعلن الآن في «الانحدار من كهف الرقيم» الصمود، ويأبى اللجوء، أو النزوح، تاركا البلاد الأخرى كلها وراءه، متشبثا بالرجوع إلى الوطن... وهذا يتعمق بصورة مبهرة في ديوانه الثالث «نقوش الولد الضال» (1990) فذات العينين السوداوين التي خاطبها يوما لم يعد متمسكا بعلاقته بها، إذ أصبح طائر الشهادة يفرق بينهما، وتعجل العودة للوطن على طريق معبّدة بالنضال، مصطبغة بدم الشهداء، هو ما يشغل المتكلم، ويملأ عالمه بذكرياته عن الرفاق الذين قضوا في القتال:
بيني وبينك طائرٌ
في دورة الشهداء لم يكمل نشيده
بيني وبينك وردة
تقتات من دمنا وتطفئها الجريدة
بيني وبينك أننا نسترجع القتلى
ونرفع في خراب العمر سارية
وعاصمة وليدة
وفي الوقت الذي يمثل فيه « نقوش الولد الضال1990» خطوة باتجاه رؤية شعرية مقاومة على المستوى الإيديولوجي، نجده يمثل بالدرجة ذاتها تحولا نحو قصيدة جديدة الأسلوب، والبناء، والصورة، قصيدة تجنح للتكثيف، والقصر (انظر كتابنا: حاضر الشعر وتحولات القصيدة، دار الآن، عمان، 2016، ص 159). معتمدا فيها على المفارقة تارة، وعلى السخرية والتهكم تارة أخرى، مواصلا ما كان قد ابتدأه مريد البرغوثي في «قصائد رصيف».(1980) ففي إحدى قصائده القصيرة يضخم الشاعر إحساسه المفعم بالألم، المترع إلى حافته بالمعاناة:
وتجرْجر الأقدام من مقهى إلى مقهى
ويحذفك الذي يسوى ولا يسوى
ولا سندُ
ويسيل خطوك في شوارعها وتعوي
آآآآآآخ يا بلدُ
ففي هذه القصيدة خمسة أبيات لا أكثر، لكنها تتضمَّن من دلالات الألم، والشعور بالاستلاب، والتوجع مما آل إليه الإنسان الفلسطيني في منفاه، الشيء الكثير الجم، حيث المقاهي تتقاذفه تقاذف الكرة بين اقدام اللاعبين، وحيث يزدريه الآخرون، منهم من هو ذو قيمة، ومنهم من لا قيمة له، مستخدمًا هذا التركيب العامي (اللي بسوا واللي ما بسوا) منتهيًا بهذه الصرخة آآآآخ يا بلدُ!! فهي قصيدة تقول الكثير بكلمات قليلة جدًا. ومن هذا القبيل ما غلب على قصائده في الديوان « مقفى بالرماة « 1993 ففي كل قصيدة منه ثمة مفارقة ساخرة، فبعد عشرين عاما من مغادرته المدينة عاد إليها فألفاها على ما كانت عليه، لا تغيير يذكر، وأجهزة القمع هي هي.. فكيف عبرت القصيدة عن هذا الموقف العبثي؟ يقول في قصيدة من ستة أبيات:
بدّلتْ كلَّ شيء
غيرَ حراسها
فكأنيَ غادرتها ليلَ أمس
ولهذا أطوفُ شوارعها
مثل بقيّة سكانها
دون رأس
وقد طبعت قصائده في «أفتح بابا للغزالة» (1996) بهذا الطابع. إلا أنه زاد على ما تقدم الجنوح للعناية بالموسيقى الشعرية، معتمدًا على التكرار الذي يبرز في البدايات كلازمة تضيف للقصيدة القصيرة مزيدا من التوازن الصوتي القائم على التجنيس، والطباق، منتفعًا مما فيهما من انسجام تارة، وتنافر تارة أخرى:
بياضٌ على الشرفات
بياضٌ على الأغنيات
بياضٌ على الطرقات
بياضٌ على كل من رحلوا
وبياضٌ على كل من قدموا للحياة
إلى أين تسرقنا من يدينا الجهات؟
فهذه القصيدة، وإن كانت قصيرة، إلا أنها لا تخلو من جماليات لا نجدها في غير القصيدة القصيرة؛ فتكراره (بياضٌ على) عدا عن كونه إلحاحا يؤثر في المتلقي، أشاع في القصيدة القصيرة لحنًا أو نغمًا متكررًا لافتا للأسماع. وتكراره لكلمات: طرقات، شرفات، أغنيات، زاد من قوة الإيقاع وأشاع تجانسًا بين الأصوات اللغوية بتكراره الصائت الطويل في مواقع متتابعة على نحو فيه ترتيب لافتٌ للنظر (للمزيد انظر كتابنا: الغاوون شجون الشعر وسحر الموسيقى، ط1، دار الخليج، عمان، 2023 ص 149 – 158). وقد خالف هذا النسق بكلمة (رحلوا) التي جاءت بعدها (قدموا) وهذا الطباق عبر عن تحول دلالي في القصيدة، وآذن بقرب الانتهاء من النصّ بمفارقة تتضمن تعبيرًا متناقضًا، وهو (تسرقنا من يديْنا) وهذا يشبه قول القائل: (وداوني بالتي كانت هي الداء) أو (وأخرى تداويت منها بها) فأن يقتصر القول على (تسرقنا) لا مفارقة فيه، لكنه بقوله من يدينا، فهذا هو التناقض الذي يسخر فيه الشاعر ويتهكم من هذا الهوان الذي بلغه المتكلم، ومن معه، نتيجة التراجع عن المقاومة، والشعور المطلق بالخذلان. وقد تزايد اعتماد الشاعر على التكثيف، والمفارقة، ففي إحدى قصائد « لم يعد درج العمر أخضر» (2005) صورة متخيلة لعدد من الشهداء يأتون في الحلم بأعداد كبيرة، كلٌ منهم يفخر باستشهاده، معدِّدًا فضائل الشهادة في سبيل الوطن، وما سيجده من مواقع أثيرة في جنة الفردوس، ليكتشف المتكلمُ في القصيدة – وهو، ها هنا، بلا ريب، قناع الشاعر، وقناع كل فلسطيني لم يستشهد بعد - أنه وحدَهُ الميت، وهم أحياء عند ربهم يرزقون:
هذي الليلة يأتون
من كل مقابرهم يأتون
لا يسعهم هذا البيت
يصفون مقاتلهم
يحتفلون بأسماء الرفض
ويجترحون منازلهم عند الله
وينكسر الصمت
كيما أدرك عند صياح الديك
أني وحدي بينهم الميْت.
وقد اكتشف الشاعر لافي، بعد التخاذل الذي أصاب الثورة، والتراجع الذي تحول بمقتضاه الفدائي إلى بائع متجوّل، والثائر إلى مُفاوض، والمتشوف للعودة إلى متنازل عن الحقوق، وعن البيوت، أن بعض المتساقطين يتيه متبجّحًا بما يحققه عن طريق التنسيق الأمني، الذي لا يعدو في نظر المتكلم في قصيدة (ثغاء) تحويل المقاومين لقطيع، ولغتهُم إلى ثغاء:
لم تسمعوني جيدا
لم تقرعوا الأجراس مثلي
لم ترَوْا شواهد القبور
في كل ليلة تنزاح عن سكانها
ولم ترَوْا راياتها تكاتب النسور
تشقُّ زرقة السماء
لأنكم من أول اليوم إلى آخره
مُسْترسلونَ في الثغاء
ويتابع الشاعر في مجموعته «ويقول الرصيف 2010» (انظر الدستور الثقافي 17/ 9/ 2010)، ما ابتدأه في «نقوش الولد الضال»، و»لم يعد درج العمر أخضر»، وغيرهما من دواوين، كتابة القصيدة القصيرة، التي تقوم، أساسًا على المفارقة الساخرة، والتهكم اللاذع. فما القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها، إلا تعبيرٌ عن تهميش هذه الأمة في هذا الزمن الذي بات فيه الكلام المنطلق من الأبواق الرسمية خاليًا من أيّ مصداقية، فيما ينهض الرصيف نفسه بالدور المعاكس، مؤكدًا أنه هو الشاهد الوحيد، شاهدٌ عن دراية، وخبرة، كافيين، لا يعترف بالتفاوت، ولا الفارق المزعوم بين سيد ومسود، وبين قائد وقطيع مقود. ففي عصر الهزائم لا موضع للاختلاف، أو التباين:
«كلنا في العراء سواء:
لا شموخ ولا كبرياءْ»
وهذه السخرية تحيل القصائد القصيرة، في الديوان، إلى لقطات، أو ومضات شعرية خاطفة، فالزعيم، في قصيدة «مسؤول ثوري»، نموذج للقادة الانتهازيين، الذين برزوا على نحو غامض، مفاجئ، لا يُعْرف من أين جاؤوا، ولا من هم آباؤهم، ولا من أين هم، وهذه الأسئلة تدوي، جميعاً في رأس المتكلم، دون أن تجد الإجابات. ومع ذلك يحلو، لأولئك الانتهازيين، أن يحتكروا الجلوس على مقاعد القيادة: كبر التنظيم، أم صغر. ولأنهم لا يعترفون بالأخطاء التي يرتكبون، يتشبثون بهاتيك الكراسي، كأن الله لم يخلق لتلك القيادة سواهم من بني الناس:
«والليل، والمنشور، والجحيم،
سيكبر التنظيم،
ويصغر التنظيم،
وفي كلا الحالين
يبقى قائدًا
قائدهُ العظيم.»
فالزمن ـ بلا ريب ـ هو زمنُ هؤلاء المتشبثين بالمناصب، الممسكين بالكراسي إلى آخر رمق، مع أن جُلّ الحقائق تؤكد لهم، ولغيرهم، صباحًا ومساءً، وليلا نهارًا، أنهم لا يصلحون لهذه المواقع، بل وجودهم فيها عار على الشعب الذي يزعمون أنهم قادته، وأنهم يعملون لتحقيق مصالحه، في ادعاءات يمارسون من خلفها ضروب الفساد المستَشْنع، والثراء الفاحش غير المشروع. وتمثل المجموعة الشعرية (غيم على قافية الوحيد) 2024 توكيدا مستمرا لسعي الشاعر نحو كتابة شعرية جديدة. فأول ما يلاحظ على هذه المجموعة توافر النصوص القصيرة فيها توافرا لافتا للنظر، وتكرار المفارقة في نهاية كل نص منها، فكأن الشاعر توصل إلى نتيجة هي أن شعرية المفارقة تغني عن التفاصيل التي تفتقر إليها القصيدة القصيرة، ففي نموذج من قصاره يقول:
من أين يجيء الحزن إلي؟
وأنا أحيا عال العال
ولا مشكلة لديّ
في هذا الوطن العربيّ سوى
أني أتراسل مع زمن
فيه القوّادُ... نبي!!
فعلى الرغم من قصرها لم تفارقه السخرية، ولا التهكم، في تعبيره المتناقض عن (القواد) الذي يحسب نفسه أو يحسبه الناس في منزلة النبي. وهذا النموذج من الناس للأسف غدا كثيرًا كثرة لا قبل لنا بإنكارها، فالفاسدون، والقتلة، والعملاء الخونة، يضعون أنفسهم على مواقعهم الإعلامية في رتبة القادة العظام، والأنبياء المعصومين، والعياذ بالله. والأنكى من ذلك، والأمرُّ، أن بعض الناس يُخدعون، فيظنون هؤلاء السماسرة قادة نموذجيين أين منهم النبي؟! وهو، علاوة على هذا المحتوى الساخر، لم تفارقه عادة الحرص على الجرس الموسيقي في القصيدة. فإلى جانب التقفية في إليّ ولديّ ونبيّ، نجده يوظف هذا التركيب الشائع في العاميات (عال العال) والتركيب الشائع في غير العاميات: لا مشكلة لدي. والتضاد اللفظي في قواد، ونبي، مما يغني النص القصير بالموسيقى، وهو غَناءٌ يحاول أن يكون بديلا لشعرية التفاصيل في المطول من الشعر. ويكثف في قصيدة قصيرة أخرى ما نحن فيه من تناقض:
أيهذي الجموع
اليمين الذي باع
واليسار الذي باع
أو سيبيع
كلهم.. كلهم يغمدون حناجرهم
في رقاب.. القطيع!!
ففي كلمات محدودة أعلن الشاعر عن رؤيته لما نحن فيه: اليمين باعنا، وكذلك اليسار، منه من باع وقبض الثمن، ومنه من هو على وشك البيع، فهو يساوم، أو يفاوض، في سبيل ثمن أعلى، وأما الجموع، أو المخدوعون، فلا يشعرون بهذا، مثل قطيع الخراف الذي يتسلى بالنظر للجزار، وهو يتابع ذبح أفراد القطيع، واحدًا تلو الآخر. واللافت أنّ الشاعر وازَنَ بين الألفاظ: يمين ويسار، وباع ويبيع، وجموع وقطيع، مكررًا الصامت الحلقي الذي يصحبه إحساس ما في الحلق، كأنه يضيقُ بها متوجعًا، وتكراره كلهم مرتين في موقع واحد يدعو للتنبيه على ما يبديه المتكلم في القصيدة من تحذير، فإن كنتم في شك مما نقول، نؤكد ذلك بتكرار كلهم، لا نستثني منهم أحدًا. ومن هذه الأمثلة يتضح أن الشاعر محمد إبراهيم لافي أصبح لصيقا، ومعروفا بهذا اللون من الشعر، وبهذا الأسلوب الذي يجمع بين البساطة، والعمق، وبين الإيجاز غير المخل، وثراء المعنى. بين الصوت الذي لا يفتقر للترديد والتوكيد، وبين العزوف عن المحاكاة والتقليد، طلبًا لما هو مبتكرٌ وجديد. بين المفارقة، والتهكم، ولو وُضعتْ قصيدةٌ من قصائده هذه في ديوان شاعر آخر لعرفها المتابعون، وميزوها عن غيرها، مثلما يميزون سبك أبي نواس في شعره عن سبك أبي العتاهية، ونظم المتنبي عن نظْم غيره.