|
د. سهام الخفش تسلّط رواية «حكي القرايا» للكاتب والروائيّ الأردنيّ رمضان الرواشدة الضوء على حياة العشائر في جنوب الأردنّ خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث كانت العشائر تعيش في ظلّ واقع صعب من الحروب والنزاعات والغزو المستمرّ، من قبل الجماعات المجاورة. تبدأ الرواية بشخصيّة منصور الأعمى، الّذي كان مرتبطاً بأرضه، يرى في محاصيلها مصدراً لحياته وأمله في الزواج، لكنّ حياته لم تكن مجرّد زراعة وكفاح من أجل لقمة العيش، بل كان أيضاً ابناً لرجل عرف بالإصلاح بين الناس، ممّا يعكس أهمّيّة العرف والعادات في حلّ النزاعات. يبرز الكاتب دور الإصلاح بين العشائر، ويجسّد كيف كانت القيم العشائريّة مثل الكرم والشهامة والوفاء والصلح بين المتخاصمين حجر الأساس في تماسك المجتمع. غير أنّ حياتهم لم تكن هادئة دائماً، حيث كان الصراع والغزو جزءاً من طبيعة الحياة، لا سيّما في ظلّ غياب الدولة العثمانيّة المركزيّة وانعدام الأمن، خاصّة مع ضعف الدولة العثمانيّة الّتي عرفت في أواخر عهدها بـ»الرجل المريض». أحد الأحداث المحوريّة في الرواية هو اجتياح إبراهيم باشا المصريّ لجنوب الأردنّ عام 1834، حيث تجتمع العشائر لمواجهة الخطر القادم، ويظهر الكاتب كيف كانت العشائر في تلك الحقبة تعتمد على الحلفاء والروابط العشائريّة للدفاع عن أراضيها، في حين كان النهب والسلب سائداً نتيجة ضعف الأمن. كما يشير الكاتب إلى ما يعرف بـ»حلف القرايا»، عندما هاجم المناعسة إحدى القرى، وكيف أدار اللعبة أبو حمرا من خلال إشعال النيران في القلعة كإشارة إلى طلب الفزعة من العشائر الأخرى، ممّا يعكس تقاليد الاستغاثة والمساندة في أوقات الحرب. لا يغفل الكاتب دور المرأة في تلك الحقبة، حيث يشير إلى قوّة الشيخة علياء الضمور الّتي رفضت تسليم قاسم الأحمد، قائد ثورة الفلّاحين في فلسطين، إلى الجيش العثمانيّ، رغم الضغوط الكبيرة. كما تجسّد الرواية حضور المرأة في تسميات العشائر، مثل أخوات وضحاً، وأخوات عليا وشومة ، ممّا يدلّ على أنّ المرأة كانت ذات تأثير كبير في المجتمع، سواء من خلال نسبتها إلى القبيلة أو مشاركتها في الأحداث المصيريّة. يقدّم الكاتب صورة حيّة عن الحياة داخل القلعة، المكان المركزيّ في الرواية، بما في ذلك أفراح العشائر وأغاني النساء الّتي كانت تعكس البهجة والفرح، كما يصف تفاصيل فطور العرسان الّذي كان يتكوّن من المعلاق والشنينة، ممّا يعكس العادات الغذائيّة حينئذ. يبرز الكاتب مفهوم الثأر كجزء لا يتجزّأ من ثقافة العشائر، وقتئذ، ويتجسّد ذلك عندما يقتل منصور الأعمى بعد قيامه بمهمّة إصلاح بين قبيلتين، حيث يرتدي أبناؤه الشماغ بالمقلوب في إشارة إلى طلب الثأر، ثمّ يهاجمون قبيلة الدعجان مع التأكيد على الأعراف القبليّة، مثل عدم قتل النساء والشيوخ أو قطع الأشجار، ممّا يعكس احترام القبائل لقيم أخلاقيّة حتّى في أثناء الحرب. تتطرّق الرواية إلى موقف العشائر من الدولة العثمانيّة، حيث رفض الشيخ راشد طلب الأتراك بالمساهمة في مدّ سكّة الحديد الحجازيّة وتقديم الحبوب والمواشي للجيش، ممّا أدّى إلى صدّام مع القوّات العثمانيّة. وعندما اعتدى الجنود الأتراك على نساء القبيلة في أثناء جلبهنّ الماء، اندلع القتال وبدأت مرحلة جديدة من العصيان، لتتطوّر لاحقاً إلى ثورة ضدّ الأتراك. ومع ضعف الدولة العثمانيّة وتزايد الاضطهاد، تتصاعد الثورات، إلى أن تصل الأحداث إلى مرحلة الثورة العربيّة الكبرى، حيث يلبّي شيوخ العشائر نداء الشريف حسين بن عليّ، ويزحفون نحو معان، في مشهد يعكس وحدة العشائر الأردنيّة وموقفها الحاسم في دعم الثورة. تميّز أسلوب الكاتب رمضان الرواشدة بالسرد التاريخيّ القائم على المرويّ الشفويّ والاستناد إلى أحداث حقيقيّة، حيث استطاع أن ينقل للقارئ تفاصيل الحياة اليوميّة في جنوب الأردنّ خلال تلك الفترة، من خلال تصوير دقيق للعادات والتقاليد، والحروب، والأفراح، والولائم، والنزاعات. كما تميّز أسلوبه بالسلاسة والبساطة، ما جعل الرواية أشبه بحكايات السامر الّتي تروى في المجالس البدويّة، ممّا يعزّز الإحساس بالأصالة والانتماء. رواية «حكي القرايا»، ليست مجرّد عمل أدبيّ، بل هي وثيقة تاريخيّة تعكس واقع العشائر الأردنيّة في حقبة زمنيّة مضطربة، حيث عاشت بين الكفاح اليوميّ من أجل البقاء، والصراعات القبليّة، والغزو الخارجيّ، حتّى وصلت إلى مرحلة التمرّد ضدّ العثمانيّين والانخراط في الثورة العربيّة الكبرى. إنّها قصّة شعب واجه التحدّيات، ورفض الذلّ، وتمسّك بقيمه حتّى صنع تاريخه بنفسه. جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 22-02-2025 08:01 مساء
الزوار: 217 التعليقات: 0
table border="0" width="100%"> | ||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
ملاحظات حول رواية بعض الحب إثم للروائي ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 30-05-2025 |
رواية "حقل ألغام" لبراءة ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | السبت 17-05-2025 |
رواية معزوفة اليوم السابع لجلال برجس.. ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | السبت 17-05-2025 |
رمزية العنوان في رواية فاطمة: حكاية ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | السبت 17-05-2025 |
لمحة عن رواية «مهيرة» للدكتور عمر عبد ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 09-05-2025 |
تجليات البعد النفسي في رواية «جرائم ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الخميس 24-04-2025 |
رواية الباشادور لحسن اوريد.. الماضي طريق ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الإثنين 21-04-2025 |
السرد وحتمية الثورة في رواية في قلبي ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 18-04-2025 |
«معارضة الغريب»: عندما تتحول الرواية إلى ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 04-04-2025 |
قراءة في رواية «ظل الطريق» للروائي يوسف ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 28-03-2025 |
تقنيات السرد في رواية أحمد كايد «شاطئ ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 07-03-2025 |
رؤيا في رواية «البحر الأسود المتوسط» ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الثلاثاء 10-12-2024 |
رحلتان صوفيتان في روايتي يحيى القيسي ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 06-12-2024 |
المكان الفلسطيني في رواية «لقاء البحر» ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 15-11-2024 |
الواقعيّة التاريخيّةّ في رواية (حكي ... | النقد والتحليل الادبي | مراقبة التحرير والنشر | 0 | الجمعة 25-10-2024 |
|
|
|