|
عرار:
فضاء الإبداع خلق الدهشة من أمر مألوف، وهذا ما نراه أو نحسّهُ أو نسمعهُ، فالأم مثلاً تصنع لطفلها من خيطان أو أسلاك أو عيدان ثقاب أو قطع ممزقة من الثياب أشكالاً تبعث فيه الدهشة، والرسامُ من لون واحد أو عدة ألوان قد يبعث فينا الدهشة، وكذلك الموسيقي من خلال آلة صغيرة قادر على بعث هذه الدهشة في نفس السامع، والكاتب بحروف محفوظة غيباً يضعنا أمام سلم الدهشة، والرياضي والفلاح وسائق الدراجة ومدرّب الحيوانات الأليفة والمفترسة، كلٌّ من هؤلاء لديه لغتُهُ في الإبداع. أحببتُ أن ابدأ بالمألوف من حياتنا، والبسيط من الأدوات لأقول إن الإبداع رهنٌ بمَلَكةِ المبدع أياً كانت الأدوات، وأنا هُنا لا أقيّد الإبداع بالكتابة فقط كما هو متبّع عند الدارسين، ولا اقيّد المنتج الإبداعي بالطول والقصر، والاتساع والضيق، والكثرة والقلة بل بما يبعثه في النفس البشرية من دهشة من أمر مألوف. لم أقف يوماً أمام منتج إبداعي كتابي موقفاً استباقياً بالرفض أو القبول، بل كنتُ وما زلت محكوماً للدهشة في المنتج ذاته، وحكمي يتسع أو ينحسر حسب ما يبعثه فيَّ من دهشة بغض النظر عن جنس المنتج قصة، رواية، مسرحية، خاطرة، أو أي اسم تراهُ مناسباً للنص، من هنا فأنا أقول إن النص الكتابي يحمل بذرة إبداعه مما يملكه من دهشة مستساغة. الإبداع الكتابي ابن بيئته وثقافة مبدعه، وهو لا يحتاج إلى شروط التجنيس والمسميات التي أصبحت عند القُرّاء قوالب دون روح أرهقه بها النقاد بانحيازهم إلى مسميات غير قابلة للتعديل أو التطوير أو التحوير، ومن هنا نرى النقاد وقد شنوا حملات التجريح لكل ما هو جديد من أنواع الكتابة بغض النظر عن ما يحمله النص من دهشة مستساغة، وأرى أن المشكلة لا تكمن في النص بل في النقاد أنفسهم لأنهم مرتهنون ومنحازون لقوالب أجناس أدبية ألفوها من شعر ورواية ومسرحية .. ألخ وما التفتوا إلى جودة النص بل إلى جنس العمل، ورغم ذلك فقد فرض شعر التفعيلة نفسه على المنتج الإبداعي، وجاء بعده الشعر المنثور أو كما أطلق عليها بول شاؤول قصيدة النثر، وظهر أخيراً جنس جديد من الأدب كما أطلقوا عليه وهو القصة القصيرة جداً، وغداً ستظهر المسرحية القصيرة جداً، وقصيدة البيت الواحد كما تمناها بشار بن برد قبل أكثر من ألف سنة، من هنا نعرف أن المبدع متمرد على القوالب والقيود والمسميات، وهذه السمة ليست بجديدة على الأدب العربي، فقد تجاوز بعض شعراء العرب قديماً بحور الفراهيدي وكتبوا قصائدهم خارج موسيقاه، وكانت قصيدة البيتين والثلاثة أبيات كما جاء في كتابي «المفضليات» و»الشعر والشعراء» وغيرهما من الكتب، ووجدوا في قول الحكمة والمثل ضالتهم في التكثيف والاختصار، والنقاد عندنا ما زالوا يجلدون النص الشعري بسوط موسيقى الخليل، وما زلنا نؤطر للجنس الأدبي قواعده ومستلزماته وشروطه، ونعيب كل من لا يلتزم بهذه الشروط ، ونسينا في حملتنا النقدية شرطاً مهماً هو الدهشة في العمل الأدبي، فكانت ألفية مالك عندهم شعراً وهي ليست كذلك كما يعرف الدارسون مع أنها ملتزمة بقواعد الشعر وموسيقاه، والسبب غياب الشعرية التي تخلق روح الدهشة. القصة القصيرة جداً هي عمل إبداعي كتابي إذا سكنته الدهشة، وهي فن حديث الولادة وأول من غامر بنشر منتجه الأدبي الذي يحمل الاسم ذاته هو الكاتب المبدع محمود شقير وذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ثم نشر بعد ذلك بعشر سنوات مجموعة قصصية ضمّنها قصصاً قصيرة جداً جداً لا تتجاوز السطرين مثل قصة الطاحونة وقصة الزفاف وغيرهما، وجاء بعده كتاب من سوريا نشروا في مجلة الموقف الأدبي قصصاً تحمل عنوان «ق . ق . ج»، وما زلنا نقرأ لكتاب عرب هذا الجنس الأدبي الذي امتلك حضوراً متميزاً. من المعروف عندنا أن شعر التفعيلة قد بدأ الكتابة فيه بدر شاكر السياب ونازك الملائكة رغم أن الشاعر الجاهلي رُزين العروضي قد كتب بعض أشعاره التي تنتمي إلى شعر التفعيلة دون أن يلتفت إليه أحد من الدارسين وكتب بعض شعراء الأندلس أيضاً هذا النوع من الشعر، وهنا أريد أن أؤكد ما قلته سابقاً إن المبدع الحقيقي لا يلتفت إلى نماذج وشروط ليكتب عمله الإبداعي، ولو ظل المبدع أسيراً لما وَصًلنا من السابقين لكنا اليوم لا نعرف سوى الشعر العمودي، ولم نصل في كتاباتنا النثرية إلى الرواية والمسرحية وبقينا ملتحفين بالمقامات مثل مقامات الحريري وبالسِّير مثل سيرتي جساس وعنترة. جريدة الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 09-06-2017 11:25 مساء
الزوار: 618 التعليقات: 0
|