عرار:

إذا كان المقدَّسُ ـ في تجليّاته ـ الجذرَ المؤسِّسَ للعالم أنطولوجيًّا، بوصفِ القدرةِ المقدّسة معادلًا للحقيقةِ والدّيمومةِ والفاعليّةِ(1)؛ فإنّ المساسَ أو الإخلالَ ببنياته المعرفيّة المؤسِّسَةِ لحضوره، يمثّلُ خرقًا للسّائد المُهيمن وإزاحةً لأدوارِه الوظيفيّةِ من جهة، وجُرْحًا نرجسيًّا لمُتمثِّلي خِطابه المُعمَّى منْ جهةٍ أخرى، ما يوجبُ نقمةَ المؤسسةِ المقدّسةِ أسطوريًّا ودينيًّا بالإلغاءِ والإقصاءِ والشّطبِ؛ إنّه جوهرُ الخطابِ الميثيولوجيِّ في رؤيتِه السّحريّةِ والأسطوريّةِ للعالمِ، الذي تأسّس على منظومةٍ عرفانيّةٍ، كفلسفةٍ كاشفةٍ لآليات مبدأ عمل الخليقة(2)؛ لتُعلَنَ هزيمةُ العقلِ أمامَ فاعليّةِ الدّينيّ والأسطوريّ ووحشيتِه.
      وفقَ هذا المنظور، تجري مدوّنةُ مخلد بركات السّرديّةُ «رُباعيّات الفردوس»(3) حفرياتِها المعرفيَّةَ في جيولوجيا الميثولوجيّاتِ القارّة في المُتخيَّلِ الذّهنيِّ البشريّ، بوصفها ممارسةً كتابيّةً إبداعيَّةً أخرى، تُكتَب بتقنياتٍ أسلوبيَّةٍ متعدّدة: تكثيفًا، وترميزًا، وتمطيطًا، وتماثلًا، وتعارضًا، لبِنْيات الأساطيرِ المؤسّسة لثيمةِ الفردوس ومقابلاته معَ إزاحاتٍ مقصودةٍ للأفعال والشّخوص والحوارات والأمكنة وفقَ مبدأ «التّضايف النّصيِّ»؛ لخلقِ فضاءٍ أسطوريٍّ سرديٍّ مغايرٍ لمتن الأساطير المؤسِّسة المتنوّعة، ولا تَتشكَّل مدونةُ رباعيّات الفردوس السّرديَّةُ بصفتِها مرادفًا أو تعليقًا أو توظيفًا للبِنى الأسطوريَّةِ المُستضافة من ثقافاتٍ وجغرافياتٍ متنوّعة، بلْ تنبني وتتشكّل سرديًّا وفلسفيًّا على أنّها نصٌّ موازٍ أسُّهُ التَّضادُّ.
فلسفةُ العنوان:
     يتشكَّل العنوان «رُباعيات الفردوس / متوالية قصصيّة» على تضايفِ حقلينِ معرفيَّيْن: شعريٍّ وعلميٍّ؛ ويعيدُ تشكيلَهما وفقَ مخيالٍ سرديٍّ أسطوريٍّ خِصْب؛ ليُكَوِّنَ بِنيتَهُ المعرفيَّةَ والأسلوبيَّةَ القادرة على حملِ الرّؤيا الفنيَّةِ والفلسفيّةِ التي يَنطوي عليها الخطابُ السّرديُّ.
      حيثُ يتمثّلُ العنوانُ مفهومَ الرّباعيّاتِ الشّعريّةِ سرديًّا، بما هي قطعةٌ فنيّةٌ مستقلّةٌ شكلًا ومضمونًا، تحمل في بِنيتها تأمُّلاتٍ فلسفيّةً للكون والحياة والموت، يمهّد الشّاعر في شطورها الثّلاث الأولى لفكرته، ويفجّرُها في الشّطر الرّابع(4)؛ إذْ انبنت رُباعيّات الفردوس في بِنيتها الفنيّةِ والأسلوبيّةِ على أربع رباعيّات: «الفناء، والخديعة، واليقظة، والميلاد»؛ وتحملُ كلُّ رباعيّةٍ أربعَ قصصٍ متوالية، فمثلا: رباعيّةُ الفناء، تنطوي على أربع قصصٍ: «ملح، قارب، بقجة، بقجة ملح في قارب»؛ لِتَتنامى أجنَّةُ بذور القصص الثّلاث الأولى، وتولدَ في القصّة الرّابعة، كذلكَ رباعيّة الخديعة، واليقظة، والميلاد.
      أمّا المتواليةُ كبِنيةٍ سرديَّةٍ كُبرى، فإنّها استضافةٌ لمصطلح رياضيٍّ، يقومُ على ثيمةِ «عنصرِ التّردّد» في المتوالية، أو القاعدة الضّابطة للنّمط الرّياضيّ. فهنالك ثيمةٌ رئيسةٌ تتردّد داخلَ متنِ كلِّ رباعيَّةٍ، تربطُ بين النّصوصِ السّرديّةِ بوصفِها قصصًا مستقلّةً، إلّا أنّها تقيمُ بينَها علائقَ ووشائجَ على تعدّد مسارات السّرد ومقولاتِه، فالفناءُ ثيمةُ الرّباعيّة الأولى التي تربط بين قصصِها الأربع من جهة، وتتوالد فيها ومن خلالها من جهة أخرى، وتعاضدُها العناوين الدّاخليّةُ للرّباعيّة، لينبني عنوانُ القصّةِ الرّابعةِ في كلّ رباعيّةٍ من توالي العناوين الثّلاث الأولى، مثل رباعيّة الميلاد: رماد، ناقة، خروج، خروج ناقة من رماد. 
     والسّؤال: ما الدّلالات التي تنطوي عليها مغامرةُ التّجريب الأسلوبيّة في اسْتضافة «الرّباعيّات»، و»المتوالية»؟ إنّ الكشفَ عن دلالات التّجريب في العنوان، ترتبط بتجليّاتِ الوعي الأسطوريّ لثيمةِ الفردوس من جهة، وحضورِها وتمثيلاتِها وحركيّتِها وإزاحاتِها واستعاراتِها داخلَ المتن السّرديّ، بوصفِه نصًّا موازيًا مُضادًّا من جهة أخرى. 
البِنياتُ النَّصيَّةُ والتَّشاكلُ الدّلاليُّ:
      تتأسّسُ مدوّنةُ «رُباعيّات الفردوس» السّرديّةُ على قراءةٍ عميقةٍ لبِنى الأساطير المؤسِّسَة وثيماتِها الرّئيسة، لكنّها لا تعتمد على مبدأ الاستدعاء أو المماثلة أو التّقاطعات النّصيّة، ولا تحضر فيها البِنيات والثّيمات الأسطوريّة على خلفيّة كشف المصادر الثّقافيّة والتّاريخيّة بالإحالةِ من المدوّنةِ وإليها، بل إنّها تنبني على كتابةٍ ميتانصيَّة، تؤدّي أدوارا ووظائف دلاليّةً مغايرةً، يطويها النَّصُّ في بِنيته ويهضمُها لتقديم خِطابِه السّرديّ وفق رؤاه وفلسفته، مرتكنًا في صميم اشتغاله الأسلوبيّ على مبدأ الامتصاصِ والتّحويلِ والإزاحةِ والتّوسيعِ والتّمطيط، من هنا، تتكشّف مستوياتُ التّباين والتّشاكل الدّلاليّ. 
    فالمدوّنة تكثّف حضور الثّيمات الأسطوريّة وتعيد كتابتَها، خالقةً كرنفالا من الأصوات الأسطوريّة متعدّدةِ الثّقافاتِ والجغرافيا، وتعيد بناء الوظائف والأدوار فيما بينها، بشكل مفارقٍ لأصل تشكّلها في النّص السّابق عليها؛ لتتمازجَ وتتضافرَ وتتعايشَ مُشكّلةً هُويَّةً نصيَّةً جديدةً بعدَ أنْ أَقْلَمَتْها المدونةُ في مَناخها السّرديّ؛ فتداخلت الأساطير الكنعانيّة والإغريقيّة والبابليّة والرّومانيّة والفينيقيّة والمرجعيّات التّوراتيّة والإسلاميّة للقصص الدّينيّ في بِنية النّص الجديد ـ المدوّنة، من خلال تقنية الامتصاص بالإزاحةِ والتّحويل، لِتتأسّسَ علاقةٌ جديدةٌ بينَ تموز البابليّ والسّيْبِل الرّومانيّة، وأصلُ البناءِ تموز وعشتار بابليًّا، وأدونيس وعشتار فينيقيًّا، ويُمسرَح الحدث بالحوار بين أنكيدو وأوتنابشتيم، وأصلُ الحوار بين جلجامش وأوتانبشتيم، ويتمّ تذويب شخصيّة باندورا صاحبة الصّندوق لمصلحة السّيْبِل، التي امتّصت مختلف الشّخصيّات الأنثويّة في الأساطير لمصلحتها، فانطوت على عشتار وأفروديت وباندورا وعناة وشمخت؛ كما تجري تفاعلاتٌ نصيّةٌ بين شخصيّة يوسف وقميصه، وناقة صالح التي تحضر دونه لبناء علاقة جديدة مع البدويّ صاحب الهداية، كذلكَ يتمُّ تغيير موجباتِ لعنة سيزيف وبروميثيوس في  النّص الأصليّ إلى علاقة محرّمة مع السّيبِلْ.
      إنّ هذه الفواعل النّصيّة(5): تموز، وسيزيف، وبروميثيوس، والسّيبل، وأنكيدو، وجلجامش، وأوتانبشتيم، وجوزيف، والنّاقة، والقميص، والصّندوق، والتّلة، والغار، والكوخ، والبحيرة؛ تشكّلت في مدونة «رُباعيّات الفردوس» من خلال تعارضات وتحويلات، لكنّها على مستوى التّشاكل الدّلاليّ(6) تمارس هيمنةَ التّردّد والتّكرار والتّشابه لثيمتَيْ الفردوس والجحيم.
     إنّ ثيمة الجحيم واللّعنة ـ وهم الفردوس وانتفائه، تتردّد بين جوزيف، وأنكيدو (البهلوان)، والخياط، والسّيْبِل، وبروميثوس، وسيزيف، وأوتنابشتيم في علاقتهم بالصّندوق؛ كذلك في علاقتهم بالقميصِ، وعلاقتهم بالنّاقة، والغار، كذلك علاقة الفواعل الأسطوريّة بالسّيبل المؤنّثة ـ دالّ الأمومة والاشتهاء؛ ويمثّل المكان القيمةَ الدّلاليّةَ المُهيمنة، إذْ شكّلت عمورة وسدوم ـ البحيرةُ مركزَ استقطابِ جميع الدّوالّ، ومن خلاله انبنت العلائق بين الفواعل النّصيّة الأسطوريّة ومتلازماتها، فصندوق باندورا ـ اللّعنة يشاكلُ قميصَ يوسف ـ الخديعة، وناقةُ البدويّ ـ الهداية  يشاكلُ قاربَ أوتانبشتيم ـ النّجاة؛ فكلُّ علاقةٍ تنبني بينَ فاعلَيْنِ أو أكثرَ في النّص تشاكلُ الأخرى في وظيفتِها ومدلولِها.   
الاستعارةُ السّياقيَّةُ الأسطوريَّةُ:
    لا تكفُّ الدّلالات المرجعيّة للفواعل الأسطوريّة عن التّنادي والتّفاعل لتخليق التّعارض والتّباين بغيةَ تحقيق الدّلالة السّياقيّة الجامعة لثيمة كلّ فاعل أسطوريّ؛ فالتّباين والتّعارض يشكّل عمادَ استقطاب بؤرة الاستعارة السّياقيّة؛ لأنّ مدوّنة رُباعيات الفردوس تخلقُ سياقها الجامع لسياقاتٍ أسطوريّةٍ متنوّعةِ الحواضن الثّقافيّة والحضاريّة، لكنّها تقبضُ في كلّ سياق على ثيمة، وتعمدُ إلى تنميتِها وتكرارِها بتنويعِ صورِها ـ المتوالية، فالصّندوق بوصفه دالًّا سيميائيًّا تتبدّل مدلولاتُه من قصّة إلى أخرى، كذلك النّاقة والقميص والقارب، لكنّ الدّالَّينِ الأكثرَ اشْتغالًا ضمنَ أُطُرِ الدّوال هما دالّ السّيبِل ـ الآلهة المؤنّثة، ودالّ المكان ـ سدوم وعمورة بوصفِهما محضنَ لعبِ الدّوال، ومركزَ تبئيرِهما.
     إنّ السّيبِل تبني علائقَ مع فواعلَ أسطوريَّةٍ مُتنوّعةٍ ومتعارضةٍ في مرجعيّاتها الثّقافيّة ووظائفِها الأدائيّة، فترتبطُ بأيل الكَنعانيّ، وتموز البابليّ، وسيزيف وبروميثيوس الإغريقيّين؛ ومرجعيات الأمكنة في النّصوص الأسطوريّة الأصليّة تذوب معًا لتتشكَّلَ في هُويّةٍ نصيَّةٍ ـ مكانيَّةٍ جديدةٍ، علامتُها الأيقونيَّةُ ـ حاضنُها سدوم وعمورة.
     وفقَ هذا الفهم، تنبني المدوّنة السّرديّة في تشكيل خطابِها المضادّ على استعارةٍ سياقيّةٍ أسطوريّةٍ كبرى، تتحرّك بموجبِها الفواعلُ والدّلائلُ وفقَ رؤيا نصيّةٍ مغايرةٍ لمرجعيّاتها من حيثُ الاشتغال، لكنّها تَتشاكلُ من حيثُ المدلول.
ثُنائيّةُ الذّكورةِ والأُنوثةِ وثيمةُ الفِردوس:
      إنّ التّوغّلَ في بيانِ آلياتِ بناء الفكر الأسطوريّ لعلاقات الذّكورة والأنوثة وعمله، وارتداداتِه على مجتمعِه بوصفه حاضنًا ومنتجًا لها، يكشفُ في الوقت ذاته عن تَغَوُّلِ الذّكورة على الأنوثة بمصادرة أدوارها وانتزاع مقاليد سلطتها، وإقصائها في الواجهة الخلفيّة؛ ليتصدَّرَ المشهد، ما يوجبُ تبديلًا في المشهد وانعكاساته، فالتّماهي الذي أحدثتْه المدوّنة ـ رُباعيات الفردوس للآلهة الأنثى: عشتار، وأفروديت، وعناة، وباندورا، وشمخت، على صعيد الوظائف؛ تعالقَ في شخصيّة السّيبِل الرّومانيّة، بوصفِها الأمومةَ الجامعةَ لخصائص الأُنوثة، لكنّها تعرّضت للهيمنة الذّكوريّة، وخسرت مساحاتها، ما يشي بعطب القدرة الخالقة أيل ـ زيوس أسطوريّا، ومنح مساحات جديدة للجحيم الأرضيّ على حساب الفردوس.
     إنّ السّيبِل، إذْ تحضر جسدًا شهوانيّا متنازعًا عليه، تتسبّب بلعنة أنكيدو وسيزيف وبروميثيوس وتموز وأدونيس، حيث خلعت هذه الفواعلُ عن الآلهة ـ السّيبِل دورَها الفاعلَ في بلوغ الفردوس وتبليغِنا له؛ لِيستحيلَ جسدُها في المدوّنة عنكبوتا قبيحا، فهي إذ تطالعُ جسدَها، « هالهَا العَنكبوتُ السَّردمدِيُّ الذي حَكَمَ عليهِ «أَيْلُ» أنْ يظلَّ يقظًا معلَّقًا في خُيوطِ الزَّمَنِ»، بعد أنْ كان «صَدْرُها تُفّاحَتَيْنِ فَوْقَ الاحْتِمالِ»، فالسّيبِل أيقونة التّحولات البصريّة ذات الاكتناز المشعّ للدّال في كشف فداحةِ المدلول، فهي تمثالٌ ملحيٌّ زنجيٌّ مكسورٌ في رُباعيّة «الفناء»، وامْرأةٌ حسناءُ في رُباعيّةِ «الخديعة»، وعَنكبوتٌ قبيحٌ في رُباعيّة «اليقظة»، وحبَّةُ بندورةٍ عفنةٌ في رُباعيّة «الميلاد» امتدادًا للعنةِ باندورا الأصل.
     إنَّ المسافة مع الفردوس تزداد عمقًا مع سيزيف، وتيهًا مع أنكيدو، وتحجُّرًا مع بروميثيوس، وغرقًا مع أوتانبشتيم، فكلّما هيمنَ المذكّر اقتربَ الجحيم، لِيُكَوِّنَ معادلة العذاب في الحجيم لا الحياة في الفردوس، رغم تمنيّات الآلهة ـ الفاعل الأسطوريّ «لَيْتَني قَبْرٌ في الغارِ»، كذلكَ السّيبِل، لمْ تَعُدْ تُرِيدُ الخلود في الفردوس، بل الفناءَ في الجحيم، ثمّة وهمٌ يكرّسُ رموزَه: الصّندوق، والقميص، والقارب، فتنقلبُ الأدوارُ التّاريخيّة الأسطوريّة من فاعليَّةٍ صاعدةٍ لأعالي الفردوس إلى مفعوليَّةٍ هابطةٍ لقاع الجحيم في مدوّنة رُباعيّات الفردوس.
     والمسافاتُ مع الفردوس أزمنةٌ لا أمكنة، فالمكان في المدوّنة جامع ثابت، إنّه الحاضنُ الدّلاليّ ـ سدوم وعمورة، ذلكَ أنَّ البعدَ الرّابع في إهابه الأسطوريّ يصبح بؤرةَ حركيّةِ الحدثِ والشّخصيّةِ، فالمسافاتُ آلاف السّنوات القمريّة، وألف سنة أخرى جديدة مع سيزيف، ومثلها مع بروميثيوس، والسّيبِل على صخرتِها عنكبوت تراقب نارا، وعمرها أكثر من مئةِ ألف عام، إنّه زمنٌ مفتوحٌ على الجحيم، لا ابتداءَ له ولا انْتهاء، ما ينفي عن الفواعلِ الأسطوريّة جميعِها جماليَّةَ الحياة أو حتميَّةَ الموت، فلا هم أحياء لينعموا بلذّة الفردوس، ولا هم أمواتا  لِيطفئوا جمرةَ الجحيم، إنّهم أحياء وهمِ الفردوس ـ عذابِهم المُقيم.
خصوبةُ الدّال ـ فداحةُ المدلول:
      في امتثال المدوّنة السّرديّة ـ رُباعيّات الفردوس للآفاق الأسطوريّة ذات المرجعيّات الثّقافيّة الدّالة والمُتنوّعة؛ تمارس ـ بحيلةِ تقنياتِها ـ اسْتبدالاتٍ وتغايراتٍ واسعةً للأدوار والوظائف بغيةَ تخصيبِ دور الدّال السّيميائيّ المُستضاف ـ الفاعل الأسطوريّ، وجذرُ التّخصيبِ تكثيفُ الفواعلِ من حواضنَ أسطوريّةٍ متعدّدة، لكنّها تذوِّبُها معًا لمصلحة رؤاها في أدائيّةِ دورِ واحدٍ، فعلُه العقمُ لا الخِصب، في تنازلٍ مخلٍّ عن شرط البحث عن الفردوس بالوقوع في جناية جرح كبرياء الآلهة؛ لأنّ فعل الخصب مرتهنٌ بممارسة أدوار معدّة سلفا، لكنّ جناية كسر أداء الأدوار قلبتِ الفعل من بُعده الإخصابيّ الفردوسيّ إلى فداحةِ المدلول المُتمثّل بالانطفاءِ الجهنميّ العقيم ـ الجحيم.   
   غيرَ أنّ بنية الفواعل في جوهرِها تتكشَّفُ عن صراعيّة وفاقيّة فيما بينها في فضاءِ المدوّنة الأسطوريّ، من خلال دالّ البدويّ وناقته ـ رمز الهداية، الذي يكشف السّرد عن امتلاكِه الحلولَ الكونيّة بقدرةٍ خارجَةٍ عن فيض القوى البشريّة والآلهة الأسطوريّة، بتطوّعه تقديمَ إجاباتٍ قاطعةٍ لإشكاليّة الفردوس في المخيال الأسطوريّ، وذلك بوضع الدّينيّ حلًّا موازيًا له.  
    لكنّ القصّة الرّابعة «خروج ناقة من رماد» في الرّباعيّة الرّابعة «الميلاد»، تسفر عن سقوط الأسطوريّ والدّينيّ في ذات المماثلة في صنع أُحجياتِها واجتراحِ حلولِها؛ إذْ تنتصرُ المدوّنةُ لخطاب السّعادة الدّنيويّ، بوصفِه الفردوسَ الآنيَّ والنّهائيَّ، بجملةِ الإقفال: «رُبَّما، هذا هو الفردوس!».
     بينَ مُفتتح المدوّنة في القصّة الأولى «ملح» من الرّباعيّة الأولى «الفناء»: «لا فردوسَ هُنا!»، ومَقفله في القصّة الرّابعة «خروج ناقة من رماد» من الرّباعيّة الرّابعة «الميلاد»: «رُبّما، هذا هو الفردوس!»؛ تتحرّكُ الدّوالُّ كاشفةً عن فلسفتِها ورؤاها؛ في مدوّنة سرديّة فاعلُها الدلاليُّ مواجهةٌ ومجابهةٌ لوعي الكائن بمكوّناته ومكنوناته ومآلاته وفداحةِ مصيرِه، في حفريَّةٍ أركولوجيّةٍ تستدعي المعنى العصيّ، بغيةَ توالدِه في مسرح الوجود دون أنْ تُغْلِقَ دائرةَ التّساؤل الشّاك المُشْرع في فضاء العدم، وحتميّة النّهايات، إنّها «رُبَّما» التي تُحرّر المعنى من معتقل اليقين في المخيال الميثيولوجيّ، وتهدمُ أسواره وبُناه؛ لِتطلقَه وتفتحَه حرًّا في فضاء الشّكّ «رُبّما هذا هوَ الفِردوس!».
      إنّ مدوّنة «رُباعيّات الفِردوس ـ مُتواليةٌ قصصيّة» السّرديّةَ ـ إصدار الآن ناشرون 2016م،  تمثّل النّموذج السّرديّ الأرقى إبداعيّا، بوصفِها شعريَّة الشّكل وتراجيديّة المعنى من جهة، واحتضانَها ثيمةَ التّردّد لهيمنة «الوهم ـ الشّك» فردوسيًّا من جهةٍ أُخرى.