تثير رواية صيف مع العدو (ضفاف: 2018) للسورية شهلا الهجيلي عددا من الأسئلة التي تتعلق بشخصيات الرواية ، إذ المعروف أن الشخصيات هي قوام الحكاية قبل أن تتحول إلى خطاب يبدي فيه الكاتب أو الكاتبة ما لديه من قدرات على التخطيط، والبناء الذي يجعل من هاتيك الشخوص شخصياتٍ تبدو مستقلة استقلالا تاما عن المؤلفة، أو المؤلف، فهي التي تتحرك جيئة وذهابا، في فضاء النص، بمحض إرادتها، وتبعا لما تمليه عليها ظروفها، لا ما يمليه عليها الكاتب، أو حتى الراوي، بوصفه قناعا وهميا للمؤلف.
ومن يقرأ الرواية بتأنٍّ تستوقفه شخصية لميس (لولو) لا لأنها تضطلع بدور الراوي المشارك، المُمَسْرح، الذي يروي الوقائع من داخل المشهد، لا من خارجه، وإنما لكونها – أيضا- شخصية أساسية تؤدي الكثير من الوظائف التي عهدت بها إليها العجيلي. 
فابتداءً، هي التي تحدد لنا الأماكن التي تدور فيها دواليب الأحداث، فحيث تكون – في الرقة أو في غيرها- تجري الوقائع. وهي همزة الوصل الوحيدة التي تصل القارئ بالشخوص. يستوي في ذلك من هو مختص بالسجل العائلي أو بغيره من شخصيات. عبود طفلا وشابا تجاوز الأربعين.. خليل أو زوجته بشرى التي ماتت في ظروف معروفة لا تستدعي الإجابة عن السؤال متى وكيف، ما دام الأمر متصلا بالحرب.أسعد والد عبود – الطبيب البيطري- يتخلى عن زوجته البلغارية آنا ليقترن بفتاة الأبقار والبرسيم (صفاء) فرحان صاحب التاكسي باع سيارته وغادر إلى السعودية.. وآنا تعود إلى بلادها متخلية لأسعد عن عبود (ص28) والجدة تتوفى في ظروف غامضة يلخصها التعبير جريمة صامتة (ص9).
 الجدة
على أن هذه الجدة تختلف عن سائر الشخصيات التي ذكرناها، فالساردة لا تكتفي من أمر الجدة بتلك الإشارة السريعة القصيرة، كالآخرين.. فبعد صفحات غير قليلة تغادر الساردة ما هي في إطاره من تعداد للأمكنة التي فوجئت برؤيتها في كولونيا إلى الماضي البعيد، إلى ماض لم تعشه بتفسها ولكنها سمعت الكثير مما قيل عنه، واحتفظت به في ذاكرتها التي تنشط حينا وتتوقف حينا آخر. تقول في فقرة مليئة بالدلالات « لم يكن يخطر لي ببال أنني سأقف يوما أمام رفاتهم – كما أفعل الآن في كولونيا- حيث بدني تضربه قشعريرة الذكريات في كنيسة قوطية مسكونة بروح الشرق، بروح بيت لحم التي منها جاءت جدتي «.(ص27)
تلقي هذه الفقرة القصيرة الضوء على (ديناميكية) السرد حين يتحول من التركيز على المجريات إلى التركيز على الشخوص، فعن طريق التداعي، والربط بين مشهد الكنائس، واسم بيت لحم، مهد المسيح، ينفتح قوسان، أولهما يبدأ بذكر الجدة الراقصة في فرقة بديعة مصابني الشهيرة، والثاني لا يغلق إلا بعد ما يقارب العشرين صفحة من السرد المتواصل بما يتخلله من إشارات لوقائع تاريخية، أو شبه تاريخية، بدأت في عشرينات القرن الماضي(ص62) تنقلت فيها بين الإسكندرية، وبيروت، والقاهرة، كثيرا.. قبل أن يستقر بها المقام في الرقة (ص63). وأما عن الظروف التي أدت إلى هذا الخيار، فيكون السرد الخاص بها في موقع آخر، هو الذي سيروي بعض المجريات في حياة الآغا - جدّ لميس، الذي استقل سيارته متوجها إلى بيروت، وفي فندق سان جورج العريق وقع نظره لأول مرة على تلك الراقصة التي ستصبح زوجته (ص65) وعندما قبلت عرضه تركت الفرقة لتقع من جديد في قبضة الحب، والعيش مع الآغا الذي وجدت لديه: المدنية، والثروة، والثقة.
ومع أن الجدة (كرمة) لا تبوح في العادة بشيء عن ماضيها الاستعراضي – فيما يبدو نفاذا لشرط من شروط الآغا- إلا أنها في سنٍّ متقدمة بدأت تهمس بالذكريات للحفيدة بعيدا عن أذني نجوى(ص70) .وهذا يعني أن الساردة لا تفتأ تؤكد أن ما ترويه هو استعادة لما كانت تبوح به الجدة سرا من حين لآخر، أي أن الساردة لا تكتفي بدور الشاهد الذي يسمع، ويرى، فحسب، ولكنه دورُ من يوثق ما يرويه ليتمتع بمزايا الراوي العليم أيضا. ولعل ما روته لميس عن (مارية) و(صافية) صديقتي الجدة، إنما جيء به لاستعادة وقائع أخرى، ومجريات ذات صلة، كالحديث عما كانت تعانيه من تأخر في المشي» بلغت السنتين تقريبا ولما يطلق الله قدمي « (ص81) وهذا بالطبع يمهد لرواية سلسلة من المجريات التي غالبا ما ترتبط بمسيرة صباحية مبكرة تدرب فيها الأم –نجوى- لميس على المشي، لزمن تجاوز الأشهر الثلاثة. (ص91) فالأم هي التي خلفت الجدة في بؤرة السرد. لأن الوظيفة التي عهدت بها الكاتبة إليها ليست وظيفة هينة، أو هامشية. وسوف تظل الإشارات إليها مستمرة حتى اللحظات الأخيرة التي تسبق الخاتمة. على أن الجدة تظهر لنا ثانية في الفصل الموسوم بعنوان يوم التفاحة. (ص167).
 نجيب الريحاني
فعلى الرغم من أن الساردة لم تشر من قبل للخال نجيب، إلا أنها في هذا الفصل تعلن عن مصرعه في السجن. مستعيدة بالتفصيل المشهد الذي اكتنف لحظة الاعتقال. (ص190)ومصرع نجيب المأساوي في السجن، أو تشييعه، ليس بالحدث الكبير الذي تتوقف عليه تحولات، إلا أن التركيز يتنقل بنا ثانية إلى ماضي الجدة عندما رزقت به على يدي القابلة (ترفندة) وتسميته باسم الفنان نجيب الريحاني، في إشارة لماضيها الاستعراضي، وتذكر شيئا سريعا عن حبه لفتاة كلية الحقوق (عروبة) التي لا تداني ابنة الرقة (ندى) فقد تحولت عروبة عنه بعد أن اصبحت تحتل مركزا نافذا في الحزب الحاكم، أما ندى فألقت بنفسها في الفرات حزنًا عليه « كانت ندى مجدليته حقا، لم تصبر على رحيله، فبعد أقل من سنة نفذت تهديداتها، ورمت نفسها في الفرات « (ص201) ونجيب الذي دفن في مقبرة البلدة يتحول مثواه إلى مزار روتيني كل يوم جمعة، إلى أن جاءت داعش، ومنعت زيارة المقابر، ثم قامت بتفجير المقبرة، قبل أن تحظى بحصتها من قذائف طيران التحالف(ص205).
ولا تفتؤُ الساردة تكرر الإشارت إلى الأم نجوى، فهي امرأة كغيرها تتعرض لمظالم كثيرة. حرمت أولا من الزواج بمن تريد (فارس) وزوجت بالإكراه، أو بما يشبه الإكراه، من عامر – والد لميس- فكان زواجهما فاشلا، إذ إن الزوج سرعان ما هجر الزوجة التي اكتشفت أن له علاقة بأخرى(أحلام). تراقب الطفلة هذا التباعد بين الأبوين. وتقف إلى جانب الأم، وتكره الأب. (ص103) هنا تبرز لدى لميس مشاعر نفسية متضاربة، وغامضة، كضرورة الاستحواذ على الأم، واستبعاد الآخر. ويجد الدارس في هذا الفصل، ومن خلال التركيز على الهجران (ص105) تمهيدا على نحو ما للفصل التالي « ليالي المقطورة القديمة « (ص108) ففيه تظهر شخصيات جديدة. ومثلما يقال – في العادة- كلما ظهرت شخصية جديدة في القصة، أو الرواية، تبعتها تحولات جديدة في السرد، وهذا ما جرى بقدوم نيكولاس الذي يتكرر حضوره في غير موْقع من المتن الحكائي.
 نيكولاس
قدم إلى الرقة من ميونخ بحثا عن موقع المرقاب الفلكي الذي أنشأه البتَّاني في تلة البيعة، يتكلم العربية بلكنة أعجمية(مكسرة) دعي لتناول القهوة في منزل الجدة فلم يتردد في قبولها، تنبهر بشخصيته لميس وأمها نجوى. تقول أولاهما: ظل صوته في أذني وهو يتلو قصيدة أمه كأنها نداءٌ مقدس قادم من المجهول، أو من تراتيل بشر يرقدون منذ آلاف السنين في المدافن البائدة. « (ص112) سرعان ما اعتادت عليه الأسرة كأحد أفراد العائلة وهو لا يضن على هؤلاء الأفراد ببعض هداياه الثمينة من وقت لآخر. وعند عربة قطار قديمة(مقطورة) تكررت لقاءاته بنجوى. وفي أحد هاتيك اللقاءات وضع يده بحنو على كتف المرأة في حركة تبدو كمن يريد أن يضمها إلى صدره. لقيت هذه الحركة من المرأة المتعطشة للحب بعد سنين من الهجر تجاوبا يشعل الغيرة لدى لميس التي حبست أنفاسها فورا، وشعرت للمرة الأولى بالكراهية تجاه الأم: « كرهتهما. وقررت أنهما فريق واحد ضدي. إنهما عدوّاي « (ص117) واقعة نفسية بالنسبة للميس، وفرصة مواتية لأمها كي تعوض ما فاتها من حب.
في الأثناء تبرز شخصية جديدة ليست لها أهمية نيكولاس.أبو يحيى سائس الخيول الذي اقتربت منه لميس ووجدت لديه ما يسلي في غياب الأم التي طفقت تتسلى مع نيكولاس. تذكر الساردة بعض التفاصيل غير المهمة عن أبي يحيى، وزواجه، وعشقه للخيل، ومغادرته لدمشق، وابنه السجين. ولكن لا يفوتها في غمرة ذلك أن تراقب العدوَّيْن مراقبة من تنجلي له حقيقة أن صنارة نيكولاس نجحت في اصطياد السمكة « أيقنت بشكل قاطع من أنها واقعة في غرامه «(ص134). ولكنها تتردد في مونولوج قصير عن المضي وراءَ هذا اليقين. « أكذب هواجسي بخصوص علاقته بأمي. إنه أجنبي. وأمر عادي أن يلمس كتفها أو يحتضنها من باب المساعدة. إنه يحتضن الجميع جدتي. وعمتي مارية.. وصافية. إنه عالمٌ، ولا وقت لديه لينشغل بهذه السخافات؛ الحب والنساء.. «(ص158) 
فحضور نيكولاس يضرم النار في هشيم الأسرة، والصراع المحتدم داخل الابنة لميس لا يطفئه وجود مرافقين آخرين مثل شتيفاني، أو رودولوف . ثمة إذن صراع بين ثقافتين وجد مسرحا له في عالم الفتاة النفسي. :» عانقني- نيكولاس-  لحظة الوداع.. فشعرت بالألفة تنسحب من قلبي .. « (ص164)
تذكرنا رواية العجيلي هذه بصندوق العجب، فما إن غادر نيكولاس حتى بدت في الأفق، ولاحت، شخصيات جديدة؛ كمال الذي يحاول خطبة لميس فترفضه نجوى بعناد. مجدي الذي خطب هالة ولكن مشروعه ولد ميتا في مشهد فاضح (ص177) ناهل الصديق الحميم للخال نجيب يتزوج هندا التي بُحَّ صوتها من الإنشاد للنظام فيما كان والدها يتضور ألما من التعذيب في أحد أقبية السجون. (ص181) شخصيات جديدة تظهر وتختفي دون أن تترك أثرا إلا بالقليل من التركيز. شخصيات من داعش تستولي على بيوت، وأخرى من الأهالي تحث على المغادرة قبل بدء الهجوم من التحالف الدولي. وهروب جماعي ينتهي بمصرع الأم نجوى بانفجار لغم أرضي. هذا كله شيءٌ، وظهور كارمن في ثنايا المتن شيءٌ آخر، فمن هي كارمن هذه؟ 
 كارمن
كانت كارمن قد زارت سورية وقدمت للرقة، وعرفت لميس منذ ذلك الزمن أن كارمن روائية لها ست روايات، وكتب أخرى في الفن، وتقوم بإعداد رسالة دكتوراه في موضوع غريب، وهو علم النفس السلوكي للكلاب (ص228). وعند قدومها إلى كولونيا بعيد مقتل الأم حدثتها عن نيكولاس الذي أصبح عجوزا بوجه قبيح. (ص228) وكارمن هذه كبقية الشخصيات النسائية في الرواية، لقيت هي الأخرى من العقوق ما لقيته والدتها نجوى، وما لقيته آنا من أسعد والد عبود. فقد اقترنت بفلسطيني من دمشق – بسام- هجرها بعد تعلقه بلاجئة سورية. تروي لميس المزيد من التفاصيل عنها، وعن أمها الشاعرة، وإخوتها السبعة. وبين لميس وكارمن تظهر شخصيات أخرى نادر، وأولغا، وغونتر، وماريون – أم كارمن- ذات الذكريات المريرة عن حرب عام 1939 في دانزنغ ببولندة. ويعود نيكولاس للظهور مرة أخرى في هيئة الفاعل المساعد، ليس عاشقا لنجوى، ولا باحثا عن تراث الأسْلاف، وإنما الصديق الذي سيقدم للميس المساعدة بعد أن أصبحت للأسف رقما في بيانات اللاجئيين.» بعد قليل ستجري المنحة الشهرية التي رتبها لي نيكولاس مع الجامعة. ستكون أموري المالية بخير.» (ص278) ويظهر مرة أخرى عبود بعد أن توارى مدة ربع قرن « ليس نيكولاس. إنه شاب بشعر محمر، وبجسد يبدو رياضيا.. قلت بحذر : هاي.. التفت ووقف يحدق بي هنيهة. ثم خطا نحو الغرفة. قال هاي. لولو... لوووووو .. صوته كان ضخمًا.. ولكنته العربية (رقاوية) عتيقة. « (ص280).
 عبود مرة أخرى
من جديد تبدأ الحكاية بالتركيز على عبود، بصفته شخصية أخرى، شخصية ذات أبعاد ثقافية، واجتماعية، وإنسانية جديدة. فقد تشرب خلال الزمن الطويل الذي قضاه في الخارج عادات الأوروبيين. وهذا اللقاء بين صديقي الطفولة بعد ربع قرن من الفراق مناسبة لفتح الملفات، والاسترسال في تذكر الماضي، وحل بعض ما أبهم من ألغازه، وربما كانت هذه الشخصية هي الوجه الثاني لشخصية لميس. وثمة شخصيات أخرى في المتن الحكائي لم تذكر لسببين، أولهما لأنها لا تؤدي دورا مهما، ولم تسند إليها المؤلفة وظيفة ما، والثاني لأننا نريد الاختصار في هذه المقالة قدر المستطاع. ومن يُعدْ النظر في ما تقدم، وسبق، يلاحظ أن لدى الكاتبة العجيلي طريقة فنية واحدة في تقديم الشخصيات، فهي تذكر الشخصية في سياق ما ذكرًا سريعًا ثم تقلع مبتعدة في متواليات سردية أخرى لتعود إليها مرة ثانية فتوغل في التفاصيل، ولا تترك صغيرة أو كبيرة من طباع هذه الشخصية التي تسهم في نمو السرد، ونمو العقدة، إلا وتذكرها. يتكرر هذا عند الحديث عن الجدة، ونيكولاس، وكارمن، وعبود. وهذا نهجٌ بنائي يتيح للمتلقي الكثير من التوق، والتلهف، لمعرفة خفايا الشخصية، وأسرارها، على المستوى الفردي، وعلى المستوى العام.
وظيفة المرأة
على أنّ تصنيف الشخصيات تصنيفا يُبنى على أساس الجنس شيءٌ لم تهتم به المؤلفة اهتماما شديدًا، إلا أن المتلقي الحصيف يلاحظ - بأسف - أن المآسي تلاحق الشخصيات النسوية في الرواية، وقلما تلاحق الرجال، إلا ما كان من مأساة الخال نجيب. في المقابل جعلت من فعل الخيانة مسندًا، ومن الرجل- بصفة عامة - المسند إليه. فتصور الساردة لموقف نيكولاس من الأم لم يخلُ من إدانة، وتوبيخ. وموقفها من والدها عامر لا يختلف عن ذلك. وموقفها من أسعد، والد عبود، وبسام الذي تخلى عن كارمن، ومجدي الذي عدل عن الزواج من هالة لسبب تافه، إلخ... مواقف لا تخلو من إدانه لصنف الرجال؛ فالنساء في معظم الأحيان هن الضحايا، إن كان الأمر في سلم، أو في حرب.