|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
عندما نجهل مضادات الهروب
عاشقة
الصحراء :
عبد الغني صدوق/ كاتب جزائري في رحلة التلقي؛ ونحن بصدد قراءة الرواية، نبحثُ مع البداية عن صوت الراوي، يُباغتنا السؤال الأول، من الذي يتكلّم؟ وفي العادة أنّنا نُجالس النصوص المنجَزة من طرف الإناث فنجد البطل الرئيس أُنثى، إمّا انتصارًا لجنسها ولا ضير في ذلك باعتبار الأحداث ستُسرد من ذاكرة الأنثى، وإمّا أنّ القضيّة موضوع العلاج قد تكون من دفقات التجريب. في رواية «جرعة زائدة» الصادرة عن (الآن ناشرون وموزعون 2022) للكاتبة الأردنية هيا صالح، وهي رواية موجّهة للفتيان، يُخاتلنا الراوي الذي نحسبه أنثى، لكنّنا ما نلبثُ إلّا قليلًا حتّى نقرأ « كنتُ شديد الشّبَه بكرةٍ انزلقتْ رغمًا عنها فوق منحدر. حينها ندرك أنّنا أمام رواية مخطط لها بإحكام وأمام تحدي الذات الكاتبة أيضًا، لماذا؟ لأنّ البطل مقدّم من البداية يتحرّك بالأفعال الماضية، رميتُ، قفزتُ، علّقتُ، وصلتُ... كنتُ شديد الشّبه، وهذه الأفعال من جهة أنتجتْ ديناميكية سريعة وإيقاعًا هادئًا في ذهن المتلقي، ولأنّ الفضاء المتحرَّك فيه بدا شاسعًا في المخيلة إلى أنْ لاحَ جسر المشاة من جهة أخرى. والجسر هنا يذّكرنا بمكان مشهود تعرفه شخوص هيا لمن قرأ أعمالها الروائية كما تذكرّنا الضفة التي يهاتف منها آدم مجدي، أو لعلّ المصطلحين سيطرا على العقل اللاواعي فشكّلا عنوانًا لرواية صادرة. وإذا دلفنا النّص، نشاهد مجدي الهارب من البيت إلى وجهة مجهولة، يُجري مكالمة هاتفية مع صديقه آدم، الذي سيدله على مكان الاستقرار، كان قد جذبَ من حقيبته قائمة الأغراض اللازمة للرحلة، والقائمة مكتوبة مسبقًا لكيلا ينسى منها شيئًا، في ناصيتها كلمة الحبوب! هذه التقنية التي لجأت لها الكاتبة؛ تصوير القائمة المحتوية للأغراض وجعلها صفحة من صفحات المتن تُعدّ تفسيرًا غير مباشر لبعض المبهمات، نحن إذًا بصدد تفكيك العنوان، إنّه عالَم المخدرات والجرعات. ما الذي دفعَ هيا إلى الكتابة عن موضوع بات قضية تقضّ مضاجع شعوب المعمورة؟ إنّ الجرعات عابرات للقارات، سموم مستهلَكة حتّى من الكهل والشيخ، والشابة والعجوز، هبْ أنّ هؤلاء تخدّروا سنوات، أو لعلّهم ضحايا قد يتعسّر انتشالهم من الوحل، ألا تتّفق معي على أنّ بعث شخوص فتيان في روايتها هو تناهز الأعمار وتقارب الأفكار وتسهيل عملية التلقي قبل فوات الأوان؟! بلى، بلى، لا أشك أنكّ مؤيد لي ولو في نقطة واحدة على الأقل. والحقّ أنّ المشافي هي المراكز التي تقدّم العلاج بالتدريج كما قُدّمتْ الجرعات في بداية الإدمان بالتدريج إلى أن أصبحت جرعات زائدة يصعب التخلص منها أو مغالبتها بمجرد التفكير في التخلي عنها، هيهات أنْ يخرج السم من الدم كما دخل! لكن المشافي في الرواية يكمن فيها الخطر، لقد وظفّتْها الكاتبة من منظور يجبُ التريث عنده مطولًا لإعادة النظر، ثمّة عصابة جمعت الأطباء ورجال الدولة وفتيان يتقنون أدوارهم جيدًا كمرضى يتلقّون العلاج، يعمّقون جراح البؤساء بإيعازات فوقية في سريّة تامة. ولسْنا هُنا مضطرين لتتبّع خط السرد كما اعتدنا في مقالات سابقة، إذ أنّه من المُمتع قراءة الرواية بين سويعات الظهر والمغرب، لقصرها وعذوبة اللغة فيها، إنّما المفيد -يا صاح- التنبيه إلى أنّ رائحة الموت تتسرّب من الجرعات الناقصة لتفوح حين الجرعات الزائدة! هذا لا يمنع الفتى من الاستعانة بمقال يهمّه فيه الركون إلى زوايا تكون حائلًا بينه وبين الجرعات أكثر من الاستعانة بمقال لا يهمّه فيه تحليل الرواية؛ لأنّ الروايات الموجّهة للفتيان يتم نقدها في الغالب في أذهان الفتيان لا على صفحات الجرائد. فالسجائر والحقن والحبوب جرعات مختلفة الاستعمال لكنها مؤدية للجحيم نفسه، يعرف النّمر ذلك ومحيط به علمًا، والنِّمر -بكسر النون- بطل مخلب يمزّق الحياة في الأجسام الهاربة، يستدرجها رويدًا إلى غاية الافتراس. إنّ النفس الأسيرة لدى جرعة ما، تشعر بالضياع الأبدي، بودّها أن تجد منجيًّا يعينها على الفكاك من أخطبوط الإدمان، تنصتُ لسياط الضمير باستمرار، ممّا يجعلها مُنساقة طواعية للعلاج من الداء بزيادة الداء، إذ تصبح خجولة، ذليلة، مهانة، وضيعة.. ذلك ما وصل له مجدي مع الأيام إذ قال في رسالته لوالديه: « أبي وأمي.. أعرف أنّني لن أكون الابن الذي تحلمان به.. حين نتأمل عالَم الطيور الواقعة على أشكالها، نلاحظ أنّ الصُّحبة تغذيها أنماط العيش المختلفة، فإذا وافقتْ أفكارك أفكاري فتحتُ لك باب داري من أول لقاء، وقِس على ذلك العلاقات الحادثة والمستحدثة، فالفكرة القوية وإن كانت سيئة فهي قادرة على تشكيل مجموعة من السيئين مع مرور وقت قصير، فالسيطرة على الفكرة تعني السيطرة على عقول النّاس الذين يؤمنون بتلك الفكرة، من هنا تتشكّل العصابات بتناغم عناصر الائتلاف، قال الراوي» انضمّ إلى الجلسة عدد من الشباب ورغم أنّني لا أعرف أحدًا منهم فقد شعرتُ برابط خفيٍّ بيننا وبأنّنا جماعة بين أعضائها الكثير من القواسم المشتركة: طريقة ارتداء القبعات، القمصان المفتوحة الأزرار، النظرات المتلصِّصة التي تطلُّ من محاجر مرهقة تحيطها الهالات الزرقاء، والعيون المنتفخة، والأنوف التي لا تتوقف عن السيلان. ولأنّ الرواية الجديدة باحثة عن الجمال في ركام القبح، كانت ولا زالت مصادمة مع أُفُقها وشخوصها والواقع، فهي عالَم من المتناقضات الداعية إلى تفتيت الحجر، حسب ما تقتضي الطوارئ النازلة بالبَشر من قضايا تتمظهر بحركة الكون، فالكلّ فيها يرى نفسه بطلًا خيرًا يسعى لتحقيق غايته، غاضًا طرفه عن شروره المستبطنة إزاء الآخرين. إنّ الاحتواء من أسُس الهناء، فمن غير الممكن أنْ نتصور أنَّ رعيّة مهمَلة عاطفيًا وإنْ وفرّنا لها من المادة ما يغرقها في النعيم، ستكون في منتهى الصلاح بفعل الطبيعة، لذلك يخبرنا مجدي أنّ أمّه كانت ربّة بيت مميّزة، مغرمة بتحضير وصفات الطعام... تجلس لساعات أمام التلفاز تتابع برامج الطهي.. وكان أبوه محام معروف لديه مكتب في وسط المدينة وهو دائم الانشغال حتّى أنّه كان يعامله حين يجلس معهم كما يعامل الضيف الذي يزورهم فجأة من مكان بعيد! وللقراء الكرام حقّ التلقي بمتعة زائدة عن متعة المقال إذا وُجِدتْ فيه متعة، لذلك ارتأينا عدم الخوض في مسار كلّ الشخوص، عدا الإشارة إلى ياسمين توأم مجدي التي تعرّضت لأزمة صحيّة حادّة ثمّ شُفيت بالعلاج والإرادة، إنّها رحلة من رحلات الحياة ورحلة في الرواية القصيرة أيضًا، تعود الضحكة والابتسامة، يختم نهايتها مجدي قائلًا: كأنّنا مُنحنا جرعة زائدة... لكنّها جرعة زائدة من الحياة. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: الجمعة 07-06-2024 08:04 مساء الزوار: 140
التعليقات: 0
|