د. سكينة مطارنة

بوسلهام عميمر/ كاتب وناقد من المغرب

بعد ديوانيها «بريق روح»، و»إيقاع بوح»، تطل علينا الشاعرة د. سكينة يوسف مطارنة في ديوانها الثالث «سفر وحرف»، من شرفة حديقتها الروحية، بقصائد تمتح من نبع روحاني شفيف. تتجول بنا على صهوة حروفها بين أرجائها، نتفيأ بظلالها، ونكابد مد بحورها وجزرها وهي تنسج خيوط حروفها الباذخات، لتؤكد أن السفر ليس ضرورة بالأميال والمسافات، بقدر ما هو سفر في ملكوت الروح، حيث الصفاء والنقاء والبهاء، بعيدا عن ضوضاء حياتنا الطينية. تقول بشاعرية لافته «سفر بلا جواز سفر، سفر عبر محطات القدر» ص82.

سفر في عمق الفكر على درب نظم الشعر. لا أحد ينغص عليها متعتها. تقول بجمالية لا تخطئها العين «سافرت عبر محيط، الفكر غصت في، محبرتي القريبة وصلت، لأعمق بقعة، واجتزت أميالا، عديدة، سافرت عبر مدارات، الغيب، مررت بألف محطة، ولم أختم جواز السفر، لم تطالبني الدنيا، بأختام كثيرة» ص89 إنه سفر لا مجال فيه حتى لتوقيتنا العادي المعمول به بيننا، تقول «بتوقيت الروح، أمضي، لا بتوقيت «كرينتش» ص12. هذا سفر الشاعرة، وهذه رحلتها، منه تمتح أفكارها وتنثره حبرا على بياضات صفحات دواوينها. «ويمضي الحبر، في رحلة اللاوعي، نحو الوعي في، سر الحكاية»ص76.

وبمهارة المتمكن من صرة صنعته، تمضي في الكشف عن ميلاد قصائدها الشعرية. إنه مخاض عسير، بقبضه وطلقه وآلامه، تقول واصفة حال أحدهم وهو ينظم قصائده «يجمع الحرف حينا، حينا يلقي به، ليبعثره، يغيب عن الوعي، بعض الشيء، ثم يعود الوعي، هو وحده يجلس، مع وحده، هو جالس في حضرة، الروح، والروح ما غادرت، دقيقة جلسته»ص92. فأي خيال شعري جامح هذا؟ إنها بقداسة لافتة تتحدث عن الحرف. إنها تعرف قيمته وجلال قدره. فالحروف عندها لها قدسيتها. لا تنتقل بينها اعتباطا. هي عمليات تحليلية دقيقة. إنها ليست لبنات بناء متطابقة. إنها تدرك أن أي تنافر بينها أكيد سيختل ميزان ما تريد قوله والتعبير عنه. فالانتقال من حرف إلى حرف يقاس بمسافات بعيدة لا بد من قطعها على صهوة الفكر والنظر وإعمال العقل بتعبير الفلاسفة. فنظم الشعر لدى الشاعرة أمر جلل لا شيء فيه يترك للصدف. تقول «أنتقل بين الحرف، والحرف، بخطى دقيقة التكوين»ص3. إنها تدرك أن قول الشعر صعب المراس ليس من السهل اقتحام عقبته. إنه وفقها ليس رص كلمات بعضها بجانب بعض في حلل قشيبة. للشعر قصديته، ودلالاته.

قبل الختم، لا بد من الوقوف مليا على مجموعة من القضايا، أولاها، الشاعرة وهي تتفنن في نقل أطوار تشكل نصوصها الشعرية، فهي تؤكد أن الشاعر فاعل في مجتمعه ومنفعل. بلغة شديدة اللهجة، تعلنها مدوية، «قد ضاقت بنا البلدان، لم يعد فينا، شغف البقاء»ص50

ثانيها، الشاعرة وهي تتجول بنا في حديقتها الروحية، مجال تخلق فسيفساء قصائدها، نسجل حضور الموسيقى في ديوانها حضورا لافتا، ابتداء من لوحة واجهته مؤثثة بنوتات موسيقية. فالفتاة وهي متوجهة نحو البحر مرفوعة الهامة، على نغمات موسيقى تبعث في نفسها الحماس. فعنوانها التحدي وركوب الأخطار من أجل تحقيق طموحاتها. إنها تتحدى البحر نفسه، وتعلمه أسرار الغوص. تقول بشاعرية رفيعة «تجاوزت البحر، أعلنت التمرد، لم يقيدني مده، لم يربكني جزره، كنت أعلم البحر، أسرار الغوص»ص13.

ثالثتها الديوان حافل بالتأملات الحياتية العميقة، تنم عن بعد نظر، وعمق تجربة، تقول في إحداها «في هذا العالم، ثمة صوت عمييييق، من السماء آت، يؤكد لي أن السماء تنصت»ص72.

رابعها، الشاعرة د. سكينة بحكم تكوينها الأكاديمي المعمق شهادة الأستاذية باللغة الإنجليزية التخصص الدقيق لغويات تطبيقية، وبحكم ازدواجية لغتها؛ عربية وإنجليزية، انعكس على نظمها للشعر، مما جعله على مستوى عال من العمق الفلسفي، تصريحا أو تلميحا. فالإبحار في يم شعرها ليس كأي إبحار. عادة ما تسكب فيها خلاصة حياتها، وعصارة تجاربها. أشعار تعكس فلسفتها في الحياة. فنجدها تؤكد على تيمة السفر عبر محطات القدر، وكان اهتمامها بسر الأسرار، واهتمامها بالأرواح. تقول «ويحدث أن يسير، المرء في مساحات روحه، بخطى الروح لا القدم، يخطو برقة الفكر»

ويبقى ديوان الشاعرة د. سكينة مطارنة لزخمه المعرفي، وعمقه الفلسفي، وجمال بنائه وجموح خياله، أكبر من أن تحيط به دراسة واحدة.