الشعر والزمن والحب في مجموعة «آيل للصعود» لعلي الفاعوري
عرار:
عمان :
د. محمد عبدالله القواسمة إن البحث عن الشعر وعلاقته بالزمان والحب في قصائد الشاعر علي الفاعوري هو بحد ذاته بحث عن موقف الشاعر من الشعر، ورأيه في وظيفته وطبيعته وخصائصه، وكل ما يتصل به. أسمينا هذه الظاهرة البوح الشعري، الذي يكون عادة من ذات إلى ذات أخرى حقيقية أو متخيلة باستخدام ضمير المتكلم، الذي لا يحسب حسابًا كبيرًا لمن هم في الدائرة البعيدة. ترى كيف تجلى البوح شعريًا عن الزمان والحب في قصائد الفاعوري التي تضمنتها مجموعته الشعرية آيل للصعود» (عمان: المؤلف، 2019) نلاحظ أن الشاعر يسلم نفسه للزمن الماضي، كما يعترف في افتتاحية قصيدة « غناء مستجاب» فليس له غير الذكريات يتعايش معها، ويشعلها بشعره الغنائي: على ما تيسر من أغنيات أسلم قلب القصيدة للذكريات (ص138) وفي قصيدة «نصف الحكايا» يسترجع الشاعر زمن الطفولة الذي بدأت فيه علاقته بالشعر، وما زال يجد نفسه تائهًا في أعماقه الواسعة. إن شعره يندمج في الزمن بل إن تاريخه يبدأ منذ إبداعه الشعر. دخلت إلى بلاد الشعر طفلًا طوته رياح قافية فتاها أحاول أن أفسر ما اعتراها فما أنا بالغ نصف الحكايا ولم (يحك) بتاريخي سواها (ص29) وشاعرنا رغم تقدم العمر، وتوالي المحن عليه، ورغم عدم فهم الناس لشعره فإنه ما زال في عز الشباب، فهو فتى قوي الإرادة، مواظب على قول الشعر، ولن يكل عن ذلك. حتى لو كل الطريق الذي يسير فيه فإنه لن يكل، ولن يتوقف عن قول الشعر؛ فهو يدرك دوره في الحياة. يقول في عزيمة كلاسيكية من قصيدة «آيل للصعود» التي حملت المجموعة عنوانها: لا فرق حين يتوه الناس عن لغتي ما دمت أعصر خمر الحرف من عنبي لا فرق فالشاعر المصلوب فوق دمي مازال رغم بياض العمر شبه صبي ما زال يلهو على أرجوحة حفظت عن ظهر عشق كلامًا قد من تعب تاب الطريق الذي قد شق ذاكرتي والشاعر الغض في جنبيَّ لم يتب (ص147) لا شك في أن ما تعبر عنه هذه الأبيات يتجاوب مع ما جاء في عنوان المجموعة، بأن الشاعر متجه نحو التفوق الشعري، وليس آيلًا للسقوط كما في العبارة المعيارية التقليدية. إنه ماض في الصعود في الشعر كما العمر أيضًا. في قصيدة «حوارية البحر» يخص الشاعر البحر بخطابه؛ لأنه يطوي في مياهه وعلى شواطئه أحداث التاريخ، التي غيرت فكرنا ومنطقتنا. يتمنى أن يغير البحر مما في حياتنا كما فعل في الماضي. أما بالنسبة إليه فإنه وجد أن وسيلته لتحقيق الرشد والهداية له هو الشعر: إن بدلت قصص التاريخ منطقنا يا بحر هيئ لنا من أمرنا رشدا هذي القصيدة ضوئي واهتديت بها من بعد ما ضيعت عيناي كل هدى (ص48 – 49) في موطن آخر من قصيدة « قوافي» يكون الشعر خير علاج للشاعر مما قد يحل به من ألم، أو حزن، أو تعب. إنه يعبر عن ذلك من خلال الحديث عن القافية: متعبة قافية الباء لكني أكتبها خوفًا من وجع يأتي ذات مساء وأنا لا أملك إلا قرص الشعر دواء(ص85) في قصيدة «الأسئلة» يسترجع الشاعر الزمن الماضي عندما كان الشعر خصبًا ونابضًا بالحياة، أما الآن فلم يعد يقوم بدوره، وضعف تأثيره في الساحة. لهذا فهو يدين هؤلاء الكتاب الذين أصبحت كتاباتهم جامدة لا تأثير لها بخلاف كتابات الماضين التي كانت فاعلة في صناعة الحضارة. أقلامنا البلهاء أين حروفها؟ جف المداد بها وكانت أنهرًا حتى فؤاد الشعر طال خريفه واصفر من فرط الغياب وأقفرا ص19 تقدم هذه الأبيات الزمانين: الماضي، والحاضر في تعبير واضح عن تغير الحال؛ فالماضي متحضر والحاضر متخلف، والذي يبرز هذا التغير ما جرى للشعر من انحدار. وكان استخدام لفظة «الخريف» للدلالة على هذه الحالة. أما التساؤل عن الكتابة، ونعت أصحابها بالبله فيحملان الأسى، كما أنهما يبينان أهمية الكتابة وتأثيرها، وبخاصة الشعر في الواقع. وفي قصيدة «عيد» يحس الشاعر بالزمن إحساسًا عاليًا، وهو يراقب مروره على الناس، وهم تائهون في الحياة غير مبالين بتلك السنين التي تأخذ من أعمارهم، لتنتهي بهم إلى النهاية الأكيدة. في خضم هذا الإحساس بالمصير الإنساني تبرز صور الغائبين الذين ابتلعهم الزمن، وفي مقدمتهم صورة الأب الذي كان له حضوره في طفولة الشاعر. في البعيد حيث نحن مثقلون بالجليد جالسون كالنعام فوق شوقنا البليد صافنون بالليالي تسرق السنين من أعمارنا تطفئ البهاء في أقمارنا تقودنا لحتفنا الأكيد من هنا أتوق يا أبي إلى يديك تشتري البلاد لي ..(ص83) لا يكتفي الشاعر بتناول الزمن وحده شعريًا في قصائده، بل في أحيان كثيرة يتناول الزمن وعلاقته بالحب الذي تمثله المرأة. ففي قصيدة» منام» نلاحظ تقلص الزمن في الحلم، وظهور الذات الشاعرة، وهي تتجه بخطابها إلى المرأة التي تقترب من الأسطورة بشفاهها الرخامية. على بعد ليل قليل هناك رأيت كرائي المنام يديك ترد علي السلام رأيت الكلام يسافر نحوك كي يستقر على شفة من رخام (ص134-135) وتذكرنا القصيدة وبخاصة جزأها الثاني بقصيدة درويش «يطير الحمام» . يقول درويش: يحط الحمام أعدي لي الأرض كي أستريح ونقرأ في قصيدة الفاعوري ما يذهب بأجوائها وفكرتها بعيدا عن التأثر بدرويش، بل إنها تجتاز الدرويشية بوضوح من خلال البعد عن المباشرة، وحضور المشهد في الزمن الآن باستخدام الفعل «رأيت»، ليكون ضمير الأنا شاهدًا على الحدث. لنقرأ قول الفاعوري: رأيت الحمام يحط على وجنتيك لكي يستريح(ص135). ويلتقي الشعر والحب والزمن في قصيدة «البوصلة»، ويحضر المكان ليكون بينهما، فيبدو الشعر مع أنه أم الكتابة لا ينبض بالحياة دون ذكر المرأة وجمالها، فدون ذلك يغدو صحراء لا حياة فيها. وفي هذا إعلاء للشعر والمرأة معًا، أما الزمن فهو الوعاء الذي قد تم فيه امتزاج الاثنين معًا. مري إذا سمح الزمان بشعرنا واستغفريه فقد قتلت بلابله ولترحمي أم الكتابة إنها صحراء دون رنين حرفك قاحلة (ص23) بل يذهب الفاعوري في قصيدة «تقاسيم» إلى أن الشعر من ابتداع المرأة. ويدفعه هذا إلى
الإعلان باسم الشعراء بأنهم سيهجرون الشعر ويتركونه لمبدعته الأولى. سنهجر صنعة الشعر اعترافًا بأن الشعر مخلوق «نسائي»! (ص38) وفي قصيدة «لعلي أزيد قليلًا» يبين الشاعر انشغاله الشعري بالحب والناس والذكريات. إنه يراجع في دفاتره الشعرية ذلك الماضي الذي عايشه. ويظهر اهتمامه الشديد بهذه القضايا بتكرار اللازمة الاستفتاحية» بكل اهتمام» دون أن يساعد ذلك على تحقيق أدبية النص الشعري. بكل اهتمام جلست ألم الكلام الذي قد حفظت طوال الحياة عن الناس والحب والذكريات بكل اهتمام ...(ص89) وفي قصيدة «خمس دقائق»، وهي كما يبدو في عنوانها إشارة زمنية واضحة؛ إذ يطالب الشاعر من تلك المرأة الأسطورية أن ترد إليه قصائده، وتعيد إليه بريق حياته: ردي إلي قصيدتي وأناملي كي أستعيد بريق وجهي الذابل (ص111) من اللافت أن معظم قصائد مجموعة الشاعر علي الفاعوري « آيل للصعود» لا تخرج عن ذاتها، ولا تغادر عالمها الشعري إلا لتتعانق شعريًا مع موضوعين أزليين الزمن والحب. فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائد المجموعة من البوح الشعري من خلال ذينك الموضوعين أو أحدهما. استند الشاعر إلى البوح الشعري في توزيع أفكاره على الحياة والناس، وأظهر بأنه يتخذ من الشعر أداة لمواجهة المصاعب والكوارث وعلاجًا لكل مثالب الحياة؛ فهو الذي يمنحه البقاء قويًا، ويجعله يواصل صموده وصعوده ولن يؤول إلى السقوط بل سيظل يصعد مدارج الرقي. لقد قدم الفاعوري عالمه الشعري بموسيقى تعلو أحيانًا لتتجلى في قصائد عمودية، وتهمس أحيانًا أخرى لتتجسد في قصائد من شعر التفعيلة. وفي الأحايين كلها تتجلى الألفاظ المأنوسة، والصور المبتكرة، والرموز الموحية في صناعة ماهرة لا تتمرد كثيرًا على التراث، ولا تغرق في التقنيات الحديثة كاستخدام الأقنعة والميثولوجيا والأساطير.