|
عرار:
موسى إبراهيم أبو رياش على الرغم من أن كاتب رواية «الجوسق» نوَّه في الصفحة الأخيرة أنها رواية وليست تاريخًا، إلا أنها وضعت القارئ في صلب التاريخ المتخيل ومتاهاته؛ ابتداء من مائة مليون سنة سابقة، مرورًا بالجن وآدم عليه السلام، ومن بعده إدريس ويوسف وموسى وداوود وسليمان عليهم السلام، ونبوخذ نصر وانتهاء بياسر عرفات وأبو مازن وإسماعيل هنية وغيرهم لغاية 2019، وطوفت بين الجزيرة العربية وخاصة اليمن، وعُمان ومصر وصعيدها، وبلاد الشام وفلسطينها. في بداية الرواية، يشعر القارئ أنها تقفز من حدث إلى حدث، ومن عصر إلى عصر مختلف، دون روابط واضحة، ولكن ما تلبث الخيوط أن تتصل وتتشابك، ويتضح نسيجها المتقن المحبوك بمهارة، وكل ذلك من خلال راوٍ عليم؛وهو كائن غريب عجيب اسمه «قمبز»، لديه علم الأولين والآخرين، ويعرف أسرار التاريخ ومخبوءاته، وحقائقه وأكاذيبه، وهي حيلة سردية ذكية، مكنت الكاتب من الإحاطة بموضوع الرواية قديمًا وحديثًا، بعيدًا عن أي اعتراض أو إشكال. اشتغلت رواية «الجوسق»للأردني حيدر مساد على تأكيد الهوية الفلسطينية الضاربة في عمق التاريخ، منذ قينان/كينان حفيد آدم عليه السلام، ونفي أي علاقة لبني إسرائيل بفلسطين على مرّ التاريخ، وأن مزاعم وجود ممالك لهم في فلسطين، وهيكل سليمان، محض أكاذيب وتزييف لحقائق التاريخ. وتتبنى الرواية الرأي القائل أن ممالك بني إسرائيل كانت في جنوب الجزيرة العربية، وأن بني إسرائيل قبيلة عربية بائدة، قضى عليها نبوخذ نصر، وهدم الهيكل، وسبى من بقي منهم على قيد الحياة، وهي في هذا تتقاطع مع أطروحات الدكتور كمال الصليبي في كتابة«التوراة جاءت من جزيرة العرب، 1985»، ومع ما ذهب إليه الدكتور أحمد بن سعيد قشاش في كتابة «أبحاث في التاريخ الجغرافي للقرآن والتوراة ولهجات أهل السراة، 2018»، ومع كتب ودراسات فاضل الربيعي وخاصة: «القدس ليست أورشليم، 2009»، «فلسطين المتخيلة، 2007»،«إسرائيل المتخيلة، 2017»، وغيرها. تناولت الرواية ظروف ظهور الجن الذين تسلطوا على أقوام البن وأبادوهم، وخلق آدم وخروجه من الجنة، وأبناء أدم وأحفاده وذريته، وانتشارهم في الأرض، وحربهم للجن والقضاء عليهم في كل مكان يصلونه، بقيادة قينان، ومن ثم نشوء بعض المناطق والممالك، وخاصة بيسان وفلسطين والبيت الحرام والقدس وغيرها، ثم عرجت على التاريخ الحديث ومزاعم الصهيونية بحقها في فلسطين، وأنها زورت التاريخ، وفبركت الأحداث، واختلقت حضارات؛ لتدلل على وجود ممالك لليهود في فلسطين، وأن أشهر علماء الآثار اليهود عيزرا، لم يجد بعد أربعين عامًا من التنقيب في فلسطين أي دليل على هذه المزاعم، بل وجد ما يثبت كذبها وزيفها، وكشف حقائق صادمة تنسف كل مزاعم اليهود من جذورها، ويسلم ما توصل إليه إلى ياسر عرفات، وما لبث أن قتل فورًاعلى يد الموساد، وأوعز عرفات بتهريب الأدلة والملفات إلى غزة، ودفنها في مكان حصين بحراسة مشددة، ومن ثم تسلمت مسؤوليتها حركة حماس، دون أن يعرف أحد ماهيتها ما عدا إسماعيل هنية، وأخيرًا تعود إلى أبو مازن الذي يزور سلطنة عُمان؛ ليعرض على السلطان قابوس الحقائق التاريخية، ويطلب مساعدته في البحث عن معبد سليمان، وعندما يتأكد السلطان من وجود بقايا المعبد، يقوم بإطلاع القادة اليهود عليها بما فيهم نتياهو، ولكنهم على الرغم من الحقائق الساطعة والأدلة القاطعة، يتوافق القادة اليهود على إخفاء الحقائق، والتخلص من كل الأدلة والشهود، ويحاولون الاستيلاء على ملفات وأدلة عيزرا، فيفشلون، وتنتهي الرواية على إسماعيل هنية، وهو يقرأ رسالة البروفيسور اليهودي عيزرا إلى ياسر عرفات، والتي يقول في خاتمتها: «والخلاصة، أننا يقينًا، لم نكن يومًا هنا يا سيدي»، وهي العبارة التي جاءت كعنوان ثانوي على غلاف الرواية. عنوان الرواية «الجوسق» كما توضح في ثنايا السرد، جاء من اسم القصر الذي بناه قينان/كينان له ولزوجته زهرة، الذي أصبح مركزًا لمنطقة كبيرة عرفت باسم «أرض الأحزان»، وتحور الاسم فيما بعد إلى «بيسان» شمال شرق فلسطين. اللافت في الرواية، أنها جنحت للتفاؤل في تأويل بعض الأحداث ومنها: الصراع بين السلطة الفلسطينية وحماس، وأنه توزيع متفق عليه للأدوار، وكل منهما يكمل الآخر. وزيارة نتنياهو لسلطنة عُمان، فهي كانت بطلب من السلطنة؛ لكشف حقائق التاريخ التي تكذب المزاعم الصهيونية، والتي تثبت أن لا علاقة لهم بفلسطين. وتأكيد وجود شريحة من اليهود ترفض المزاعم والممارسات الإسرائيلية، وتحذر من خطورة وجود دولة إسرائيل. تأتي رواية«الجوسق»لحيدر مساد، استمرارًا لجهود الروائيين العرب لتأكيد الهوية الفلسطينية، ومقاومة العدو إبداعيًا ومعرفيًا، وتنوير الأجيال وخاصة الشباب واليافعين، بجذورهم وحقيقة الأوهام الصهيونية، وخداعها للرأي العام العالمي، وتزوير التاريخ، والقضاء على كل الأدلة والشواهد التي تتنافى وتتعارض من مروياتهم المختلفة. وقد تميزت الرواية بلغتها الجميلة، وسردها السلس، وقد نجحت في إثارة القارئ ودهشته وخاصة في ثلثيها الأخيرين، عندما بدأت الخيوط تتشابك، أما في ثلثها الأول، فقد لا يطق بعض القراء صبرًا على إكمالها؛ ظنًا منه أنها مفككة وغير مترابطة، وأحداثها مختلقة ومتخيلة لا علاقة له بها، ولا تهمه من قريب ولا بعيد. وأظن أنه كان على الكاتب أن يحرص على أيقاع القارئ في المصيدة منذ الصفحات الأولى، ولا يترك له مجالًا للهرب وتنحية الرواية جانبًا. وبعد؛؛؛ فرواية «الجوسق، تطوير لتنمية المهارات-القاهرة، 2019، 270 صفحة»، على الرغم من بعض الملاحظات البسيطة، وخاصة اللغوية، إلا أنها رواية ماتعة مثيرة، تستحق القراءة، وتستدعي البحث والتحقق من كثير من المسلمات التاريخية، وضرورة الشك في الحقائق المزعومة، وغربلة التاريخ، والتبصر في الأحداث الجارية وعدم أخذها على ظاهرها، فثمة لعبة داخل لعبة كما يقولون، والعاقل من لا يتعصب لبشر، وإنما الإخلاص للقضايا والمبادئ والقيم، فالأشخاص زائلون ويتغيرون، أما المبادئ والقيم والحقوق فهي راسخة وإن علاها الغبار، وتنكر لها الصغار، وحاربها الأشرار والأغيار. مصدر / الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 21-03-2020 01:41 صباحا
الزوار: 976 التعليقات: 0
|