|
عرار:
الدراسة القيّمة التي كتبها الأستاذ الدكتور" محمد عويد الساير" عن المجموعة القصصية ( المطر الأعمى) قصص قصيرة جدا. هي بحث قيّم لطالبي العلم من باحثي الدراسات العليا. كل الشكر لجهودك الكبيرة سعادة البروف ، وكل الشكر للفنان" مطيع الجميلي" على تصميم الغلاف، وللفنان " دهام بدر" على الرسومات الداخلية. والشكر الكبير لدار- أفاتار- مصر على اصدار المجموعة بمعرض كتاب القاهرة برفة باقي الروايات عام 2019. شاعرية السرد في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً، الرئيس الفخري لمؤسسة عرار العربية للإعلام مجموعتها ( المطر الأعمى ) مثالاً. الأستاذ الدكتور محمد عويد محمد الساير كلية التربية الأساسية في جامعة الانبار. ما يشبه التقديم: هذه دراسة تكشف أسرار شاعرية السرد عند القاصّة وفاء عبد الرزاق في فن القصة القصيرة جداً. هذا الفن الذي أصبحت له مكانة خاصة ومتميزة في النقد الأدبي الحديث(1)، لما اشتهر به من عناصر فنية وجمالية جعلته يتفوق على كثير من الفنون الأدبية الإبداعية الأُخرى، ولاسيما في الدهشة والإيحاء والترميز، فضلاً عن أهداف القصة القصيرة جداً ومضامينها التي لا تخفى على الجميع. فضلاً عن العناصر البنائية وتقانات القص، من مثل الزمان والمكان، ومن مثل المفارقة، والتناص، واللغة الشعرية، وكلٌّ بحسب إمكانية القاص وموهبته في القصّ، وتمكنه من هذه العناصر، وثقافته وتجربته التي تجعل القارئ والمتلقي قريباً من فنه، أو يقرب من هذا الفن بشكل كبير ومؤثر. والقاصّة العراقية وفاء عبد الرزاق، قاصّةٌ لها لغتها الشعرية المتميزة، ولها ثقافتها الخاصة، ولاسيما الإبداعية في النظم والكتابة في هذا الفن الذي يحتاج إلى ثقافة خاصة توحي بتأثير كبير على القارئ والمتلقي والدارس والناقد. لقد اصدرت هذه القاصة المبدعة أكثر من مجموعة قصصية واحدة، في فن القصة القصيرة جداً، ولعلّ مجموعتها الأخيرة هذه ( المطر الأعمى ) تبينُ عن فلسفة حياتية خاصة، وعن تجارب معيشة كثيرة مرّت بها القاصة في حياتها، وفي ملابسات هذه الحياة على نحو ما سيتضح من خلال مفردات هذا البحث، بإذن الله تعالى... لقد ارتأيت – ومن خلال القراءة المتكررة لهذه المجموعة القصصية-، أن أُحاور شاعرية السرد في هذه المجموعة من خلال العنوانات الآتية:- • المكان وشاعرية السرد. • الزمن وشاعرية السرد. • المفارقة وشاعرية السرد. • التوليد وشاعرية السرد. على أن أُتبع هذه العنوانات بدراسة أُخرى مستقلة عن عتبة العنوان – الوظيفة والدلالة – في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً في هذه المجموعة، فهما – المجموعة والقاصّة- يستحقان أكثر من دراسة في هذا الفن الإبداعي، الذي انتشر وذاع على الساحة الأدبية العربية، وأصبح لا يضاهيه فنٌ إبداعي آخر، مهما كان.. المكان وشاعرية السرد:- لقد أدرك الانسان ومنذ قديم الأزمان الأثر المتميز والمهم للمكان، بأنماطه وأنواعه ودلالاته كافة. بل، وعلاقة هذا الأثر بوجود الكائن الحي في كلِّ زمن. ومن هنا شاعت مقولة المرزوقي ( ت421هـــ ) الشهيرة، إنَّ الأفعال لا تقع إلّا في زمان ومكان(2). ولقد غطى المكان هذه الأهمية في الدراسات الأدبية و التاريخية والفلسفية الحديثة والمعاصرة، كما كان في أهميته على الواقع المعيش(3). وكذلك قسّم الباحثون والدارسون والمتخصصون في الأدب العربي المكان إلى أقسام كثيرة، وإلى أنماط عدة، كلٌّ بحسب الدراسة، وبحسب النص الأدبي، وبحسب ظروف منشئه وقاله(4). ومن هذه الظروف ما يدور في خلد القاص وفكره، وما يقع تحت تأثيره وهو يكتب في القصة القصيرة جداً، من اختياره للعنوان إلى آخر كلمةٍ فيها. ويكون المكان بأهمية قصوى في القصة القصيرة جداً، إذ نراه أحياناً هو الذي يحرّك الأحداث، ويرتب – ما استطاع إلى ذلك سبيلا – حركة الشخصيات وصولاً إلى الهدف أو المغزى من هذه القصة أو تلك. وأحياناً، يأتي ليكثّف الحدث، وليرمز إلى تلكم الشخوص من خلال أمكنتها ( مواضعها... ومترادفات هذه اللفظة )، ليبني عناصر السرد الأُخرى، وليجعل القصة في وحدة متماسكة بناءً وجمالية. وأحياناً أُخرى يكون للمكان تأثيره السحري بأن يكون ممثلاً ثبتاً للتجربة الذاتية عند القاص، ويرتبط باللحظة النفسية والشعورية التي يقع فيها وهو يكتب القصة القصيرة جداً... ومن هنا حاز المكان كلّ هذه الأهمية، ونال هذه الشهرة الكبيرة في الدراسة والكتابة والنقد، وبقي من أوائل اهتمامات الناقد وهو يحاور أيّ نصٍّ أدبي إبداعي. في قصص وفاء عبد الرزاق ( المطر الأعمى )، نرى للمكان أنماطاً كثيرة ودلالات أكثر، نعم، إنه المكان الذي تعيش فيه ( الجديد )، أو الذي تحنُّ إليه ( الذكرى )، أو الذي تنتقده من خلال القائمين عليه، والقاطنين فيه ( الإغتراب + الغربة )... وهلّم جرّاً. إنَّ السابر لأغوار القصة القصيرة جداً في هذه المجموعة ليرى ذلكم الكم الهائل والكبير لاستنطاق المكان ووحداته في هذه القصص. ويتشاكل هذا الاستنطاق مع عناصر السرد الأُخرى، ولاسيما مع الزمن، ومع اللغة لإظهار القصة بالمظهر الجمالي والبنائي المؤثر، ولكي تكون أكثر قدرة في الوصول إلى المغزى والهدف بانسيابية وحلاوة وهدوء. في قصتها القصيرة جداً ( ممكن )(5)، نرى البيت المكان المتخيل الذي يختفي وراء السرد، ويقصُّ لنا مشاعر اليتيم وهو يعيش في بيت فارغ إلّا من الهواء. وإلّا من فضلات الأغنياء التي يلقونها في المزبلة، ليبحث عنها أُناس آخرون، أصبح هذا البحث عنده وظيفة، أو أشبه بالوظيفة... كما يعلم أولئك الأغنياء؟! تقول القاصة وفاء في قصتها القصيرة جداً هذه: ( كان من الممكن أن يرى اليتيم طرف الصحن، لو لم يكسره الطفل الغني المشاكس... كان من الممكن جداً أن يلتقط حبَّات الأرز المنثورة أرضاً، الرجل المسن وهو يبحث عن مثيلاتها في المزبلة... كما كان الأجدر من ذوي الأمر أن يعمّروا الضوء الباهت لو أحصوا عدد أحذيتهم المستوردة ). من البداهة أن القاصة هنا تريد مفارقة ملحوظة في المكان والحياة والمعاش بين بيت اليتيم، وبين بيت الغني. إنَّ هذه الثيمة المكانية كانت في وجدها، وبين مكنون أفكارها وهي تكتب القصة القصيرة جداً. والمفارقة ولغة القصة العالية، أوضحتا إلى حدٍ كبير ومتميز مغزى القصة وهدفها. أما المكان الاجتماعي هنا، فهو ذو المكانة الخاصة في نفس كلّ انسان وهو رمزٌ للسعادة، أو عنوانٌ للشقاء، وهو ( ليس مجرد صندوق ساكن، فالمكان المسكون يتجاوز المكان الهندسي )(6). ومن هنا جاءت هذه الأهمية للمكان ( الاجتماعي )، وكيف قصّ ارهاصات الحياة الصعبة والقاسية والمؤلمة لكثير من الناس في عالمنا العربي اليوم!!! وأما في قصتها القصة القصيرة جداً ( طفلةٌ، وقبر )(7)، تزداد هذه المشاعر المؤلمة والسوداوية عند القاصة وفاء في مجموعتها القصصية هذه. فالطفلة التي ماتت، والقبر ذلك المكان المعادي والنتيجة الحتمية التي يؤول إليها الانسان بعد المصاعب والمشاغل(8)، كان كفيلاً بأن يُظهر مشاعر الكاتبة احسن اظهار. وهنا اختارت الكاتبة وفاء القبر، ليكون مكاناً يحتضن الأحداث، فهي تُعبّر عن مشاعرها من خلال هذه الثيمة المكانية، وكذلك هي ترفض الواقع المرير الذي تعيش فيه من خلال مشاعر أُمّ هذه الطفلة، ومن خلال الموت، ومن خلال القبر... تلكم المشاعر التي لطالما تكررت في قصصها، وفي عموم أدبها، وذلك الواقع الذي رفضته، ودعت للثورة عليه، والهروب منه. تقول في قصتها هذه: ( قبل أن يمضي خيالها، راقبته، كان مضموم اليدين مهيئاً للإحتضان. يانعة نظرة الأم التي ودعت قبر ابنتها، كانت العائلة حولها حين التهمت النار الجباه. بقيت صورة منها، طفلة الخامسة، بعين أمها كلّ شروق شمس، تأتي إليها ليضيئ القبر الخيوط الذهبية في المروج ). وأحياناً نلمح المكان المفتوح في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً. كما في قصتها (قصر)(9)، في مجموعتها ( المطر الأعمى ). هذا القصر، يبدو ثميناً، وفيه من آثار الترف والتنعم.. إلّا إنّه غير مسكون، أو يعاني فراغاً من ساكنيه. إنَّ الساكنين هنا هم من يحقُّ لهم السكنى في هذه الأمكنة الفارهة، المترفة. إنّه فارغٌ من أولئك الناس الذين وصلوا إلى مجدهم وتألقهم وابداعهم، وهم من أبناء المدافن، أو الحارات، وليسوا أصحاب هذا القصر، أو سواه؟! تقول القاصّة وفاء في قصتها هذه: ( في القصر، تتزاحم الأشياء الثمينة، وشوشةٌ في القصر وصخب... لكن الصالة على الرغم من امتلائها تضج بالفراغ ). الثيمة المكانية هنا ( القصر )، استولت على القص، وأحكمت بناءها السردي فهي التي تحرّك الحدث، وهي التي تصنع النهاية، وهي التي أوضحت المفارقة، التي هي هدف القصة ومغزاها. لا أبعد كثيراً عن انسجام المفارقة والمكان في قصص وفاء عبد الرزاق في مجموعتها هذه. فالقصة القصيرة جداً والتي وسمتها بـ(غرفة)(10)، هي الأُخرى طرحت مغزاها وهدفها ومضمونها من خلال المكان، والمفارقة اللفظية. لنقرأ قصتها هذه: ( في الغرفة، تمدد ونام، وبقيت الحشرات في رأسه يقظة. في الغرفة انعكست الأشياء، تمددت الحشرات، وبقي هو صاحياً يبحث عن بالوعة ). ولا شكَّ في أنَّ الحشرات هنا أيضاً أسهمت في الكشف عن مغزى القصة القصيرة جداً وهدفها، وهي التي وقعت بين مكانين (الغرفة والبالوعة) وقصّت علينا الكره والبغض للواقع بين هاتين الثيمتين. والقاصّة أحسنت في توظيف الحشرات، وعموم أصناف الحيوان في قصصها. وهذا شيءٌ يُحسبُ لها ثقافياً، كما يحسب لقصصها، وسائر أدبها فنياً وبنائياً وجمالياً، ولاسيما في فن القصة القصيرة جداً، والذي فيه غالباً ( ما لا يمكن للمتلقي أن يستقبل حضور الحيوانات استقبالاً بريئاً، بل يحتاج التعامل معها إلى شيء من التوجس المؤدي للكشف، والشكّ الباعث على المعرفة... )(11). ولعلّ ما يؤكد كلاًّ من هذا، ويدعمه منهجياً وبحثياً ومعرفياً قصتها القصيرة جداً (منحدرات )(12)، وكيف كان التوظيف بالرموز الحيوانية حاضراً، فضلاً عن الطيور، وفضلاً عن المكان الوعاء الذي احتوى كلّ هذه الرموز، وحكى لنا كلّ تلك الارهاصات التي تعيش فيها القاصة وهي تكتبُ قصتها هذه. تقول: (المنحدرات الصامتة، بلا حواس، في عتمة جحورها تختبئ الزواحف والقوارض. الصقور تحلّق عالياً باحثة عن الله، والقوارض تدينها لأنها الأقرب للرب ). وأحياناً تجرحُ اللغة الشعرية في القصة القصيرة جداً عند وفاء في مجموعتها ( المطر الأعمى ) المكانَ، تستنطقه عتبةً، أو وسيلة نقلٍ، أو مظهر صناعي، أو حضري، ولكن تبقي عليه في أمل، وأمل منشود ومشروع في تحقيق الهدف والمغزى، والوصول إليهما بشكل لغوي رائع، وبشكل بنائي قيّم يوحي بالصنعة المتقنة والنسج المحكم في البناء والمشاعر، وعمق التجربة الأدبية في التعبير عن تجربة الذات ومعاناتها على هذا الاسلوب السردي القصصي. ومن ذلك قصتها (تهيئة)(13)، وفيها تبدو السفينة مكاناً منشوداً للتغيير. كما تقول: ( السفينة تتهيأ في زجاجٍ أزرق... حركةٌ واحدةٌ ويفيضُ التهشُّمُ ). وفي قصتها ( نوافذ )(14)، العتبة هنا أوحت بالمكان واللغة الشعرية المحكمة، أبلغتنا المغزى بمفارقة درامية متكررة. تقول: ( النافذة تحلق ذقنها وتتجمل. النافذة تحلق ذقنها؟؟ البداية مشطورة الهوية، غامضة الجنس ). وفي قصتها ( شجرة )(15)، تبدو اللغة أكثر وضوحاً وخيالاً. ويبدو المكان منسجماً في التعبير عن المشاعر. بشكل درامي قشيب. وكذلك يبدو الخيالُ مزيناً للمفارقة، ولقلب المألوف بشكل واعٍ ودقيق من قبل القاصة وفاء. ولعلّ العلاقة بين مضمون القصة هذه، وبين عنوان المجموعة بكاملها، متحدٍ بواقعية، ومتناغمٍ بشكل كبير ومألوف، وهو ما تريده القاصة، وتسعى إلى تحقيقه دائماً. تقول في قصتها هذه: ( شجرة الحديقة، ترقصُ ببطءٍ عند اندلاع المطر، تبتّل به راضية صامتة، صافية الذهب، منظرة وجه الشمس. تبللت كثيراً شجرة الحديقة، تبللت مغمورة بالماء، حتى أغرقها ال.. م.. ا... ء ). إنك لتشعرُ - مع القاصة – بتشنج فكري، وشعور وأنت تقرأ الكلمة الأخيرة مقطّعة صوتياً ولفظياً. وهي هي في الحياة، وفي الخير، وفي الأمل. ولعلّ هذا المطر، وهذا الماء، وهذا التبلّل أوحى بشيءٍ من التفاؤل، وبشيءٍ من المحبة. تدعى الألفاظ الأُخرى التي جاءت داخل القصة (الرقص، الذهب، وجه الشمس ). ولا شكّ في أنَّ التناص الديني مع القرآن الكريم بقي خفياً، يوحي بثقافة بعيدة لتعكس هذا التفاؤل وذلكم الأمل والمستقبل. هنا تكاتفت عناصر كثيرة بنائية وجمالية ودلالية ودينية لتصل بنا القاصّة إلى مغزى قصتها وهدفها، وفيها من الإتقان الكبير في جمع هذه العناصر، يمثل هذا التكاتف البنائي الروحي والجسدي. وعن قصتها القصيرة جداً، والتي وضعت لها عنواناً مكانياً يمكن أن يؤدي مترادفات كثيرة، وهو ( دولاب )(16)، تأتي المفارقة بشكل قسري على الألفاظ لتعبّر عن هذا المكان، الذي يبدو أنه كان مؤلماً معادياً يرمز إلى البؤس والشقاء في الحياة ولكن من النواحي الاجتماعية ولاسيما الملبس. تقول في قصتها هذه: ( الواقع، دولاب ملابس عتيقة، الملابس تلبس أحذية مطاطية، تسير ( الجزم ) في المدينة معلنة سيطرتها على مداخل الدولاب ). هذا المكان الحضري ( المدينة )، يتشاكل جلياً مع السير لهذه الجزم التي تسيطر على مداخلها، وهي ليست في مكانها، ولا في رضاء الناس عليها. إنَّ – القصة – نقد اجتماعي وسياسي لاذع، أُخذ من واقع مرير تحاول القاصة جاهداً أن تثور عليه، وأن تتغلب عليه كلّ حين... كما أسلفت. وفي قصتها القصيرة جداً والتي وسمتها بـ( مستنقع)(17)، تبدو المصطلحات الدينية التي تدلُّ على العبادة وذكر الله حاضرة أيّما حضور في بدء القصة. ولكن سرعان ما انقلبت القاصة على هذه الديانة شيئاً فشيئاً بالمرض، والانكسار وحتى للرعد، الصوت الذي لا يمكنه أن ينكسر. ثمَّ آل الأمر إلى المستنقع وهو لفظ هجين ومكان مهجور إلّا من الآفات والحشرات الضارّة، والأمراض والأوبئة. وهنا تكمن نهاية القصة، وخاتمتها في المفارقة وفي إيضاح المضمون من المكان، والوصول إلى المغزى بدهشة وحيرة غالباً ما تكون من مواصفات القصة القصيرة جداً، ومما يبحث عنه القارئ والمتلقي في هذا الفن الإبداعي السردي. تقول القاصة في قصتها ( مستنقع ): ( اذَّنوا، العاصفة تبشر بالرحيل، الغيوم الجائعة تحزم حقائبها، فاذَّنوا: ( حيَّ على الرحيل ). سجدوا لإقلاع مراكبهم، وسحبوها نحو الداخل. كانت رحلة مريضة في مئذنة، ورحلة الرعد سور مكسور. المستنقع، لم يكن هارباً أو مؤذناً بالرحيل... كان يتفرج على الأضواء الشاحبة ويعلن ( ستفرج الأزمة ) ). في قصتها القصيرة جداً (الغامض)(18)، نرى بعداً أكثر واقعياً للغة. إنه الخيال التأليفي فقط الذي يقوم على الألفاظ والتراكيب والجمل. وكان المكان منتشراً هنا وهناك بين هذه اللغة، وفي مضمون هذا الخيال، بزهوٍ وواقعية، قلَّ نظيرهما في مثل هذه القصص القصيرة جداً... تقول القاصة وفاء في قصتها هذه: ( رأى قُبَّرةً صامتةً، جلس قرب البحر بعيداً عنها، ناظراً إلى عناءِ زهرة بين الصخور، محاولاً معرفة نظرة القُبَّرة إليها.. كلاهما صامت، حتى أفكاره التي طارت بعيداً ولم تعد. طهّر الفضاء مما علق به من دعاء المحتالين، الكذابين، القتلة، وتيقن أنّ اللّامع بين الغيوم، الذي يملأ الأجواء سحراً، هو ذلك الصامت منذ الأزل، المتطلّع إلى القُبَّرة والزهرة بين الصخور ). وأمّا في قصتها ( مدينة )(19)، فقد كتبت بلغة شعرية، وبديكور شعري، فيها الدهشة، فيها الإيحاء. في هذا الفن القصصي المراوغ أحياناً، بل والمتمرد على أُمه اللغة في كثير من الأحايين. لنستمع لقصتها هذه: ( صخرة بلا أحلام، تجوب في المدينة. المدن الصخريّة مجرد زحام يتحرك، حمقى الندم، لا تتأوّه، تشخر، الأشجار التي اخضَّرت... ما زالت تدفعُ ثمن الإنتماء ). من البداهة أن القصة هنا، أو أن اللغة هنا حملت هذا التمرد على الواقع، وحملت كلّ هذه المشاعر في الألم والكره والبكاء على دفع ثمن الإنتماء بين الشجر الأخضر، والصخر اليابس. وهنا تلاشت الأحلام، وكأن الناس حمقى في زحمة الحياة، التي لا ترحم، ولا تريد أن ترحم. المكان هنا (مدينة )، حضر فيه الصراع للقوي على الضعيف، للصخرة على الشجر، مهما كانت هذه الأشجار جميلة قوية طويلة الأمد، ولعلَّ فكرة القصة وضحت، ومغزاها بان... ولا أزيد. في آخر قصة قصيرة جداً، والتي جاءت في المجموعة القصصية ( المطر الأعمى )، بلا عنوان على هذا التشكيل (....)(20)، يمكن لنا أن نقول: إنَّ المفارقة وضحت بين الإتكاء على الرمز الحيواني هذه المرة. وهي تثير الدهشة، وتوغل في الإيحاء إلى حدٍّ كبير. والمكان هو الذي أحتضن هذه المفارقة، وهذا الرمز، وحكى تلكم الدهشة، وذلكم الإيحاء. على أنَّ العنوان كان من الممكن أن يكون ( رؤوس، الأبكم )، أو ( بلا رأس )... وهنا سيغيّب المكان الذي أرادته القاصة، والذي أدار الحدث المفزع، فكانت نبيهة جداً إلى ترك القصة بلا عنوان، عنوان متخيل يمكن لأيِّ أحدٍ أن يقترحه، أو أن يحاور نفسه به، على أن لا يبعد عن مضمون القصة وهدفها. تقول: (قطعوه، شمالاً لأرانب ورؤوس مسطحة وسطاً، لخنازير برية، جنوباً للجدب. وما زالت روحه شاهقةً الأبكم... ). هكذا تنتهي رحلة المكان في هذه المجموعة القصصية، كان مكاناً أليفاً ومعادياً، حضرياً وغير حضري، فيه الرمز الحيواني، وفيه التكثيف وفيه المفارقة، وفيه الواقع المرير الذي عاشته الكاتبة، ويبدو أنها ما زالت تعانيه إلى المستقبل المجهول، الذي لا تظهر فيه سمات التفاؤل ولو من مكان جديد، أو من مكان بعيد، يقرب مهما بعُد... الزمن وشاعرية السرد:- للزمن أثره الفعال في حياة بني البشر، وله ما للمكان من تأثير في الإنسان من ولادته حتى وفاته. وتثير التحولات الزمنية إحساساً بالثنائيات ومؤثراتها في حياة الإنسان وأفعاله، كالوجود والعدم، والبقاء والفناء، والحياة والموت... وغيرها. كذلك تشير هذه التحولات إلى تبدّل الفصول، وتغيّرها من الحر البرد، وبالعكس، وفيما بينهما، تأثراً سلبياً أو ايجابياً. إنَّ الزمن متوغلٌ في حياتنا اليومية بأدق تفاصيلها، إنه ( نظام منسق على أساس علاقة متسلسلة مبنية على ارتباط سببي )(21). ومن هنا فللزمن معانٍ مختلفة، قد تتشابه وقد تتباين، وله أبعاد شتى في الفلسفات المختلفة، وفي القيم المختلفة، كالاجتماعية والنفسية والعلمية والدينية... وغيرها(22). على أن لا نبعد عن الحقيقة وجادة الصواب العلمية والبحثية حين نقول أن الزمن في الأدب هو زمن نفسي يحكي نفسية الأديب، ويروي مراحل حياته التي قال فيها هذا النص أو ذاك. وإن الزمن في القصة هو زمن حكائي للسرد، وهو مع المكان يمثلان قمة التجربة الأدبية في حياة القاص، وكيف يمكن له أن يوظّف هذا الزمن إلى جانب العناصر السردية الأُخرى للوصول إلى هدف كلّ قصة ومغزاها ومضمونها، وما يريد القاص ايصاله إلى القارئ. وزمن الحكي هو زمن الكتابة نفسه، كما يقول د. عبد الملك مرتاض: ( إنَّ زمن الحكي هو زمن الكتابة نفسه، ومن السذاجة بمكان فصل الكاتب عن زمنه الحاضر إذ جنح للماضي.. فليس ذلك السلوك إلّا خضوعاً لمتطلبات السرد التي تقتضي سرد الماضي منذ فجر التأريخ الأدبي الإنساني)(23). إن زمن القاصة وفاء عبد الرزاق في قصتها ( المطر الأعمى ) زمن خاص يمثل صراعاً حقيقياً بين الذات والسرد، بين الحاضر والماضي، بين القديم والحديث. وهو زمن نفسي غير مقيد بمعايير خاصة، وإنما يقتحم السرد اقتحاماً بكلمة أو عبارة، أو بشطر عبارة ليترك بصمته الواضحة على السرد وعلى القصة التي غالباً ما تكون بصمة محزنة، أو فيها من آثار الحزن الشيء الكثير. ولا يختلف الزمن ووحداته عند القاصة وفاء في مجموعتها القصصية هذه من التعاضد مع المكان والمفارقة... فضلاً عن اللغة في كشف مستور السرد، وبيان هدف القصة إلى القارئ والمتلقي. وقد وضحت بعضاً من عناصر الزمن النفسي، ووحداته عند القاصة وفاء من خلال دراستي للمكان في مجموعتها القصصية ( المطر الأعمى )، ولعلَّ ذلك الزمن، وذلك التوظيف له من قبل القاصة سيتضحُ أكثر من خلال المفارقة واللغة، ولكني سآتي إلى قصص قامت على الزمن ووحداته، ترجمت السرد، وعبّرت عن الأحداث فيه، من خلال هذا العنوان من البحث، وإليك الأمثلة والتحليل والنقد... في قصتها ( واجبات )(24)، تبدو هذه الواجبات مقسمة على الاحساس بالزمن وضرورته، إذ تتحسس القاصة الزمن عبر مراحل الحياة، وتسعى إلى كشف عن ما هيته من خلال المكان والشخوص والأحداث. تقول في قصتها: (حقيبةٌ مملوءة بالفروض والواجبات، بالفصل الجديد، عليه أن يكون مشغولاً عن انسانيته، أو متجرداً عنها، بعد منتصف السنة الدراسية، كان فعلاً مشغولاً عن انسانيته في البحث عن لقمة عيش لإخوته الستة.. وكان مشغولاً أكثر مما ينبغي عن طفولته ). نرى أنَّ الزمن هنا متغير، أحياناً مختفياً بالفصل الجديد، وأحياناً يتضح عند المنتصف في السنة الدراسية، الذي فيه التحول إلى شيءٍ آخر تريده الكاتبة بين الفصل الدراسي الأول وبين الفصل الدراسي الثاني، ربما بين الشتاء وبين الربيع، ويأتي زمن الطفولة، زمن الاغتراب الذي كان يعيش فيه من جديد من خلال إخوته، ومعاناتهم. إنه زمن نفسي داخلي، فيه الكثير من مشاعر الذات المبكية المتألمة التي تحسُّ بوطأة الحياة، وبواقعها المرير المبكي في كلّ لحظة. وأمّا في قصتها ( أعمار)(25)، تتضح في هذه القصة القصيرة جداً اهتمامات كثيرة من قبل الكاتبة بالزمن، وهو زمن الحدث، ولجأت فيه الكاتبة وفاء عبد الرزاق إلى تقنية الاسترجاع في سير أحداث القصة، والرجوع إلى الزمن الماضي، ثم إلى الزمن الذي بعده، ثم إلى الزمن المعيش... الذي كان زمناً قاتماً ظالماً غائماً غيماً أسود في أكثره، حتى تساقطت به الأحلام، وضاعت فيه الأُمنيات إلى لا رجعة... كما في قصتها: ( في العشرين.. كانت حياته مستودعاً قديماً.. في الثلاثين.. اختصرته الأرصفة.. في الستين.. بعد أن تساقطت الأحلام بغزارة وضاعت في الوحل، شكر الفاتح الأعظم الذي خطط جيداً كيف يكون السوط... عميقٌ جداً بحر الكفن ). فنلحظ براعة الكاتبة في حصر مفردات الزمن وتكثيفها بهذا الشكل، وهذه المفردات هي التي طرحت الأحداث وبنت القصة بناءً حكائياً ولفظياً واقعياً بعيداً عن الخيال، بعيداً عن البيان، بعيداً عن التزيين إنها في زمن الغربة، في زمن نفسي صعب وقاتل لا تزويق فيه للمشاعر ولا تزيين..... ولا كذب! في قصتها ( حلم )(26)، من المؤكد أن العنوان يطرح مفارقة لفظية قائمة على الزمن الحلم، ولكن هذه المفارقة اتضحت من خلال السرد الذي قام عند الكاتبة في هذه القصة من خلال الاسترجاع، وقصّ أحاديث الذكريات، إنما أشبه بسيرة ذاتية موجزة جداً، أبقت على مشاعر متألمة، وظلال مبتورة، وحلم لا يمكن أن يكون واقعاً أبداً؟!! تقول القاصة وفاء في قصتها هذه: (عيناه معصوبتان بالورم، ودمه صوب الصراخ يتأوه.. تلك لحظةٌ إن سدَّ العالم أذنيه، واشترط أن تكون الجدران مرشوشة بالدم. حين رآها بعد خمس سنوات، لم ينظر إلى الحفر التي تركتها قدمه البلاستيكية، كان يتوسل حضنها أن يكون بحجم ضمَّته، اللحظة أعادت نفسها، حين كان معصوب العينين، وحلم بذراع ليحتضن لعبتها التي تراقصت بالهواء مع أصابعه، وبقيا ظلين مبتورين، وطفلين يتلوَّيان ). وأحياناً يأتي الزمن بوظيفة إبلاغية في قصص وفاء عبد الرزاق في مجموعتها القصصية القصيرة جداً ( المطر الأعمى )، وهذه الوظيفة الابلاغية تنطوي على تمسك الكاتبة بحق الدفاع عن حقوقها الأدبية، وبعد أن رأت جهلاً من الأدباء والشعراء وأهل اللغة، بدقائق اللغة، ومعانيها، وكيفية انشادها(27). وهنا تلاشى أثر الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأصبحت الأعوام سواء، والسنون سواء، وكلُّ ما في هذي الحياة سواء. رياضة نمارسها في سنين طويلة لتنتهي بالسواد، أو بما يشبهه، ويا للهول؟! تقول القاصة وفاء في قصتها ( تزلّج)(28): ( الشمس تتزلّجُ في الّلا معنى، وتصبح حراشف سوداء. العام الماضي، الأعوام التي قبله، المستقبل، لا فرق، طالما الّلا معنى رياضة وتزلّج ). نعم، هكذا أصبح الأدب فعلاً رياضة وتزلّجاً، بل وضحكاً على الذقون والدارسين والباحثين والناشرين!!! إنها مأساة أُخرى تطرحها القاصة وفاء من خلال قصصها القصيرة جداً هذه، وما أحلاها من طرح. في قصتها ( فصول )(29)، لم توضح القاصة وفاء عبد الرزاق إلّا فصلين ويكأنها تدخل الفصلين الآخرين بين الشتاء والصيف، بين الحر والبرد. فالحياة كلّها إما صيف، وإما شتاء – في نظر الكاتبة طبعاً -، أما الأيام فهي التي تقطع تذاكر هذين الفصلين، وهي التي تشير إلى هذا الواقع الذي شبّهته القاصة بـ(الباب) عتبة المكان المفتوح، ونصف مهدوم، ونصف مغلق مستعدٌ للهدم. والزمن والمكان يؤديان الحدث، ويفضيان إلى الغربة التي تريدها القاصة من قصتها، ومن الفصول التي جاءت عنواناً منها. تقول: ( الصيف شاحنة، الشتاء قاطرة، الأيام تقطع التذاكر، وتشيرُ لبابٍ نصفه مهدوم ونصف مغلق ). وللتوضيح أكثر في مضامين هذه القصة وأهدافها، وعناصرها البنائية ولاسيما في الزمن والمكان إليك هذا المخطط:- الزمن فصل الصيف فصل الشتاء (زمن) الأيام قطع التذاكر (حدث) ( مكان) الباب عتبة المكان المفتوح النصف المهدوم النصف المغلق (المهدوم مستقبلاً). الغربة: في الزمن والحدث. وأما في قصتها التي وسمتها بـ ( أصوات )(30)، فنعود مرة أُخرى إلى التكثيف والضغط من خلال عناصر السرد وتقاناته وآلياته، والمؤثرات فيه. ولقد وضحت أكثر هذه المسميات في هذه القصة، فبعد الزمن المتقارب بين الصباح والمساء، يأتي المكان، وهو المكان المحبب والأليف الذي يتناغم فكرة وجمالاً ومضموناً مع التحية الصباحية أو المسائية. وكذلك تأتي اللغة الخيالية في وردّ السلام، والكناية المفعمة بالأمل والبسمة من خلال هذه اللغة. وأما الذئب- الحيوان المعادي- فبقي يعوي بالحديقة مع هذا الورد، ومع هذا السلام، ومع هذا الخير في الصباح والمساء. إنه العدو الذي أصبح صورة بلا خوف، واسماً بلا عنوان. إنَّ الزمن والمكان واللغة قضوا على أعداء هذا الحيوان، وسلبوا منه صفاته المكروهة، وأبقوه حملاً وديعاً، ليس فيه إلّا اسمه. تقول القاصة في قصتها: ( صباح الخير، لم يرد أحد، مساء الخير كلّ شيءٍ هادئ ولا جواب. يرقد النائم بأمان، لا يفكر بالانتباه وردِّ السلام.. يعوي ذئبٌ في الحديقة، دخل الدار والنائم لا يفكّرُ بالانتباه ). وعن قصتها القصيرة جداً ( أوقات )(31)، فيأتي تقسيم الزمن النفسي على أوقات اليوم الواحد. وكلّ قسم من أقسام هذه الأوقات فيه عمل، فيه حدث، فيه حزن وشجن. الكاتبة هنا وفقت في استنطاق وحدات الزمن على اليوم، وتركت نهاية القصة وخاتمتها مفتوحة توحي بالتأمّل، ولتزيد من دهشة القارئ وتتركه يختار أوقاتاً جديدةً في اليوم الجديد، الذي يلي هذا اليوم، وأوقاته تُلحق بهذه الأوقات. تقول القاصة وفاء في قصتها هذه: ( عند الصباح، كان يحمل غرس الشجون، وحزناً عابثاً بالقلب... عند الظهيرة، أخذ المدى بين يديه وامتلأ. عند المساء، ارتدى امتلاءَهُ واندسَّ بينَ النجوم ). إنَّ الزمنَ أصبح في الوقت الحاضر جزءاً لا يتجزأ من النتاج القصصي والسردي وعند أيّ أديب وقاص في كلّ مكان، ولا ينفصل عنه، ولا يمكن لقاص أن يتجاوز تأثيره وسحره، فهو منسوجٌ في ذاكرة القاص ومخزون فيها، تستدعيه اللحظة الحاضرة أولاً بأول على غير نظام وترتيب – غالباً- لذلك لا تكتمل الأحداث في تسلسلها الزمني في نهاية القراءة ويعاد ترتيبها إلّا في مخيلة القارئ، وهذا ما تأتي به الدهشة في وظائف القصة القصيرة جداً، فلا تظهر الأحداث في كتلة نصية متكاملة لها خصائصها الفنية، ولكن نراها منتشرة في النص القصصي كلّه، أما مهمة جمعها في صورة متكاملة، ومعرفة ما فيها مغزىً وجمالاً فهي مهمة القارئ(32). ولعلَّ هذا الكلام في أكثره، وفي أغلب مناحيه ينطبق على قصص وفاء في مجموعتها هذه، التي استعملت فيها الزمن استعمالاً حاضراً وفي لحظة الحدث، ليقصَّ أثر الماضي بتقنية الاسترجاع. فأكسب قصصها القصيرة جداً هذه دهشةً وإيحاءً يبحثُ عنها المتلقي والناقد على حدٍّ سواء. المفارقة وشاعرية السرد:- لا أُغالي كثيراً إذا قُلت: إنَّ هدف القصة القصيرة جداً الأول والأخير هو إثارة الدهشة عند القارئ والمتلقي، وجعله يتابع هذا الفن الإبداعي السرد الموجز المكثف بشكل مدهش ومحيّر إلى خاتمة كلّ نص ( قصة ) فيه. ولعلَّ المفارقة أكبر ركيزة تقوم عليها الدهشة، وهي التي تُبين عن نمطها وآلياتها في القصة القصيرة جداً، فتعدُّ المفارقة في القصة إحدى أُسسها الجمالية والدلالية، فالقصة لا يمكن أن تبنى بدون المفارقة، ولا تخلو قصة منها، أو من أحد أنواعها فهي التي تصل بالقارئ إلى المغزى والهدف الذي يريده القاص من قصته. والمفارقة في القصة، وفي القصة القصيرة جداً، عُرفت بأساليب متنوعة، وأشكال مختلفة، سواءٌ أكانت في البناء أم في المضمون، أم مع الحدث. فهناك المفارقة اللفظية التي تقوم على تزويغ اللغة، وعلى التناقض والتضاد. وهناك المفارقات الدرامية التي تشترط التوتر القصصي، والشخصية التي تحمل مفارقات ازدواجية، مقصودة وغير مقصودة... وإلى غير هذه الأنواع من المفارقات (33). ويرى محمد غازي التدمري: ( أن المفارقة هي العنصر الأهم في بنية القصة القصيرة جداً، لأنها العامل الأهم في تحريك كمون شحنة اللغة باتجاه الفعل، الذي يحرك بدوره أنساق الدلالات بهدف الانتقال من الانفعال إلى الفعل، مشكلاً حركة تصادمية تسعى إلى تعميق احساس المتلقي بالأشياء المحيطة به )(34). وتأتي المفارقة بأشكالها وأنواعها عند القاصة وفاء عبد الرزاق في مجموعتها القصصية الجديدة في القصة القصيرة جداً ( المطر الأعمى ). وعودٌ على بدء، رأينا كيف كانت المفارقات منتشرة هنا وهناك في المكان وبين أنماطه وآلياته، وكيف وظّفت القاصة هذه المفارقة مع الثيمة المكانية أحسن توظيف فأثارت الدهشة وأدّت مضمون القصة القصيرة جداً وهدفها ومبتغاها. وكذلك كان الحال مع الزمن ووحداته، ولو أنّ الزمن كان أقلّ استعمالاً واشارة في قصص هذه المجموعة، إلّا إنَّ المفارقة كانت حاضرة بشكل فاعل، وقوي ومؤثر في وحدات هذا الزمن المختلفة، وحققت الدهشة ورسمت الإيحاء في لغته، وأوصلت القصة إلى مغزاها ولاسيما في خواتيم القصة القصيرة جداً عند القاصّة وفاء في مجموعتها القصصية هذه. وإذا فتّشنا عن باقي فنون المفارقة وأنواعها في هذه المجموعة القصصية رأينا المفارقة تتشاكل بين العنوان ومضمون القصة، وفي لغتها، وفي وصفها، فضلاً – طبعا – عن المكان والزمان... فيها. ففي قصتها القصيرة جداً ( قدّاحة )(35)، نرى اللغة وتكرار المفردة اللفظية أكثر من مرة واحدة هي من ترسم المفارقة، وتبينُ عن ماهيتها في جسد القصة اللغوي والفني الجمالي. تقول: ( بين العينين أولعت نفسها، سيل ضوء، سيل دمع، سيل نار، وهي تودّعُ آخر ذراع هرستها القضية الكبرى لحرق الوطن ). نعم، القضية أكبر من هذه القدّاحة، وأكبر من هذه النار. إنّه الوطن المكان ( الأم )، الذي نبكي عليه كلّ يوم ولا ندري متى يتوقف هذا البكاء؟! ومتى يتوقف هذا الحرق؟! السيلُ هنا المبالغة في الدمع والبكاء والنار، أوحت بتلكم المفارقة، وأبقت القارئ في دهشة لتتبع كلمات وجمل القصة القصيرة جداً حتى وصلت به إلى الإحراق، وليته لم يصل؟! وأما في قصتها القصيرة جداً، والبديعة جداً والتي وسمتها بـ( بالتأكيد )(36)، فالمفارقة مكثفة تكثيفاً آنياً، أي إنّ زمن القصة هنا يقع في وقت قصير وهو بعد غروب الشمس، وتقوم المفارقة على استنطاق الألوان ومظاهرها المختلفة لكي تخبرنا عن هذا الغروب، وعن هذا الحدث، وعن كلّ هذه الأمكنة التي جاملت المفارقة عند القاصّة وتركتها في جمال وبهاء لا يوصفان. تقول القاصّة في قصتها هذه: ( قالت الشمس المنحدرة من أعلى الجبل:- بالتأكيد سأرسل السطوع إلى الخضار الباهر لتلك الشجرة، وسأمرُّ على أكداس طحالب متعالية أخبرها:- إني أُشفق عليك كثيراً، فلا أحد يراك غيرك.. سأبكيكِ بهدوء المشفق ). وأما التناص، ولاسيما التناص الأدبي، فكان ملمحاً مثيراً للمفارقة عند القاصة وفاء في مجموعتها القصصية هذه. ومن ذلك قصتها القصيرة جداً التي عنوانها ( استعانة )(37)، والتي يلعب فيها التناص الأدبي مع أحد نصوص الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيّاب، إلى جانب التكثيف المميز ولاسيما في الخاتمة أثراً مهماً في رسم هذا الملمح، والوصول إلى المغزى والهدف بجمالية وتقنية لغوية ودلالية محكمة. تقول: ( الاستعانة بالتحريات للكشف عن وزير مجرم، على الرغم من أنها ترسل أحياناً تقريراً إيجابياً، لكنها كأستعانة مريض بحفّار قبور). فمن البداهة أنَّ هذه المفارقة أُخذت من واقع مرير عاشته القاصة، أو تدرك أنّ شعبها يعيش في هذا الواقع، ولذا فهي تدعو إلى الثورة عليه، والانقلاب على مثل هذه الشخصيات بأيّ شكل من الأشكال، وبأيّ نوع من أنواع القوة والشجاعة. وصنو هذا المغزى جاء في قصتها ( صفعة جديدة )(38)، وهنا تتجشم القاصة عناء سبر الوظائف الدلالية والنفسية للألوان وإيداعها في المفارقة اللفظية في قصتها القصيرة جداً هذه. وتترك القصة في جمالية وتكثيف قلّما نجد نظيره عند أهل هذا الفن في أيّ زمان، وفي أيّ مكان. تقول: ( من أسوأ الأمور أن يُضرب المرء على قفاه، ويغمس اصبعه، سيتحول الحبر الأزرق إلى أحمر قريباً، قريباً جداً سينتشر الجذام ). ويكون مثل هذا التعبير عن الواقع عند القاصّة وفاء بشكل أكثر دموية، وأكبر تأثيراً في قصتها القصيرة جداً ( امتلاء )(39)، وهنا نأتي إلى أمكنة مختلفة تشرح لنا القاصة مفارقتها من خلالها، وكذلك إلى الشخص المتخيل ( القائد الجديد )، الذي ترى فيه القاصة السمات الحقيقية ليفجّر المعجزة، ولينقلب على هذا الشارع ( الأحياء )، ولينعش حتَّى آمال المقبرة (الأموات )... ومتى سيكون؟! تقول في قصتها هذه: ( امتلاء الشارع بالناس، لا يعني أنَّ الشارع مزدحم، القبور أيضاً مزدحمة بالموتى... الشارع المقفر يمشي على رؤوس الناس ويرسم الخريطة. شخص واحد ممتلئ بالشوارع، بالناس، مضطرب بها، يكسر الأقفال ويفتح أبواب المعجزة ). وأما في قصتها القصيرة جداً، والتي وسمتها بـ( سؤال )(40)، فتلعب علامة الترقيم ( علامة الاستفهام ) أثراً في رسم المفارقة التضادية، القائمة على التناقض بلعبة حسابية رياضية، غايتها مران الذهن، وإثارة الدهشة، ولكن من جهة المفارقة، ومن جهة هذه الأرقام، التي أرى أنها حققت شيئاً في جسد القصة عند القاصة وفاء، وتركت إبداعها بشيءٍ كبير من التألق والتميّز. تقول في قصتها البديعة هذه: ( كم شخص في واحد يساوي أربعة، أنا أقول: خمسة في واحد يساوي أربعة. اضربوا أربعة في واحد، كم بقي ليكمل العدد شكله بالمقلوب؟ من يحزر سأهديه هذه (؟؟؟؟ ) ). وأما في قصتها ( مأساة )(41)، فكانت المأساة كبيرة حقاً، حين أخطأ هذا الشاعر، تجوزاً، والأدهى والأمر أنه سمع كلّ هذا التصفيق الحار والكبير على هذا الخطأ، من قبل أُناس يحسبون على الثقافة، وعلى الثقافة الأدبية تحديداً. وما على الجمهور أن يكون بوعي متكامل بأسباب هذه الثقافة، وبأهميتها، وكيفية انتشارها بين أبناء المجتمع. المفارقة هنا كانت من خلال الحدث، القاصة نقلت هذا الحدث بواقعية بلا نزيف، أو تزييق أو تجميل في الكلمات والدلالات والصور، إنّه حدث أشدّ إيلاماً من ذلك الواقع المؤلم المعيش، وأكبر جرحاً من أولئك الأيتام، وأشدّ فجاعة من الجوع والألم والمطر الأعمى ( الجهل المرض الاغتراب )، ويا لها من نكبات ومصائب حلّت على بني العرب. تقول القاصة في مأساتها هذه: ( مذهل، مذهل، مذهل. كان مذهلاً، الشاعر الذي قرأ قصيدة في محفل أدبي.. حين رفع النصب، تحسس جيبه، وحين كسر المرفوع، عرف بيقين أنه شاعر كبير، حين سمع التصفيق. لم يدر بأنّ من صفق له جاهل مثله ). وفي قصتها القصيرة جداً ( سريعاً يمرّون )(42)، نراها تحكي لنا سرقات أصحاب الشأن والقائمين على الشعوب العربية، والحاكمين، أو المتسلطين بالحكم فيها. والمفارقة هنا بدت في خاتمة القصة، وأما باقي القصة فهو واقعي مأساوي قاسٍ، بقساوة هذه الألفاظ والتعابير المستعملة في القصة منذ الاستهلال إلى الخاتمة، لنستمع لقولها فيها: ( يمرون سريعاً، بينما الساعات معلقة على الجدران، صامتة مثل إعلانات فاشلة، ومتفرجة على عازف الكيتار الذي يجمع التبرعات للمسنين، بالموسيقى والعزف. العربي المسرع مثل الآخرين استذكر.. في بلده يسرقون التبرعات ويحرمون الموسيقى ). وفي قصتها القصيرة جداً ( نعيق )(43)، نرى الأحداث تتوالى مسرعة، وكذلك المفارقات الدرامية واللفظية تنثال انثيالاً غير مسبوق في هذه القصة من قصص المجموعة بكاملها. وهذه المفارقات لم تخرج عن الواقع الذي طالما تحدثت عنه القاصة في قصصها القصيرة جداً، وفي عموم أدبها، وكثيراً ما ألمحنا إليه في دراستنا لهذه القصص، أو دراستنا لقصص القاصة الأُخرى. واستجلت القاصة هنا مظاهر وثيمات مكانية عدة، وكذلك جرحت اللغة وأتت بفنون البيان، وأنواع الخيال، لترسم تلك الوجوه النائمة، ولتحسن التكثيف في المفارقات، والألفاظ، فضلاً عن المكان والأحداث. لنستمع لقصتها هذه: ( في منتصف الليل، مرّ القطار مسرعاً، فتح الركاب أعينهم ليستوضحوا المحطة. لم يمر القطار، لم يكن سريعاً، ولم يستوضح المسافر. في الكرسي الخلفي، نهض راكب، يستوضح وجه الله، السيف وجه الله والعِمَّة صورته. السيف وجه الله والعِمَّة صورته.. هذا ما لقنه ببغاء مستيقظ لصافرة القطار. روح الله ترفرف حول القطار، لتحول حورَ العين إلى خبز يطعم الجياع ). السيف هنا، غضب الله – سبحانه-، والروح رحمته – عزَّ وجل – هؤلاء الموتى على لائحة الانتظار لا يريدون اليوم الجنان ( الحور العين )، إنهم يريدون الرحمة ( الخبز الحياة عيش الأطفال )، فقط؟! أنى يسمع الجالس على كرسيه، أنى يجيب قبل أن يمّر القطار ويُنسى كلّ شيء، ويذهب كلّ شيء من الجالس هذا، إلّا اللعنات، والسُباب، والطعن واللعن والفحش، ولكن هل من مُجيب؟! وهل من مُتعظ؟! وبمثل هذه اللغة العميقة الحادّة، تكون المفارقة الدرامية واضحة للعيان في قصتها القصيرة جداً والتي عنوانها ( أجنحة )(44)، وهنا يبدو هذا الحيوان ( الخنفس ) محلّ جدل وإثارة في المفارقة، ويبدو المكان جلياً في استظهار المفارقة ولغتها، والهدف من القصة القصيرة جداً واضح وبين لا يحتاج إلى طول تفصيل، وكثرة تحليل. تقول القاصة في قصتها هذه: ( تندفها الأفكار غالباً لتصبح نجمة، لكن الخنافس تملأ المكان بالدخان، فيصبح الهواء رمادياً، والأرض دوّامة. تدلَّت السنوات مطرقة الرأس، والوقت صار خنفسة ). وتنفتح هذه الأمكنة وهذه الأزمنة وهذه الألفاظ على مفارقات أكبر، في قصتها القصيرة جداً ( جنون )(45)، الذي يبدو أنه كان جنوناً حقيقياً مارسته القاصة في غربتها ورحلتها عن بلدها منذ وقت مبكر جداً من حياتها، هذه أهداف القصة القصيرة جداً، إنها كباقي فنون الأدب بوحٌ عن المشاعر والتجارب المعيشة في أصعب الحالات التي يولد فيها الإبداع عند المبدع... تقول في قصتها هذه: ( يدور بطيئاً حول الأرض، بدخل المنافذ كلّها، تسقط بين يديه ورقة خارجة من بيت الهواء، مستقبلة الريح المجنونة مثلها. يفتحها مستوضحاً المعنى، تفلت من يده لتمارس الجنون. تسقط ثانية في حضنه، يأخذ كرسياً ويجلس عليه بالمقلوب. يفتحها ليستوضح الواقع. كان الأسفل في الأعلى. والأعلى في الأسفل، ومكتوبٌ أيضاً: العتمةُ بقعة سوداء لن تشع. وإياك أن تسأل ). وأما في آخر قصصها القصيرة جداً والتي نقف عليها في هذا العنوان من البحث، فهي قصتها ( أبله حالم )(46)، وهي تظهر كم كانت عميقة هذه المأساة التي أوسخت حتى الماء؟! وكم هي عميقة هذه اللغة التي استخدمت في هذه المفارقة الضدية، وفي عموم القصة، بل وفي عموم قصصها هذه. تقول: ( يغسل التربة كلّ يوم بدلو الماء. اتَّسخ الماء، وغابت التربة). لقد استطاعت الكاتبة وفاء عبد الرزاق في مجموعتها القصصية القصيرة جداً ( المطر الأعمى)، أن ترسم مفارقات فنتازية في الكثير منها وأن تتخذ طابع السخرية الخلّاقة الصريحة، القائمة على اللغة التي أُستعملت ببراعة ودقة عالية، وأضفت على أحداث القصة وأمكنتها وأزمنتها قوة كامنة تنشيطية للذهن وللعقل عند المتلقي. وانتهت أغلب القصص بواقعية في المغزى والمضمون اسهمت المفارقة بأنواعها في التعبير عنه بشكل صريح ومباشر، وبشكل هزلي وسافر، وبشكل لغوي ودلالي وجمالي مؤثر. هذه المفارقات التي قامت القصص على الكثير منها، وهي تربط الواقع بذهن القاصة المتخيَّل، الساخر الخلّاق في الكثير من أدبها.... اللغة وشاعرية السرد:- تستوعب اللغة أبعاد القصة القصيرة جداً، وتعدُّ لها الوعاء المادي الذي يكسب دائماً تلكم القصص وجوداً واقعياً(47). ولغة القصة القصيرة جداً هي لغة شاعرية تؤدي المضمون، وتكشف المفارقات التي تأتي مع الحدث في جسد هذه القصة. على أن تكون هذه اللغة – مع شاعريتها -، ذات إيحاء يفرضه موضوع القصة وآليات البناء القصصي الأُخرى. وكلّما أتقن القاصّ صنعته في اللغة كلّما تكاملت وتناغمت نسجاً وجمالية عناصر هذا البناء، ولاسيما في التكثيف والتركيز، الذين هما من وسائل الإمتاع والبناء في القصة القصيرة جداً من خلال لغتها. وقصص وفاء عبد الرزاق في مجموعتها القصصية ( المطر الأعمى ) كانت شعرية وواقعية جداً. فبعض هذه القصص في هذه المجموعة كانت إنشائيةً تنسجم إلى حدٍّ كبير مع الإبلاغية التي جاءت القصة من أجلها. وبعضها الآخر، جاء في لغة بسيطة، تحمل واقعية اللفظ ومدى تأثيرها الشفاف، أو مدى تعاضدها مع المفارقة – الساخرة غالباً – في التعبير عن المغزى والهدف من هذه القصص. وامّا في أغلب قصص القاصة وفاء، فتعلو فيها اللغة الشعرية علوّاً مهيباً، وتطفو في علوّها على جميع عناصر السرد الأُخرى، حتى لكأنك تقرأ نصاً شعرياً في جسد نثري سردي. فالقاصة لها باعٌ طويل في نظم الشعر، ولها تجربة محمودة مشكورة فيه، كذلك ثقافتها الأدبية العالية، وسعة اطلاعها على الموروث الثقافي والفكري بأشكاله كلّها، اسعفتها في لغتها المكتوبة في أيّ جنسٍ أدبي تختار الكتابة فيه، أو النظم فيه. إذا ما ولّيت وجهي وقلمي شطر قصص هذه المجموعة ( المطر الأعمى ) لأحاور لغتها الشعرية وجدتها لغة صارخة تعجُّ بالألفاظ الجزلة والأساليب القوية لتأدية الغرض، وتصل إلى الأهداف. في قصتها القصيرة جداً ( عبث )(48)، نلمح مثل هذه اللغة، وتظهر جلياً جداً مثل هذه الألفاظ والأساليب، وصولاً إلى الهدف، إلى المغزى، إلى المضمون الذي غالباً ما يكون مفزعاً، نعم أنه في نهاية قصتها هذه موحياً جداً ومزعاً جداً جداً... تقول القاصة: ( عبثاً تحارب الأسود الذئاب، وعبثاً تتظاهر لنيل الحق، ما تعلو في السماء ليست الغيوم، بل غابة صراصير، من المفترض أن تكون تحت أقدامنا.. كلّ شيءٍ جائع، حتى غيومنا الآنيَّة هطلت لتأمل الفضاء، المعطَّر بفضيلتنا.. ما تستوطن في السماء، ليست النجوم، رؤوسنا المتوَّجة بحكمة الرب ). وتستمر مثل هذه اللغة الشعرية القوية، ذات الألفاظ الجزلة المفعمة بالجناسات والتضادات والتورية، لتستولي على النص السردي في القصة القصيرة جداً عند وفاء في مجموعتها هذه. وهذا إذا دلَّ على شيءٍ إنما يدلُّ على اتقان في الصنعة، وإحكام في البناء اللغوي الدلالي الجملي لهذه القصص. ولعلَّ من أمثلة هذه اللغة ومدلولاتها في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً قصتها (الصرخة)(49)، التي تقول فيها: ( صرختهم المدويَّة، ستركن إلى الصمت قريباً.. لكي تخافُ العاصفة، على البرق أن يأتي قبل الرعد وبعده.. ما يطوفُ حول النخيل، صار ثعابين من أجل أن أيسود العمى.. ستبقى الأرض لهم، ونحن، الغرباء ). نلحظ أن الديكور الفني في كتابة القصة القصيرة جداً هنا يماثل كثيراً الديكور الفني للنص الشعري، ولاسيما في قصائد الشعر الحر، وقصائد النثر. واللغة قوية مُتقنة تستنطق المكان والأشجار والحيوان. أما في نهاية القصة وخاتمتها فيأتي التشبيه ليرسم علوّ هذه اللغة ويزيد جماليتها واتقانها. هاك خاتمتها التي تقول فيها: ( كم هو نبيلٌ هذا الخبز الشقي، مثل ومضة سكرانة، يتعجَّل في تحاياه ويغادرنا). وأما في قصتها القصيرة جداً والموسومة بـ( إجازة )(50)، فبدءاً أقول إنَّ العنوان يظهر فيه التناص مع أحد نصوص يوسف الصائغ الشعرية الشهيرة والذي جاء العنوان فيه ( إجازة )، فضلاً عن الديكور الفني الذي كُتب فيه القصة، أشبه بالديكور الذي كُتب فيه نص الصائغ الشعري وتفعيلاته، ناهيك عن اللغة التي لعبت فيها الأفعال المبنية للمجهول لعبتها الخطرة الكاشفة عن المضمون، الراسمة لمشاعر القاصة وهي في إجازة طويلة عن الوطن، وقد حلّ فيه ما حلّ في هذه الإجازة.... تقول: ( الآهة طويلة، لكن اللحظة في إجازة.. الحديقة الفاتنة في إجازة.. سُرقت، الأنهار، أُقتطفت، الأشجار مجرد تماثيل عُرضَت للبيع.. واللحظة في إجازة... ). وأحياناً توغلُ القاصة إيغالاً عميقاً في مشاعرها الحزينة هذه تجاه الواقع – في الوطن- وتجاه من يحكم هذا الواقع، أو يتحكم بهن ومن أوصله إلى السواد، إلى المرض، إلى الجوع، إلى المطر.. المطر الأعمى! واللغة هنا كانت ذات إيحاءٍ كبير، وتأثير أكبر في قصّ هذه المشاعر، والوصول إلى الهدف والمضمون بشكل مدوٍّ لا يرحم هذا الواقع ولا من تسبَّب في خرابه بأيّ شكلٍ من الأشكال تقول القاصة وفاء عبد الرزاق في قصتها القصيرة جداً ( شجرة الحاضر )(51): ( تدفأت أغصانها.. بأيةِ شمسٍ تدفأت أغصانها، لتعكس ضوء الرؤوس المتدلية؟ الثمار الناضجة، أليست صالحة لليقظة؟ الشجرة العملاقة سكران قمرها، والليلُ إلهٌ مريض. كلّ شيءٍ نائم إلّا العتمة التي شرَّعها إلهٌ مريض ). وفي قصتها ( همس )(52)، تتابع اللغة الشعرية في قصص وفاء عبد الرزاق فاعليتها وتأثيرها الساحر على القارئ والمتلقي. وهنا يأتي التكرار بجنس اللفظة، مع عنوان القصة ليرسم هذه الفعالية، وليفعّل فينا هذا التأثير مع الكاتب وقصته. تقول: ( يهمس الصباح للندى، يهمس الندى للورد، تهمس الوردة للعطر.. تحوم الفراشات حول ثوب المرأة الذي صافحته الشمس على حبل الحديقة ). ليس التكرار أو الجناس هو كلُّ شيءٍ في لغة هذه القصة. فلا شكَّ في أن الاستعارة أيضاً أبدعت في هذه اللغة، وتركت القصة في خيال قشيب، ودلالة محكمة وفقت إليها القاصة أيما توفيق. وأمّا في قصتها القصيرة جداً (انصاف)(53)، فاستخدمت القاصة في العنوان إيقاعاً لفظياً ثابتاً. وفي المضمون فصّلت الحديث عن هذه الأنصاف وجمعتها، بضربات لغوية وايقاعية مكررة تكراراً شديداً، في كلّ تكرار كناية عن هذا الوجه المشمئز، الوجه البشع، الجاهل الذي يدّعي الثقافة؟! تقول في قصتها هذه: (نصف وجه، نصف مثقف، نصف رجل، نصف غريب، نصف تائه، ونصف مطمئن... أحياناً يدور حول أنصافه التي تشمئز منه وهو يتحدث عن الثقافة ). إنَّ لغة القصة الشعرية غالباً ما تتمرد على المعيارية في القصّ أو الحكي، فهي ( تختصر في جمل قليلة ما يمكن أن يُكتب في صفحات كثيرة، ويتحقق هذا الفعل اللغوي بوساطة انهمار لغوي لا يستمد عذوبته من فصاحة الكلمات ولا من صليل الايقاع اللغوي الجهير، وإنما من موسيقى الحياة الأليفة وهي تغمرك بضباب يخلو من تفصيلات حية تتفتح عنها ذاكرتك وأنت تمتزج بها وأنت تقرأها فتحقق بينك وبينها درجة عالية من التماهي)(54). إنَّ ما قاله أُستاذ النقد الحديث والمعاصر د. صلاح فضل لينطبق كلّه أو جلّه على قصص القاصّة وفاء عبد الرزاق في مجموعتها هذه. ولا أدلّ على ذلك من قصتها القصيرة جداً في هذه المجموعة التي عنوانها (بيوض)(55). والتي تبدو فيها التكرارات اللفظية دالّة بعمق على مشاعر القاصة في وصف هذه العاصفة، ناهيك عن المكان ( العاصفة، الشارع، الدار، الشوارع )، وتفاعله مع لغة القصة، وفي التعبير عن هدفها. يتوجّه التشبيه في خاتمة القصة، وقد ترك القصة في خيال مصوّر لمشاعر الكاتبة، ولدلالات مفتوحة تسعى إليها القاصة في خواتيمها دائماً. تقول في هذه القصة: ( تضع العاصفة بيضها في الدار. ثمة شعور بالتكاثر يقتحم الشارع. الشوارع تتحلّق حول العاصفة مثل أم ). وفي قصتها ( أشباه )(56)، تبرز لغة احترافية في استخدام الألفاظ والجمل والتراكيب في قصص وفاء عبد الرزاق. هذه الاحترافية مكّنتها من الوصول إلى هدف القصة ومغزاها بغنائية جميلة، وبدرامية محمودة، كما أراها أنا. تقول في هذه القصة: ( المؤتمرات لا تتشابه، إنما تشابه بعضها في حبوب الفياكرا. الصحافة الحامل بالأحداث، أنجبت مخنثاً ). وأحياناً تتكئ لغة وفاء عبد الرزاق القصصية الشعرية في مجموعتها القصصية هذه على البيان، ولاسيما في التشبيه والاستعارة وهما من هما في جرح اللغة، وتشكيل الانزياح، ورسم المفارقات من خلال الخيال ومن خلال الصور المبتكرة. ولاسيما إذا تكررا وأُستُخدما استخداماً إيجابياً في مثل هذا التكرار. ومن ذلك ما يلحظه القارئ والمتلقي والدارس واضحاً بيّناً في قصتها القصيرة جداً والتي وسمتها بـ( أحلام ليلية )(57)، من استخدام لفنون البيان، ومن تكرار هذا الاستخدام بلغة محكمة، ونسج سردي تام تام، وصولاً إلى المعنى الحقيقي، إلى المغزى، إلى الغرض والهدف من القصة. تقول القاصة في قصتها هذه: ( الحلم يوقدُ شمعته ويجلس وحيداً. كانت المناقير مثل مدينة مزرقة، ومثل شتاء منسي في مدينة ثلجية. حاول الحلم الخروج من هذه الدائرة، إلّا أنَّ عجلة سيارته كانت متجمدة، والأُفق يدور حول العجلة. هي لوحة للوطن الهرم الذي ما زال فتياً في روح الحلم ). وأحياناً ترسم اللغة الشعرية صورة سمعية مقرعة في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً في مجموعتها هذه. ولا ننسى الصورة البصرية التي تأتي في الاستهلال في مثل هذه القصص، وتفتحُ الباب الواسع أمام القاص ليشاكلها بالصورة السمعية وبألفاظها الرنانة القوية الفخمة الصارخة التي ترسم هذه الصورة الأخيرة أحسن الرسم، وتعبّر عمّا فيها أجود التعبير. لنلحظ ذلك في قصتها ( الظل المفزع )(58)، حين نقرأ سردها فيها: ( مادّاً ذراعيه كإشارة صليب. قُرعت الطبول، قُرعت الأحلام، قُرع السفر. وبقي هو مسمَّراً في الهواء ومقيداً بالمشهد البائس. السنة غابة خائفة، كما لو أنّ أحداً يصرُّ عليها لدخول الكهف ). ويأتي مثل هذا الانزياح اللغوي عن طريق الاستعارة في خاتمة قصتها القصيرة جداً ( هدوء )(59)، وفيها – الخاتمة – ما فيها، من هذه اللغة الشعرية العالية، وسعة صدرها في التعبير عن أفكار القاصة، وما تريده من قصتها تقول في خاتمة قصتها هذه: ( وفيها كانت الشمس تنحني على المياه وترقص ). ونشمُّ رائحة التناص الأدبي مرة أُخرى من خلال قصتها القصيرة جداً (مطر)(60)، ولاسيما مع شعر السياب في ديوانه " أُنشودة المطر " ، وفي قصيدته الساحرة الشهيرة " أُنشودة المطر ". والقصة القصيرة جداً هذه، خرّجت القاصة وفاء عبد الرزاق من جماليتها السردية، إلى جماليتها الشعرية، ولاسيما وهي شاعرة وأديبة وهنا يقع التمازج في الثقافتين – الشعر والنثر -، فـ( سحر الشعر يغري كثيراً من كتّاب القصة إلى درجة تتماهى فيه لغة السرد الحكائي مع لغة الشعر وتضييع حدود الحكاية )(61). فلنستمع لقصتها القصيرة جداً ( مطر): ( مثل أُم ورضيع، أحبَّت المطر في الشارع، مثل سنبلة انحنت خائفة من المطر ). فاللغة الشعرية في قصتها القصيرة جداً هذه، سهلة بسيطة أدّت الغرض بسهولة ويسر. ولكن على الرغم من السهولة واليسر إلّا أنها تُعجز الكثيرين عن النظم مثلها، أو الكتابة مثلها. وهذه ميزة الأدب الرفيع الذي يُقرأ بكلّ سهولة وبساطة، ولا يُقلّدُ إلّا باستحالة وصعوبة.. بل ولا يُقلّد أبداً. وفي قصتها ( خارطة )(62)، نرى عمقاً للمجاز وأخيلته بشكل مكرر ومؤثر. هذا المجاز الذي تدفقت فيه اللغة تدفقاً شعورياً طافحاً بالجمالية، وفعلاً راسماً لهذه الخارطة التي تريدها القاصة من قصتها، فلنقرأ هذه القصة بتأمل: ( في البستان، رويداً رويداً تسلَّق الحلم حواجز الكلمات، ليرسم خريطة. البستان المشاع، في تفاقم الظلّ، اختفى، بقي يرسم في الهواء حيناً رويداً رويداً، اختفت الخريطة ). وأما في قصتها القصيرة جداً التي عنوانها ( رفقة )(63)، فاستخدمت القاصة ايقاعاً في جسد القصة بقولها ( رفّ )، يتجلّى فيه تشتت المشاعر، وتلاشي الصحبة، وتعالي الأنانية والوحدة مع العلم أنهم رفاق، ولا يكونون غير رفاق. تقول في قصتها هذه: ( الرفاق، دون خجل، ذبحوا الكلمة وبقوا، مجرد ( رفّ ) ). وأما آخر قصصها القصيرة جداً، فهي قصتها ( مِنْ )(64)، حرف الجر هنا هو الذي فتح المجال للسرد عند القاصة، وهو الذي أذِن للحدث بالتتابع والمسير حتى النهاية التي فيه تناص أدبي ملحوظ مع قصيدة الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي ( سوق القرية ). وهذا الحرف هو الذي أوعز للمكان بالظهور، فاستولى على كلّ مهيمنات السرد الأُخرى وبقي وحده بطل الحدث، والقائم بالسرد، على نحو ما
نلحظ في قصتها: ( من أعماق العطر، اشترى زجاجة، وتنفّس هواء الورد.. لم يكن حقل أو بستان، لم تكن أرض أو تراب.. في المدينة.. كان زجاجة فارغة، ورجل يستنشق الفراغ). بمثل هذه الحكمة، وبمثل هذا الاتقان كانت لغة القاصة وفاء عبد الرزاق. إنها تحسن استعمال الألفاظ و التعابير والجمل في تراكيب موازية للسرد، معبّرة عن الغرض، واصلة إلى الدهشة، إنها بحاجة إلى دراسات ودراسات لتكشف لنا المزيد من أسرار لغتها الشعرية القصصية، التي لا أظنُّ أن أسرارها ستنتهي.... التوليد وشاعرية السرد:- نشأ هذا العنوان في هذا البحث من رغبة عزيزة علينا، فرضتها طبيعة هذه القصص وبناؤها السردي والحكائي. إذ رأيت توليداً للأفكار والمعاني والأحداث والوصف... وغيرها في جسد القصة القصيرة جداً، في معمارية قصص ( المطر الأعمى ) لوفاء عبد الرزاق. ولم يقتصر التوليد على جسد القصة القصيرة هنا، بل وجاءت في العنوان أيضاً. ومن ذلك التوليد الذي حدث في الوصف من أول العنوان إلى خاتمة القصة في قصتها ( ممكن)(65)، وقصتها (ممكن آخر)(66). فعلى الرغم من أنّ طول القصة الأولى وكلماتها وأحداثها أكبر من القصة الثانية، إلّا إنَّ العنوان الذي وُلد من ألفاظ القصة الأولى أسهم في قصر الثانية وتكثيفها تكثيفاً لغوياً ودلالياً. ولكن الفكر متشابه، والمغزى واحد، والمضمون واحد... إلى حدٍّ كبير بين القصتين. تقول في القصة الأولى (ممكن): ( كان من الممكن أن يرى اليتيم طرف الصحن، لو لم يكسره الطفل الغني المشاكس... كان من الممكن جداً أن يلتقط حبَّات الأرز المنثورة أرضاً، الرجل المسن وهو يبحث عن مثيلاتها في المزبلة... كما كان الأجدر من ذوي الأمر أن يعمّروا الضوء الباهت لو أحصوا عدد أحذيتهم المستوردة ). وتقول في قصتها الثانية ( ممكنٌ آخر ): (من الممكن جداً الّا يُصاب بالزكام لو غطى الرأس، ولو كان بإمكانه الحصول على رأس لمسحتُ من شعره ندبة الزمن. حتى الجثث لم تسلم من الندب). وكذلك يبدو الأمر جلياً في التوليد بين الأحداث في قصتها (حلم)(67)، وقصتها الأُخرى التي حملت العنوان نفسه (حلم)(68)، إذ يرى القارئ والمتلقي أنّ القصة الثانية هي امتدادٌ للقصة الأولى في أحداثها وصراعها مع الذات، سواءٌ أكانت الذات الكاتبة أم كانت الذات داخل الحدث، والتي تحرك الزمان والمكان، وتصف حبكة القصة، وتؤدي إلى خاتمتها وغرضها. فبالتوليد نجحت القاصة كثيراً في جعل الحدث في قصتين يجمعها عنوان واحد وهدف واحد، وبعثت الإثارة والتشويق في تتبع هذه الأحداث، وأوصاف السرد المحكي بين العنوانيْن الموحَدين. وهناك التوليد في الوصف داخل قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً، في مجموعتها هذه. ومن ذلك التوليد في القصة الموسومة بـ ( الأضواء)(69) عنوان القصة التي جاءت من بين قصصها هنا. إذ نرى وصفاً رائعاً لهذه الأوصاف وتتابعاً للأحداث والأماكن والزمن من خلال هذا الوصف. وكلّ هاتيك البنى تأتي من خلال التوليد لوصف الأضواء، وتكرارها لفظياً ودلالياً. هذا ناهيك عن اللغة الشعرية العالية التي كُتبت بها القصة، وجزالة الألفاظ، وقوة المعاني تبعاً لهذه اللغة وتلكم الألفاظ. تقول في قصتها هذه: (الأضواء المشتعلة في الشارع، لا تعني أنّ للمراكب مرافئ آمنة.. أحياناً كثيرة تتعرى من ملابسها، وقتما تُصاب بزكام الأعمدة. أضواءٌ أُخرى لا تتجه إلّا صوب الصروح المشتعلة على الصواري البيض، كي يومض الليل كلّه... والفارق ما بين الأضواء سكب شموخ وتضحية). وهناك التتابع بين الأحداث نتيجة التكرار، ونتيجة التوليد بين لفظة ولفظة أُخرى، كالموسيقى والعين في قصتها القصيرة جداً ( موسيقى)(70). فالأحداث تتولّد تباعاً لهذه الألفاظ من الموسيقى إلى العين، وتسهم اللغة المجازية القائمة على الاستعارة في جعل هذا التوليد بين المعاني والأحداث محبباً ومقرباً إلى النفوس، وتثير الدهشة التي تبحث عنها القاصة في إيصال هدفها من قصتها إلى المتلقي والقارئ... تقول في هذه القصة: ( الموسيقى تلعب مع أطفالنا (الغُميّضة) وترقص أوتار العود على نغمة أقدامهم الصغيرة.. الطيور تجيد العزف، وتعزف ساعة التحليق.. الموسيقى، عين الحريّة، عين الضوء، وعين (الغُميّضة)، كثيراً ما أحبها ونقر على نوافذ الاستثناء، والمستعصي على التكوين. لنجعل اللحظة ترقص. كي لا يترنح الاتساع على إيقاع الضجيج ).وأما الشخوص وحركتها داخل القصة القصيرة جداً عند وفاء عبد الرزاق في مجموعتها القصصية هذه، كان لها حظٌّ من التوليد وتوليد الوصف لكلّ شخصيةٍ جاءت في قصتها. ومن ذلك قصتها ( عائلة)(71)، إذ نرى التوليد فاعلاً ومؤثراً في الشخوص التي جاءت في القصة، وأسهمت في طولها – نسبياً – عن باقي القصص، وهو طولٌ محمودٌ في الوصف والتوليد، فضلاً عن تكاتفٍ منمقٍ لباقي عناصر السرد في المكان والحدث، ناهيك عن اللغة... اللغة الشاعرية العالية المتقنة التي كُتبت بها هذه القصة شأنها شأن القصص الأُخرى عند وفاء في هذه المجموعة أو غيرها، بل وفي عموم أدبها. لنستمع لقصتها هذه: ( للمرة الأولى تخرج العائلة من الكتاب، وتغير مجرى الأحداث في الرواية. حين تحوّل رب الأسرة خنزيراً، لم يكن ذلك غريباً على باقي الأسرة. بل كان في أول الرواية يرتدي قناعاً، والآن وجهاً.. أخذ قلماً، جلس في أول صفحة وأمرهم بالهمهمة. هي ليست لغة الأم، أو لغة الأبناء، كانوا صريحين وما زالوا، فقد صمتوا، لأنهم يدركون أنّ صمتهم أغصاناً مشرئبة نحو السماء). وأحياناً يأتي الحوار، المتخيل الموهوم، في بناء التوليد ليمهّد أحداث القصة، وليحكي عنوانها، وما تريده القاصة من العنوان ومن عموم قصتها القصيرة جداً في مجموعتها هذه. ومن ذلك قصتها ( أمطار )(72)، نرى توليداً آنياً سريعاً للحوار، يوافق زخات المطر، وما يعتلي الأرض من فرح وبهجة حين نزوله، تقول: ( المطر أحياناً أعمى. وشوش الطين للعشب: المطر أعمى انتبه! ردَّ العشب بصوته الخشن: المطر تمثال). وأحياناً يأتي التوليد القائم على التلاعب اللفظي، ومدلولات هذا التلاعب داخل القصة القصيرة جداً عند فاء عبد الرزاق. وهذا التلاعب هو الذي يولّد الحدث، وهو الذي يكمل معنى القصة وهدفها. ومن ذلك قصتها ( عيون )(73)، التي تقول فيها: ( أغمض عينيه وتخيّل حصاناً. الحصان أغمض عينيه وتخيّل فارساً... التخيّل أغمض عينه ولم ير شيئاً ). ولا يقتصر شأن التوليد على الأحداث، أو الوصف السردي، أو الزمان والمكان فحسب، وإنما يأتي أيضاً في كمٍّ هائل في المفارقات المتنوعة التي تأتي في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً، ولاسيما في مجموعتها الأخيرة ( المطر الأعمى ). ولعلَّ من أوضح ذلكم التوليد في المفارقات في قصصها هذه، قصتها ( استفهامات )(74). فهي تطرح مفارقات متنوعة يأتي التوليد ليفكَّ هذه الكثافة، وليوسّع في بناء القصة القصيرة جداً وجسدها، لغة ولفظاً وطولاً ودلالة وهدفاً... ولا أنسى أن أُذكّر أنّ هذه المفارقات هي التي تطرح الدهشة، وتثير الإمتاع عند القارئ وهو يتابع أحداث القصة بهذه المفارقات وبهذا التوليد، كما نراها تقول:( حين شاهد أناه في زجاج العمارات ساعة توقف ليستوضح، أحتقر الماشي خلفه، الذي أخذ شكله في الزجاج. وفي الزجاج اكتشف أنه لا يشبه أناه، وظلّه حشرةٌ زرقاء. الماشي خلفه نقطة سوداء، تساءل متردداً: من هذا الذي أراه؟ متى يترك شكله الحشرة ويعود؟ مرّت دقائق معتمة. والـ(متى) ظِلٌّ له، وجيش الاستفهامات يسير خلفه. تأمل كلّ شيء، كلّ شيء تأمله، انقبض وجهه، وصار جزءاً من الحشد، كعلامة استفهام ). ويأتي التوليد حتى في أصوات الحروف، وما تلعبه الدلالة الحركية أو الفعلية في هذي الأصوات. وتدعم هذه الأصوات الألوان في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً، وهي تسير جنباً إلى جنب مع هذا التوليد الذي يترك وقعاً بصرياً، وانفعالياً نتيجة تكرار الصوت – بالحرف-، واللون بدلالته المختلفة، ووظائفه الكثيرة ولاسيما في التضاد بين الأسود والأبيض، كقولها في قصتها (همس)(75): (الوشوشات ليست همساً، مجرد ووووششششششش. الأصم يقرأ الواقع، بالمقلوب، ويرى الأشياء أسود وأبيض. الألوان ترفض الموت، لكن الهمس الأسود يوشوش في أنَّ الأبيض. ووششششششش. أش. أش، كعلامة تحذير). وأحياناً يأتي التوليد في أركان القصة السالفة كلّها عند وفاء عبد الرزاق في مجموعتها القصصية ( المطر الأعمى ). فتراه – التوليد – في الشخوص، وفي الحوار، وفي الحدث، وفي الزمان، وفي المكان، وفي المفارقة، وفي اللغة التي تصف كلّ هذه الأركان بروعة، ودقة، وأحكام. ولعلّ من أوضح تلك القصص قصتها ( طعام )(76)، التي فيها ما فيها من هذا التوليد، ومن هذه العناصر. تقول: ( جلس الطفل إلى الطاولة منتظراً الطعام.. بيته مطمئن، كما أفكار أمه في استراحة دائمة. أبوه ينظر من ثقب الباب للأحداث، ويحفر ثقباً كلّما انتهى من عادته اليومية. الدار صارت ثقوباً، والطفل شديد الخوف من أن يتحوّل مسخاً. حين جاءت الأم للإطمئنان وأخذ الصحن لغسله، لم تجد الطفل. تحولت أناه إلى جرذ يلتهم عظام طفل ). ويأتي التوليد من خلال الأفعال في قصص وفاء عبد الرزاق القصيرة جداً، ولاسيما في قصتها (انزلاق)(77). استهلال كلّ فقرة من فقرات القصة بهذا الفعل " انزلق "، ولّد الحدث، وكبّر الوصف، وأشاع لغة ساحرة، كأنها لغة شعرية في نص شعري من نصوص التفعيلة، أما المفارقة فوضحت في خاتمة القصة، وأبقت عليها – القصة – بدهشة والتماع. كما تقول: ( انزلقت الأضواء واصطدمت بحجر. انزلق الوميض واصطدم بالحائط. انزلقت الحوائط واصطدمت بالمدينة. انزلقت المدينة هاربة من المدينة. الهروب لم ينزلق، صار صمغاً للإصطدام ). مثل هذا التوليد في أركان القصة وجسدها السردي جاء في قصص أُخرى من مثل: (طريق)(78)، (تأمل)(79)، (أشكال)(80)، (جنون)(81)، (ذاكرة)(82)... كلّ هذا التوليد مع اللغة، مع المكان، مع الزمن، مع اللون، مع الحدث، مع المفارقة... يدلُّ دلالة قاطعة على قاصّة وأديبة عراقية بصرية مجيدة لفنها الأدبي ولإبداعها السردي والقصصي خاصة، إنها نهلت من ذلك التراث الأدبي والفكري البصري الكبير والمتسع في العلوم كلّها، ونهدت نفسها أن تكون رمزاً بين رموزه التي لا تتغيّر بريقاً وتألقاً ونتاجاً على مرّ السنين. هوامش البحث :- 1- ينظر من هذه الدراسات النقدية الحديثة في القصة القصيرة جداً: شعرية القصة القصيرة جداً: جاسم خلف إلياس، دار نينوى – دمشق، ط1، 1430هـ - 2010. القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق: د. يوسف حطيني، دار الأوائل للنشر والتوزيع – دمشق، 2004م. مدخل لدراسة القصة القصيرة جداً في العراق: حمدي مخلف الحديثي، الموسوعة الثقافية (24)، دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد، ط1، 2005. القصة القصيرة جداً: أحمد جاسم النجدي، دار عكرمة- دمشق، 1997. 2- ينظر: الأزمنة والأمكنة: أبو علي المرزوقي ( ت 421 ه ) حيدر آباد الدكن، 1332هـ- 1398. 3- ينظر: المكان في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين حتى نهاية الحكم العربي: د. محمد عويد الساير، دار غيداء – عمّان، ط3، 2017م، ص23. 4- ينظر: م. ن. : ص26- 36. 5- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً: وفاء عبد الرزاق، قيد النشر، ص6. 6- جماليات المكان: جاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية – بيروت، ط5، 2000م، ص67- 68. 7- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً:ص11. 8- ينظر: المكان في الشعر الأندلسي من الفتح حتى نهاية الحكم العربي: ص118. 9- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً: ص21. 10- م. ن. : ص21. 11- القصة القصيرة جداً (النجدي): ص115. 12- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً: ص23. 13- م. ن. : ص26. 14- م. ن. : ص27. 15- م. ن. : ص31. 16- م. ن. : ص36. 17- م. ن. : ص37. 18- م. ن. : ص40. 19- م. ن. : ص44. 20- م. ن. : ص46. 21- الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم: د. حسام الدين الآلوسي، المؤسسة العربية للدراسات- بيروت، ط1، 2005، ص248. 22- ينظر: ايقاع الزمن في الرواية العربية المعاصرة: د. أحمد حمد النعيمي، دار فارس للنشر والتوزيع- بغداد، ط1، 2004، ص16. 23- في نظرية الرواية: د. عبد الملك مرتاض، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب – الكويت، 1998م، ص210. 24- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً: ص7. 25- م. ن. : ص9. 26- م. ن. : ص10. 27- م. ن. : ص22، قصتها القصيرة جداً ( مأساة ). 28- م. ن. : ص23. 29- م. ن. : ص24. 30- م. ن. : ص37. 31- م. ن. : ص40. 32- ينظر: بناء الرواية- دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ : سيزا أحمد قاسم، دار التنوير للطباعة والنشر- بيروت، ط1، 1984م، ص4. 33- ينظر: المفارقة وصفاتها، دي سي ميويان، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، دار المأمون- بغداد، ط1، 1988م، ص63، في النقد الحديث: نصرت عبد الرحمن، مكتبة الأقصى- عمّان، ط1، 1979م، ص61، شعرية القصة القصيرة جداً: ص153- 157. 34- لغة القصة القصيرة جداً: دار علا- حمص، ط1، 1994م، ص86. 35- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً، ص7. 36- م. ن. : ص8. 37- م. ن. : ص8. 38- م. ن. : ص9. 39- م. ن. : ص19. 40- م. ن. : ص20. 41- م. ن. : ص22. 42- م. ن. : ص31. 43- م. ن. : ص36. 44- م. ن. : ص37. 45- م. ن. : ص39. 46- م. ن. : ص44. 47- ينظر: شعرية القصة القصيرة جداً: ص129. 48- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً، ص11. 49- م. ن. : ص12. 50- م. ن. : ص13. 51- م. ن. : ص16. 52- م. ن. : ص19. 53- م. ن. : ص22. 54- أساليب السرد في الرواية العربية: د. صلاح فضل، دار سعاد الصباح- الكويت، القاهرة، 1992، ص65. 55- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً، ص25. 56- م. ن. : ص25. 57- م. ن. : ص33. 58- م. ن. : ص34. 59- م. ن. : ص49. 60- م. ن. : ص42. 61- القصة القصيرة في فلسطين والأردن منذ نشأتها حتى جيل ( الأفق الجديد ): د. محمد عبيد الله، وزارة الثقافة- عمّان، ط1، 2001، ص169. 62- المطر الأعمى، قصص قصيرة جداً: ص42. 63- م. ن. : ص44. 64- م. ن. : ص47. 65- م. ن. : ص6. 66- م. ن. : ص10. 67- م. ن. : ص10. 68- م. ن. : ص17. 69- م. ن. : ص7. 70- م. ن. : ص16. 71- م. ن. : ص20. 72- م. ن. : ص23. 73- م. ن. : ص25. 74- م. ن. : ص29. 75- م. ن. : ص30. 76- م. ن. : ص31. 77- م. ن. : ص35. 78- ينظر: م. ن. : ص33. 79- ينظر: م. ن. : ص38. 80- ينظر: م. ن. : ص40. 81- ينظر: م. ن. : ص43. 82- ينظر: م. ن. : ص45. الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: الإثنين 18-05-2020 09:35 صباحا
الزوار: 1285 التعليقات: 0
|