|
عرار:
د. عاطف العيايدة لقدْ عُرِفَ الغناء على مرِّ العصور بأنّه وسيلة للتعبيرِ عن الحياةِ النّفسيّةِ والاجتماعيّةِ والتّاريخيّةِ والإبداعيّةِ، وكلُّ بيئةٍ من البيئاتِ لها طابعُها الخاصُّ في التّعبيرِ عن نفسِها غنائيًّا، وأرشيفُ الأغنيةِ الأردنيّةِ يؤكّدُ إثباتَ حضورِها على السّاحةِ الغنائيّةِ العربيّةِ، فمنذُ خمسيناتِ القرنِ الماضيْ بدأتْ أصداءُ حناجرِ المطربينَ الأردنيّينِ تصدحُ بأغانٍ أردنيّةٍ خالصةٍ من حيثُ الكلمة واللحنُ والموضوع، حتّىْ باتت للأغنية الأردنيّةِ سماتٌ خاصّةٌ تحدّدها وتميّزها عنْ غيرِها، وقد اثبتت وجودَها بينَ الأغاني المتداولة في ظلِّ المقارناتِ والتّنافسيّةِ في فترةٍ من الفتراتِ، وبالتّحديدِ بينَ دولِ بلادِ الشّامِ الّتي تحملُ معَ الأردنَّ الطّابعَ الاجتماعيّ نفسَهُ، وتتقاربُ في اللهجاتِ نوعًا ما، وتنطلقُ مأثوراتُه الاجتماعيّةُ والشّعبيّةُ من مصدرٍ واحدٍ. وقدْ لعبت الأغنيةُ الأردنيّةُ أدوارًا مهمّةً في تسجيلِ الأحداثِ، ومواكبةِ المجرياتِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ، والتّرسيخِ لثقافةٍ مختصّةٍ لها طابعُها الّذي يميّزها، فكانتْ بحقٍّ خيرَ ممثّلٍ للتّراثِ الشّعبيِّ والعاداتِ المجتمعيّةِ والطّقوسِ المعيشيّةِ والأنماطِ الحياتيّةِ للنّاسِ، فقدْ تنوّعتْ أشكالُ الغناءِ حسبَ تنوّعِ البيئةِ الّتي ينطلقُ منها الغناءُ، ففيْ الباديةِ درجَ لونُ الغناءِ البدويِّ المتمثّلِ بحلقاتِ السّامرِ والهجينيْ والقصيد الّذي ترافقهُ (الرّبابة) ومطالعِ أغانيْ (الفاردة) في الأعراسِ، وفي المناطقِ الرّيفيّةِ بدا الأمرُ مشتركًا في مصنّفاتِ الأغاني الدّارجةِ معَ زيادةٍ في التّحوّلاتِ نحو حلقاتِ الدّبكاتِ الشّعبيّةِ الّتي دخلتْ فيها المرأةُ في بعضِ الأماكنِ، معَ مرافقةِ الأدواتِ الموسيقيّةِ، واستحداثِ حركاتٍ جديدةٍ من الأداءِ، بالإضافةِ إلى بناءِ مصفوفاتٍ غنائيّةٍ ضمنَ قوالبَ محدّدةٍ مثلِ: (الدّلعونا وزريف الطّول ويا بو غزيل وغيرها). أمّا في المدنِ فقدْ اختلفَ شكلُ الأغاني قليلًا من حيثُ الكلمة واللحن والأداء، معَ بقاءِ الموروثاتِ الغنائيّةِ الأصيلةِ حاضرةً كأساسٍ، وهناكَ نمطٌ آخرُ من الأغانيْ، وهي الأغنية البحريّة الّتي تميّزَ بها أهلُ العقبةِ، ولها إيقاعات خاصّةٌ، وغالبًا ما تُؤَدّىْ على شاطيءِ البحرِ، وبلباسٍ خاصٍّ ومميّزٍ، معَ مرافقةِ آلةٍ موسيقيّةٍ تُسّمّىْ (السِّمسميّة)، وهيَ أشبهُ ما تكونُ بآلةِ العودِ من حيثُ الشّكلُ، ووجودُ الأوتارِ، والعزفُ عليها، وكذلكَ الصّوتُ الّذي يصدرُ عنها. وباستحضارِ كثيرٍ من الأغانيْ الأردنيّةِ نجدُ أنَّ للمكانِ فيها حضورًا أساسيًّا، وهذا يدلُّ على أهمّيّةِ المكانِ كفضاءٍ يمارسُ الإنسانُ الأردنيُّ فيها حياتَه، ويحقّقُ فيه رغباتُه، ويكتبُ لهُ أجملَ الكلماتِ، وما هذا إلا تعبيرٌ صريحٌ عن تعلّقِهِ بالمكانِ كمسقطٍ للرّأسِ، وعنوانًا للحياةِ، وهُويّةً مكانيّةً لا يستطيعُ التّخلّيْ عنها، ومن الأمثلةِ على ذكرِ الأمكنةِ في الأغاني الأردنيّةِ، ومن أشهرِ الأغانيْ الدّارجةِ الّتي ذُكرت فيها الأماكنُ بمسمّياتِها أغنيةُ: «طّوَّعناها من عمّانِ للجوف/ ومن الكرك لحدود الطفيله/ ويلك ياللي حوالينا بتحوف/ رَوِّحْ لاهلكْ دوّرْ لكْ نفيلَهْ». فذكرُ الأماكنِ في مثلِ هذهِ الأغانيْ الدّارجةِ يعطيْ دلالةً واضحةً على أنَّ التّمثيلَ المكانيَّ في الأغاني لازمةٌ من لوازمِ إنتاجِها، فهيَ تُعطيْ سمتًا رمزيًّا للمكانِ، وتُخرجهُ من دائرةِ الحيّزِ الجغرافيِّ ليكونَ علامةً من علاماتِ الوجودِ والحياةِ، وفيْ كثيرٍ من الأغانيْ تظهرُ سماتُ البيئةِ المكانيّةِ للتعبيرِ عنْ جماليّاتِ المكانِ بما فيهِ من عناصرَ جغرافيّةٍ كالجبالِ والسّهولِ والرّوابيْ والهضابِ والبساتينِ والينابيعِ وجداولِ الماءِ وغيرِها، كأغنيةِ: «يَـاْ شُـــوقِـيْ يَــلا أنـا ويّـاكْ/ ع الغـــورِ نـزرعْ بساتـيني/ لـزرعْ لحبّيْ ثـلاث ورداتْ/ واسقيهـــن من ميـة العيـن/ شَاْورْت قـلبِـيْ بعـهـد خلّـيْ/ ما يوم شورو على شوري/ وطلعت أنا على جبل عالي/ اصرخ منْ شدة أحـزانـــيْ». ومن جانبٍ آخر عبّرت الأغنية الأردنيّة من خلالِ استحضارِها لأسماءِ الأماكن عنْ حالاتِ العشقِ والارتباطِ من المحبوب، فكانَ للمكانِ أهمّيةٌ واضحةٌ فيْ سياقِ كلماتِ بعضِ الأغانيْ، حتّىْ أصبحَ المكانُ من لوازمِ تلكَ الأغنية، ولا يمكنُ الاستعاضةُ عنهُ بمكانٍ آخر، ومن ذلك أغنيةُ: «ويـــنْ ع رام اللّه/ ولفيْ يا مسافرْ/ ويـــنْ ع رام اللّه/ ما تخاف من الله/ خذيـــتْ قليبيْ/ ما تخاف من الله». السّياقِ ذاتِهِ كانَ المكانُ شاهِدًا في التّعبيرِ عنْ مشاهدِ الحبِّ والارتباطِ العاطفيّ، وقدْ لجأ إليهِ كتّابُ كلماتِ الأغانيْ الأردنيّةِ؛ لأنّهُ ضرورةٌ ملحّةٌ في التّعبيرِ عن كلِّ الحالاتِ، ولا يُمكنُ فيْ أيِّ حالةٍ من الأحوالِ إسقاطُه من الحساباتِ، أو الاستغناء عنهُ في بناءِ النّصّ الغنائيِّ، بلْ إنِّ المكانَ أساسٌ في الأغنيةِ، وقلّما تجد أغنيَةً لا ذكرَ للمكانِ فيها، سواءً أكانَ حيّزًا مادّيًّا للمكانِ الجغرافيّ، أمْ مكانًا معنويًّا مفتعَلًا من كاتبِ الأغنيةِ. «على بير الـــطـــيْ/ لا قـانــيْ ولاقيتــه/ على بير الـــطـــيْ/ واحسن من الخّـيْ/ واغلى من عيوني/ واحسن من الخّـيْ». فالمكانُ هو (بير الطّيْ)، وهو بئرُ ماءٍ مشهورٌ يلتقيْ عليهِ الّذينَ يردونَ الماءِ من الفتيانِ والفتياتِ؛ حتّى تحوّلَ فيما بعد إلى مكانٍ يلتقيْ فيهِ العشّاق. وحيثُ أنَّ من أهدافِ الأغنيةِ الأردنيّةِ صنعُ الهويّةِ الوطنيّةِ فقدْ سعىْ كثيرٌ من الشّعراءِ لكتابةِ أغانٍ تحقّقُ هذه الغايةَ السّاميةَ، وتعزّزُ مكانةَ الوطنِ في النّفوسِ، وتربّيْ الذّائقةَ الفنّيّةَ على الارتباطِ بالوطنِ ارتباطًا نفسيّا وعاطفيّا قبلَ الارتباطِ بهِ مكانيًّا، غيرَ أنَّ المكانَ بصفتِهِ دالًّا وجوديًّا على الوطنِ محطُّ اهتمامٍ فيْ الأغنيةِ، وحجرُ أساسٍ لبناءٍ قويٍّ متماسِكٍ، وتحتَ هذا المعنى اشتهرتْ كثيرٌ من الأغاني الّتي ذكرتْ الأماكنَ بمسمّياتِها، ومنها أغنية: «أرختْ عمّانُ جدائِلَها فوقَ الكتفين/ فَاهْتـزَّ المجـدُ وقبّلَها بيـنَ العينيـن/ باركْ يا مجـدُ منازلَها والأحبـابــا/ وازْرَعْ بالوردِ مداخِلها بابا بـابـا». فهذهِ الأغنيةُ خيرُ مثالٍ على التّغنّيْ بـ(عمان) كعاصمةٍ للأردنِّ، وقدْ صوّرَ الشّاعرُ حيدر محمود المكان (عمّانَ) فيها بمحبوبةٍ جميلةٍ رسمَ لها صورًا ناظرةً من الوصفِ القائمِ على التّجسيدِ والوصف والحشد البلاغيّ والبديعي؛ ممّا نتجَ عنه حالةٌ من التّعاطي الفنّيْ مرَّ بمرحلتيْ التّلحينِ من قبلِ الملحّنِ الأردنيّ الرّاحل جميل العاص، والغناءِ بصوتِ الفنّانةِ الرّاحلةِ نجاة الصّغيرة. وفي أغنيةٍ أخرىْ بعنوانِ (عمّان) كتبها الشّاعرُ الأردنيّ علي عبيد السّاعي، وغنّاها الفنّان الرّاحلُ فارس عوض تراءت لنا عمّانُ كجوهرةٍ مكانيّةٍ شكّلَ لها الشّاعرُ باقةً من الأوصافِ والألقابِ الّتي عزّزتْ مكانتَها فيْ النّفوسِ، وحملتْها لتطيرَ عاليًا فيْ الأفقِ، ولتتحوّلَ إلى دالٍّ رمزيٍّ يبعثُ على التّخيّلِ من قبلِ سامعِ الأغنيةِ حتّىْ لو لمْ تطأْ أقدامُهُ أرضَها، أو يشتمَّ رائحةَ عبقِها، أو تتكحّلْ عيونهُ بمرآها، فهيَ عمّانُ الّتي دونَها سباع الموت. «عَــــمــان يا دار المـعــزة والفــخــــــر/ يَا حــرةٍ مــا دنّـســتْ أثـوابَــهــا/ دار الكـرامة والكــــرم واهــل الكــرم/ مفتـوح للضيفان دوم أبــوابـهـــا/ يا ديــرة عشـنـــا بــهـا عـمـر هــنـــي/ يا عــز من كثـرة عليها اتعابهـا/ قومي افتحي لي حضنك اللي ضمنـي/ من كنت طفلن في ثراة أعشابها». ومن أجملِ الأغانيْ الّتي كانتْ عمّانُ فيها متألّقةً، ومشرقةً بالكلمةِ واللحنِ والصّوت أغنيةُ (عمّان في القلب) الّتي غُنّيتْ في نهايةِ السّبعيناتِ، وهي قصيدةٌ للشاعرِ اللبناني المعروف سعيد عقل، وقدْ عبّرَ فيها عن افتتانِهِ بعمّانَ المحبوبة الّتي سكنتْ قلبهُ، وممّا زادها ألَقًا وجمالًا الصّوتُ الرّخيمُ الشّجيُّ الّذي صدحَ بها وهو صوتُ الفنّانة الكبيرة فيروز، ليُقدَمَ المشهدُ مكتمِلًا بعدما تولّىْ مهمّةَ اللّحنِ الأخوان رحبانيْ، ومن الأغنية: «عَمَانُ في القلبِ أنتِ الجمرُ والجاهُ/ بالبالِ عُودِيْ وَمُــرِّيْ مِثلَما الآهُ/ لَـو تعـرفـيـنَ وهـلْ إلَّاكِ عـارفـةٌ؟/ هُمومَ قلبِيْ بمنْ بَرّوا وما باهُـواْ/ مـن السّيـوفِ أنـا أهـوىْ بَنفسَجــةً/ خفيفةَ الطّولِ يــومَ الشّعـرُ تـيّـاهُ/ سكنـتُ عينيكِ يـا عـمّـانُ فالتَفَتـتْ/ إِلَيَّ منْ عَطشِ الصَّحراءِ أمواهُ». الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 14-07-2020 09:46 مساء
الزوار: 893 التعليقات: 0
|