|
عرار:
تعاويذ طفولية: «تماماً كما كنتَ طفلاً صغيراً تُشكّلُ سربَ نسورٍ من الوهمِ حتى يفرّ الغراب.. عاد الغرابُ وكان كبيراً وسربُ نسوركَ جاءَ.. ومرَّ مروراً خجولاً وفي الشمسِ ذاب..». يمتدّ نصّ في فضاء شعريّ لا يتجاوز بعض الأسطر.. لوحة نسجها الشّاعر من تشابك خيوط المعنى وشكّلها في صورة شعريّة قوامها رمزيّة الطّير في ثنائيّة ( نسور ـ غراب) ثنائيّة تحكّمت في أبعاد هذا النصّ واستأثرت بمغاليقه في مساحة ضيّقة، تضيق بها نفس الشّاعر ليتّسع بها المعنى وتترك للمتلقّي مجالا لملاحقة مداه البعيد. من هذه الثّنائيّة التي تتغذّى منها المعاني ومن رمزيّة النّسر والغراب يستمدّ النصّ أبعاده الإيحائيّة: رمزيّة النّسر المحفوفة بمعنى القوّة والشّموخ والتمرّد، والتي كثيرا ما أحاط بها الشّعراء ذواتهم تعاليا وكبرياء، ورمزيّة الغراب المشحونة (حسب أصولها الميثيولوجيّة وفي المخيال الجمعي) بمسحة من التشاؤم والاحتقار مقترنة بفكرة الموت والفنا. ويجتمع الضّديدان في صورة مشهديّة ملحميّة : مطاردة وفرار.. هجوم واستسلام.. صراع تتشكّل فيه الحركة في تماه مع موازين القوى، لتحدّد من الغالب ومن المغلوب، إلّا أنّ الملحمة تمتدّ في الزّمن ويطول الصّراع، وبين الماضي والحاضر تتشكّل المعايير تشكّلا جديدا في ذهن الشّاعر فيراجع رؤيته للأشياء فإذا هو أمام مرارة الإدراك. هكذا تتشكّل معاناة الـذّات المتخفّية وراء ضمير المخاطب «أنتَ» وكأنّنا بالمتكلّم يغيّبها في غربتها، أو لعلّه يمعن في نكرانها والتبرّئ منها، ذات تتهاوى من الكبرياء إلى الانكسار، ومن الصّمود إلى الاستسلام ، ومن التّعالي بالذّات نحو نكرانها... مسيرة صراع يستدعي لها الشّاعر صورة من الماضي في انزياح مغلّف بطعم المرارة حيث يقول: «تماما كما كنتَ طفلا صغيرا تشكّل سرب نسور من الوهم حتّى يفرّ الغراب... « صورة يبنيها الشّاعر على مشهد الطّفل وهو يؤثّث وجوده من خيال فطريّ ليوفّر لنفسه السّكينة ويبعد عنها شبح الخوف.. على هذا المعنى تبنى جملة شعريّة تتشكّل على أساسها الصّورة وقوامها فعل الإنجاز «تُشكّل»، هذا الفعل وإن كان في معناه الحسيّ يحيل على معنى الانجاز والتّحقيق، فإنّ إدراك الشّاعر لحقيقة حاضره رمت بدلالته في معنى الوهم بكلّ ما يحمله الوهم من دلالة على التيه والضّياع، وهكذا يتحوّل الإدراك إلى سلطة يراجع بها الشّاعر تجربة الماضي لتنتهي إلى الإقرار بالانهزام يقرنه بتجربة الحاضر، فإذا بالصّراع يتّخذ منعرجا جديدا في ذهن الشّاعر يعلن عنه بفعل العودة «عاد الغراب».. ويعود الصّراع بوجه جديد تنقلب معه موازين القوى فإذا بالغراب يصير كبيرا وإذا بسرب النّسور يتراجع في استسلام. صورة تتغذّى من إحساس الشّاعر بالمرارة لتترجم عن وعيه بحقيقة حاضره الذي يتحوّل فيه فعل الصّمود والمقاومة إلى مجرّد وهم، وبها يضعنا أمام فكرة ألّا جدوى وما تولّده في النّفس من إحساس بالحسرة والانكسار، وحول تلك الفكرة سيظلّ المعنى يحوم إلى أن ينغلق النصّ بالاستسلام إلى المستقبل حيث يترك الشّاعر «للشمس» أن تفعل فعلها في الوجود تذيب وتبدّد لتعيد الحياة من جديد. المصدر: جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 16-02-2021 08:51 مساء
الزوار: 546 التعليقات: 0
|