الدكتورة إنعام القيسي لفصل الشتاء ببرده ومطره وثلجه وعواصفه وخيراته حضور واضح في كثير من نصوص الشعراء العرب القدماء والمحدثين، وعلى الرغم من أن علاقاتهم به وحديثهم عنه كان متبايناً، فمنهم من نظر إليه من زاوية الحزن واليأس والقلق، ومنهم من نظر إليه من زاوية التفاؤل والأمان والخير، فقد كان الغالب على قولهم الفرح بقدومه ووصف بهائه وجماله، فغدا سقوط المطر والثلج مصدراً لإلهام الأفكار والرؤى الشعرية، فهذا محمود درويش في قصيدته «أحب الشتاء» يصف الشتاء أجمل وصف، ويصدح بكلماته الشجية: «كنت فيما مضى أنحني للشتاء احتراماً». وهذا نزار قباني يخاطب حبيبته قائلاً إن: الشّعر يأتي دائمًا مع المطر، ووجهك الجميل يأتي دائمًا مع المطر، والحب لا يبدأ إلا عندما تبدأ موسيقى المطر. إن شأن الشعراء العرب في حديثهم عن فصل الشتاء شأن شعراء العالم، فالإنسان المبدع يرتبط بعلاقة حميمة مع فصل الشتاء في كل آداب العالم؛ وهو بالنسبة إليهم جميعاً موسم الشجن، والحالمون كما يقول بودلير: «يحبون الشتاء القاسي، إنهم في كل عام يضرعون إلى السماء أن ترسل أقصى ما تستطيع من الثلج والبرد والجليد ... لأنه بهذا تصبح أعشاشهم أكثر دفئًا ونعومة، تصبح محبوبة أكثر.»، وكما يقول ديستويفسكي: «الشتاء بارد على من لا يملكون الذكريات الدافئة». ومن شعرائنا الأردنيين المعاصرين الذين كان الثلج محور بعض قصائدهم الشاعر علي الفاعوري في قصيدته الأخيرة التي عنونها بـ « مزاج الثلج «؛ لقد وقف الشاعر عند الثلج فاستنطقه وأسبغ عليه من مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، وجعله يشاركه أحزانه وآلامه، ففي هذه القصيدة نجد الشاعر يؤنسن القمر، ويخاطبه بوصفه عاقلاً يلتقي به ويتبادل معه الرؤى والأحلام ويشاطره الأحزان والمآسي ... إن أول ما يستوقفك في هذه القصيدة عتبة العنوان « مزاج الثلج «، وهيمن العتبات والمصاحبات النصية المهمة في الأعمال الشعرية وذات علاقة وطيدة بالنص ذلك أنها تساعد المتلقي على فهم النص وتوضيح دلالاته، وشرح علاماته والكشف عن خباياه ومكنوناته. لقد أنسن الشاعر الفاعوري الثلج منذ العنوان وأضفى عليه صفة إنسانية معروفة هي المِزاجيَّة التي تشير إلى شعور انفعاليّ مؤقَّت ومتكرِّر مثل السعادة أو الغضب أو الحزن، وقد يستمرّ هذا الشعور حتَّى بعد زوال الموقف الذي تسبَّب فيه،وقد كان لهذه المزاجية تأثير كبير على بناء نص القصيدة وتطور دلالاته الذي يعبر عن حالة الشاعر النفسية، والشعورية التي سيطرت عليه لحظة الكتابة، واستدعى من وراء ذلك أيام العمر الفائتة وتقلبات الزمن ومجريات الحياة التي مرت به، عبر تجربته الشعورية والشعرية، فغدا عنوان قصيدته بؤرة النص الشعري وتيمته الكبرى التي يتمحور حولها، وبدا نص القصيدة تكملة لهذا العنوان، وتطويلاً له عبر التوسع فيه وتقليبه بصيغ مختلفة. ومن هنا يمكن القول إن الشاعر الفاعوري يضع بين أيدينا مفتاحًا للفكرة التي ألحت عليه لحظة الإبداع، فلم يكن عنوان القصيدة عابراً أو فارغ الدلالة، وإنما هو عنوان مقصود لذاته، مرتبط ارتباطًا شديدًا بالفكرة التي ألحت على الشاعر، وهى تعرية الواقع المعيش للناس وكشف حقائقه للمتلقي، عبر مزاج الثلج ودلالاته الاجتماعية والنفسية في المجتمع. ولاشك في أن أنسنة الشاعر الثلج والتّوجّه إليه وعقلنته يحمل دلالات وإيحاءات كثيرة، فقد وظفه الشاعر وجعله يتحدث عن الإنسان والعلاقة بينه وبين البشر في بلادنا، وهو عنصر مهم للولوج إلى عالم القصيدة، والانفتاح على رمزية الثلج عند الشاعر الذي استطاع أن يعطي الثلج أفكاره وآراءه ... وأن يجعله يتحدث بالإنابة عنه؛ من خلال اتخاذه إياه وسيلة فنية أو قناعاً يستبطن من خلاله معاناة الإنسان المعاصر، وقد أسقط تلك التقنية ببراعة فنية كبيرة على منظر مألوف في الحياة. ويؤكد الشاعر في مفتتح القصيدة أن الثلج لم يتغير عبر الزمن ولم يتبدل فهو ثابت على بهائه وصفائه وجماله ... فقد كان مشهد الثلج وما يزال رمزاً للبياض والنقاء والصفاء، ففي الشتاء كان الناس في بلادي وفيهم الشعراء ينتظرون الثلجَ خلف أسوار بيوتهم، بشوق كبير، يترقبون ذلك الزائر الأبيض الجميل الذي يرسم مشــهداً رائعـــاً ببياضه الناصع الذي يكسو الأرض حلَّة جميلة ممَّا يزيدها جمـــالاً وبهاءً، ويســحر الناس بطهارته ونقائه، ويُدخل الفرح والبهجة إلى قلوبهم جميعاً صغاراً وكباراً، شباباً وشيوخاً نساءً ورجالاً ، يقول الشاعر: كما هو الآنَ كُنّا قد تَرَكناهُ لا أبيضٌ في سَوادِ البئرِ إلاّهُ أمَّا اليوم فقد تركه الناس وأهملَوه ولم يعودوا ينتظرون عودته، مهما طال زمن غيابه، بل زادوا على ذلك بأن أَلْقُوهُ فِي غَيَاهب البئر وقطعوا كل صلة ببياضه وصفائه، وعلى الرغم من ذلك فإن بياضه ما يزال ناصعاً في ظلمات ذلك البئر الذي طرحوه فيه، ذلك أنهم ابتعدوا عن كل ما يمثله الثلج وشقيقه البَرَد من طهارة لأَنهما ماءَان مفطوران على خلقتهما، لم يُستعملا ولم تنلهما الأَيدي ولم تخضهما الأَرجل، كسائر المياه التي خالطت التراب وجرت في الأَنهار وجمعت في الحياض، فكانا أَحق بكمال الطهارة، وما يرمز إليه الثلج من القيم الرفيعة النقية والتقاليد والأعراف الاجتماعية الأصيلة،فانغمسوا بعدئذ في الدّنيا وزخرفها وجعلوا أصول الترحاب وتقاليده وراءهم ظهريّاً. ثم يدخل الشاعر في المقطع الثاني من قصيدته مقترباً من الثلج بلمحة سريعة وانتقالة فنية متقنة، فيبرر لنا مجيء الثلج، وهو لا يرسم طبيعة جامدة للثلج ذات وجود خارج الوجود الإنساني، بل يشخصها ويؤنسنه التحدث عن إنسان هذا الزمان، فالشاعر يكشف عن معرفته بأسباب مجيء الثلج، وطبيعة الأسئلة التي يبحث عن إجابات عليها، وهي أسئلة تحمل في طياتها الدهشة والاستهجان وتنم عن الحزن والأسى،لقد كان الشاعر على موعد مع الثلج الذي طال انتظار الشاعر للقائه، ويشكل ذلك جزءاً مهماً في بناء القصيدة وتحديد أبعادهها ودلالاتها .لماذا أتى الثلج؟ يجيب الشاعر: أتى ليسألنا عن حالِ تينتِنا وعن بريدٍ له كُنّا خَذَلناهُ وعن عيونٍ تُعِدُّ العشقَ أغنيةً ليَسكُبَ النّايُ شيئًا من عطاياهُ وعن غيابٍ وبعدُ العينُ ما شَبِعتْ من الوجوهِ ، وعن حُزنٍ شَربناهُ وعن بلادٍ ببَردِ الصَّمتِ غافية وعن مساءٍ بأيدينا قتلناه لقد جاء الثلج ليسأل عن أحوال الناس الذين تغيروا في بلادي، فقد كان الثلج يرتبط بعلاقة وشيجة بهم، وكان قدومه تأكيداً لتجدد البهجة والألق والسعادة والصفاء كما أشرت، وكان غيابه إشارة للخوف والأسى والحزن والفقد، وهو يمتلك الحس البشري الرفيع، ويتمتع بمنظره الأخاذ وبياضه الناصع في عتمة البئر ... عتمة الحياة التي أظلمت جنباتها ومساراتها... لقد خلع الشاعر ما يحس به على الثلج وتساؤلاته، فغدا حضوره مرآة لحالة الشاعر النفسية وغيابه كذلك، ففي حضوره ألوان من السعادة والسرور والطمأنينة، وفي غيابه ألوان من الحسرة والألم والفراق...
لقد وقف الثلج أمام الشاعر، ليقدم شهادة صادقة على مجريات حياة الناس على الرغم من قصر عمره....بنظرته المتأملة ورؤيته الثاقبة، وها هو الشاعر يستمع إلى الثلج الذي يملأ العين جمالاً آخاذاً، والأذن سمعاً مؤثراً، عبر مسامرة دافئة معه، فهو كان قد أطل على الناس فيما مضى، واحتفظ بأسرارهم، وهو اليوم ينوء بحملٍ كبير من الكلام، ويبحث عن إجابات لما رآه من تغير أحوالهم ونفوسهم يبوح بما رآه، وهو يرى الناس في غفلة وذهول وتغير كبير؛ لقد أيقظ الثلج في أسئلته وشجونه الجروح القديمة والذكريات الفائتة الذّكريات الشَّخصيَّة والجمعيّة.وهو محفّز لذاكرة الشاعر، ومثير لشجنه أو حنينه لماض مفقود كان يرى فيه الشاعر بياض الثلج وصفاءه ونصاعته، وصدقه وطهارة مائه .... هذا الماضي الذي ألقي في بئر عميق، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يُرى في ظلمات البئر إلا هو، فماذا يقول الثلج بعد أن نفخ فيه الشاعر الحياة؟ وماذا سيقول الشاعر بعد أن ارتدى قناع الثلج؟ لقد باح الثلج في المقطع الثالث من القصيدة بما في نفسه إلى الشاعر الذي كان قريباً منه بانتقالة فنية رائعة تكشف عن العلاقة الحميمة التي تربط بين الشاعر والثلج مستخدماً الأخير عبارة «يا عمّاهُ» ،فَأفْضَى إِلَيْهِ بأسرار خَطيرة عن الناس آنَ لَها أَنْ تذاعَ، بعد أن مرَّ الثلج عل قِصر عُمره بتجربة نفسية عميقة في رحلة الحياة عبر غيابات وعودات متكررة، لقد أصبح القلق على مصير العلاقات الإنسانية النقية يحاصر الثلج،وغدت الهموم تعتصر فؤاده هي التي قادت إلى إنشاء هذا الخطاب الأدبي الرائع، وإبداع تلك الصور الفنية الجميلة، وقد قيل « إنه ما من شيء يجعلنا عظماء مثل ألم عظيم»، فها هو الشاعر ينصت مستمعاً بكل حواسه لأن الكلام سيكون للثلج الذي لم يكن أخرس صامتاً، بل تفجرت كلماته العجيبة في مسامرة ليلية بينه وبين الشاعر: يقولُ لي الثّلجُ: يا عمّاهُ أتْعبَني هذا البياضُ الذي ما عُدّتُ أقواهُ من أينَ أخرجُ والغيماتُ ترفُضُني وتدّعي ليسلي في الماءِ أشباهُ قد كنتُ أنصَعَ ما في الّليلِ تذكُرُني كلُّ البيوتِ التي ضَمّتْ حكاياهُ ماذا تَبَدّلَ هل طقسي غَدا وجَعًا؟ أم أنّ من أدمنوا التّرحابَ قد تاهوا أعتابهم لم تعُدْ خضراءَ تعرِفُني و»حوشُ» طِيبَتهم ماتتْ زواياهُ أم أنّهُ العُمرُ يا عَمّاهُ يَخذِلُنا من بعدِ ما أسرَفَتْ في العِشقِ أمواهُ لقد أتعب الثلج لون البياض والصفاء الذي عرف به، فقد أصبح لوناً غريباً فما عاد الثلج قادراً على احتماله وَالتَّحَلِّي بِالصبر عليه؛ ويود أن يخرج منه ويمزق جيبه الذي أتعبه طول حمله، ولم يقتصر الأمر على موقف البشر، بل امتد الأمر لعناصر الطبيعة المائية الأخرى التي أصابتها العدوى من البشر ، فلم تعد تطيق لون الثلج، ذلك أن التلوث قد أصابها، لقد أصبح الثلج محاصراً من البشر والطبيعة في آن واحد معاً، أصبح يعاني من حالة اغتراب شديد، بين أشباهه وأمثاله من الماء، التي ترى فيه شبهاً لكل الماء متناسية أنه أصفاها وأطهرها وأنقاها: يقول: يا عمّاهُ أتْعبَني هذا البياضُ الذي ما عُدّتُ أقواهُ من أينَ أخرجُ والغيماتُ ترفُضُني وتدّعي أن لي في الماءِ أشباهُ ويتابع الثلج متسائلاً عمَّا غيَّر الناس، قائلاً: ماذا تَبَدّلَ هل طقسي غَدا وجَعًا؟ أم أنّ من أدمنوا التّرحابَ قد تاهوا أعتابهم لم تعُدْ خضراءَ تعرِفُني و»حوشُ» طِيبَتهم ماتتْ زواياهُ أم أنّهُ العُمرُ يا عَمّاهُ يَخذِلُنا من بعدِ ما أسرَفَتْ في العِشقِ أمواهُ إنها تساؤلات مشروعة تحمل في ثناياها إجابات مؤثرة: فلماذا لم يعد الناس يستقبلونه بِبَشاشَة الوَجْهِ
وَكَلِمَاتِ التَّرحيب، هل ضاعوا في متاهات الحياة اليباب، وتاهوا في صحراء نفوسهم المُقْفِرَة، ولم تعد عتبات بيوتهم خَضْرَاء ذات خِصْب وسَعَة ونَعِيم، ولم تعد ساحات بيوت طيبتهم عامرة، فقد انهدمت زواياها وتلاشت قواعدها!! لقد اتخذ الفاعوري من « الثلج « إذن، قناعا ليفصح عن موقفهما اعترى الناس من تبدل القيم وانقلاب الموازين وتراجع الأخلاق في حياة مجتمعنا المعاصر، فَشَكَّلهُ تشكيلًا فنياً خاصَّاً ...
ويتغير المشهد في نهاية القصيدة، فيتقدم الشاعر ويجيب على تساؤلات الثلج الاستنكارية التي انبثقت من التجارب التي مر بها الثلج ومن مشاهدته أحوال الناس وتقلباتها، وتمثل تلك المخاوف التي أشغلت الشاعر نفسه، هذا إذا آمنَّا أن الشاعر هو الثلج نفسه، يقول: يا ثلجُ يا دفترَ الذِّكرى وحافظَها ويا قديمًا على سَهوٍ نسيناهُ ما عادَ أبيضُكَ العاديُّ يُبهِجُنا فقد تغيَّرَ وجهٌ كنتَ تلقاهُ وقد تفرَّقَ أحبابٌ هنا وَشَموا أرواحَنا بكلامٍ ما فَهِمناهُ ولنْ أقول ابتَعِدْ ما ذاك من شِيَمي لكنّهُ الشّوقُ والأنواءُ والآهُ لا شك في أن هذا المقطع الشعري غني بدلالاته وإيحاءاته يكشف عن عذابات التجربة الذاتية للشاعر، وعن إحساسه العميق بالاستلاب والخوف الشديد من تقلبات الحياة، وعن شعوره بالمرارة واليأس الذي ينبع من الحالة المؤسفة التي آلت إليها حياة الناس الذين اتّسمت بتفكك العلاقات الاجتماعية وانهيار الصلات والوشائج بين الناس، حتى غدا الغدر والكذب والنفاق والخيانة والحسد من شيمهم، وهي مظاهر ناتجة عن انحراف أهل الزمان، واختلال موازينهم وتراجع قيمهم لقد استطاع الشاعر علي الفاعوري في «مزاج الثلج» أن ينهل من معين كبير من الثقافة الجمعية التي صنعها مجتمعنا والتجارب الحياتية الذاتية التي عاشها الشاعر نفسه......واستطاع بتجربته الشعرية الفذة أن يضيف إلى ذلك كله معاني ودلالات ورؤى عميقة، فجاءت قصيدة «مزاج الثلج» جميلة وصادقة ومعبرة تحمل رؤى ودلالا عميقة..