|
عرار:
د. إبراهيم خليل عُرف، في ما عرف من وفاء الطلبة لشيوخهم في التراث العربي القديم، ما لا نظنه عُرف لدى أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، وهو أن يؤلف النابهون من أهل النظر مؤلفاتٍ يذكرون فيها شيوخهم، ويعدّدون من تتلمذوا على أيديهم، من أهل البصر والبصيرة في العلم، أيا كان النوع الذي يغلب عليهم؛ في النحو، أو الصرف، أو الأدب، أو الفقه، أو الحديث. فقد أثر عن عيسى بن سلمان الرُعيني المتوفى سنة 685هـ تأليفه فهرسًا لشيوخه وما ألفوه، وحقق إبراهيم شبوح – من تونس- كتابا بعنوان برنامج شيوخ الرُعيْني، وهو أديبٌ آخر غير الذي ُذكر آنفا، وطبعَ، ونشر الكتاب في دمشق سنة 1962 . ويبدو أنّ هذه الظاهرة كانت وقفا على الأندلسيين، وعلى بقعة منها هي مَلَقة وغرناطة وما إليهما. ونستطيع القول: إن لسان الدين بن الخطيب(776هـ) نحا هذا النحو في كتاب الإحاطة، فهو يُعنى بصفة خاصة بالشيوخ من أهل العلم، والأدب، وله مدوّنات أخرى فيمن لقيهم من الشعراء والأدباء والساسة والمؤرخين بفاس، وفي غيرها من الحواضر، سماه نفاضة الجراب في علالة الاغتراب، ومن المحدثين من سلك هذا المسلك، كالمغربي أحمد المديني، الذي نوه لأساتذته في باريس، وأثنى على عطائهم، منهم الفرنسيون، ومنهم العرب المقيمون في بلاد الفرنسيس، في غير كتاب، ولا سيما نصيبي من باريس. ويبدو أنّ الصديق اللامع، صاحب العطاء الرائع، إبراهيم أبو طالب، أصابته عدوى هذه الفضيلة، والسنة الطيبة الجميلة، فنهض بهذه المهمة متخذًا من مواقع التواصل الاجتماعي حلقة للذكر، ومنبرًا للنشر، يتذكر فيها أساتذته ممن تتلمذ لهم، ودرس على أيديهم في اليمن تارة، وفي مصر تارة ، فينشُر عددا من المقالات التي يطغى عليها ويهمن البوح، وأحاديثُ القلب والروح، فكان لها وقعها الطيب لدى أصدقائه، ولدى أكثر قرائه. فشجعوه على الاسْتمرار والاستزادة، وحثوه على كتابة المزيد والإفادة، فشرع ينشر هاتيك الذكريات عن أساتذته، وما لقيه من جهابذته، في المساقات، ومختلف المحاضرات، في مجلة أقلام عربية، وهي دورية يمنية، ودأب على هذا من 2017 حتى نهاية أيلول- سبتمبر 2020 فتجمع لديه من تراجم أساتذته الأكاديميين، اليمنيين والمصريين والعراقيين والجزائريين والسوريين، عددٌ يربو على العشرين. ولم يقف طموحه، ووفاؤه، عند هذا الحد، وشمَّر عن ساعد الجد، والتمس ناشرًا ينشرها في كتاب، فألفى ذلك لدى إحدى دور النشر في بور سعيد بمصر المحروسة، وهي دار « ديوان العرب «، وجاء الكتاب في نحو 442 ص من القطع الكبير(2021) و اختار له العنوان الذي كان قد اختاره يوم نشَرَ المقالة الأولى عن الشاعر النابه، والأكاديمي المعروف، عبد العزيز المقالح، وهو « تعلمتُ من هؤلاء «. وفي مقدِّمته القصيرة للكتاب يشير المؤلف أبو طالب لما تركته مقالاتُه التي وصفها بسير ذاتية – غيرية من أثر في نفوس من قرأوا النصوص، وهي تنشر منجَّمةً في هيئة الشذرات والفُصوص، مستشهدا بما كتبه وأرسله إليه أستاذه الدكتور أحمد مرسي من أحد المشافي في إسبانيا نموذجًا يفصح عن هذا الأثر، وما فيه من المواعظ والعِبَر، تقول الرسالة « دمَّعْتُ وأنا أقرأ ما كتبت، والشكر يا ابني لا يوفيك حقك، يا أصيل، أشكرك على وفائك، وليس هذا تواضعا، فأنا لا أستحق كل الذي كتبته عني، ولكنك كتبت بعين المحب، وهو يساوي عندي طنا من العلاج لتقوية المناعة، فقد أثّرتَ فيّ، وهو تأثير يدفع للتمسك بالحياة التي تستحق أن تعاش لأنّ فيها من هو وفيٌ مثلك، وفاء منْ يؤكد أن عمر الأستاذ لم يذهب هدرًا « (ص17- 18) وقد تلقى المؤلفُ عددًا من الرسائل التي تشهد له بمثل هذه الشهادة، والتعليقات التي تنوه لما تنطوي عليه كتاباته تلك من إفادة. واتصل به غير واحد عن طريق الهاتف، لا شاكرا، بل مهنئا على ما لديه من هذه الروح المطبوعة على النبل والوفاء، وإزجاء الشكر والثناء، لكل من درَّسه، بصرف النظر عن الغاية، أو النتيجة التي ظفر بها في النهاية. والمؤلف في هذا يقدم للكثير من الطلبة، والخريجين، القدوة الجيدة، والإسوة الحسنة، إذ لا ننكر أن بعض الطلبة الخريجين ممن لا يرضون عن النتائج التي ظفروا بها من هذا الأستاذ أو ذاك، لا يتصفون بسوء الطبع، وقلة الوفاء، فحسب، بل تراهم يتناسَوْن من درّسهم عامدين، لأنه في ظنّهم لم ينصفهم بعلامة أو علامتين. أما منْ همْ الأساتذة الذين عُني أبو طالب بسيَرهم، وبذكرياته مَعَهُم، فأولهم عبد العزيز المقالح، الشاعر والأكاديمي المكافح. فقد ذكره في بداية الكتاب، ومَنْ هو الأولى بهذا التقديم من المقالح الذي قرأ عليه الأدب العربي الحديث في شعره ونثره؟ وهو الشاعر الذي يحسن بطبيعة الحال تقديم الشعر، وما يتطلبه التقديم من معرفة بموسيقاه، ومن معرفة بأصوله، ومن معرفة باتجاهاته، وبما يختلف الحديث منه عن القديم، والجيد منه عن السقيم. والسوري كمال أبو ديب، الذي جاء إلى صنعاء من اليرموك أستاذا زائرا لسنة يقدم لطلابه فيها نهجًا جديدا، وأسلوبا فريدًا، في تدريس الشعر، لا يكتفي المدرِّسُ منه بذكر القائل، ومناسبة القصيدة، وفي أي موضوع هي، ولكنه يتنقل بهم من نهج تقليدي عفا عليه الزمن، إلى نهج يخطو بهم على ما اسْتُجدّ من السُنَن، فيسمعون للمرة الأولى بشيء عن البنيويات، وشيء عن الثنائيات، وأشياءَ عن الأسلوب والأسلوبيات، وعن الانزياحات والتحولات التي تتيح للنظم أن يسبغ على اللغة وظائف في الشعر، لا قِبَل لها بها في النثر. ويقرؤون للمرة الأولى شيئا عن الرؤية المقنَّعة في القصيدة، وعن الأسْطورة، والتحليل الوظيفي.. وشاعرٌ آخر ينضمّ لهذا الفريق من العراق، علي جعفر العلاق، صاحب الدواوين الكثيرة، ومؤلف كتاب في حداثة النص الشعري، وكتاب الشعر والتلقي، ومن منابع العلاق ينهل أبو طالب، ورفاقه، الكثير. ويصغون لمختارات من السياب، والبياتي، ونازك الملائكة، وحميد سعيد، وسامي مهدي، وسعدي يوسف، وغيرهم من كبار الشعراء العراقيين الذين يمثلون علاماتٍ فارقة، ومتميزة، في شعرنا الحديث. لقد أتيح لإبراهيم أبو طالب، ورفاقه، على وَفْق ما تقوله شهاداته هذه، التي سماها سيرا ذاتية- غيرية، ما لم يتَحْ لغيرهم من هذا الجيل، فعدا عن العلاق، ثمة لغويون كبار تتلمذوا لديهم، ككمال بشر، الذي عُرف عنه ما عرف من تعصّب للعربية، ومن اطلاع على علم اللغة العام بفروعه، ولا سيما الأصوات، و إبراهيم السامرائي، الذي يتَّصف بعذوبة الحديث، وسعة الاطلاع، وذاكرته الحاسوبية، وحفظه الكثير من الشواهد، والمختارات، التي تحيل درْسه في النحو، أو اللغة، إلى محاضرة ممتعةٍ لا يعوزُها الحديثُ عن الشعر، وفنون البيان. و عبد المنعم تليمة صاحب الكتاب « مقدمة في نظرية الأدب « وصلاته القوية المتينة بمناهج النقد الحديث. ولا سيما بالمنهج الجدلي والاجتماعي. إلى هؤلاء جميعا ضمَّتْ كوكبة الشيوخ واحدًا آخر من بلد المليون شهيد، وهو عبد الملك مُرتاض، الذي صنَّف الكثير من الدراسات. ولا ريب في أنَّ الدكتور إبراهيم- كغيره من الدارسين، في ذلك الحين- أفادوا من توجّهه نحو تشريح البنى الأدبية؛ من شعرية، وروائية، وما كتبه عن تشريح القصيدة، وعن أشجان يمانية. وعن نظرية الرواية. وهذا كله بلا ريب يشهد بالدليل الملموس، والبرهان المحسوس، أنَّ جامعة صنعاء- في حينه - استقطبت خيرة الأساتيذ، وجهابذة اللغة، والأدبِ، ونقده. وشيءٌ كهذا يُفسِّر لنا نبوغ طالبٍ من طلابها نابهٍ كمؤلف هذا الكتاب، الذي انتجع منابع الأدب، واللغة، في مصرَ، وفي غيرها من قُطُرِ الأعراب. يُضافُ إلى هذه الكوكبة من الأكاديميّين، ذوي الخبرة والتمكين، عاطف نصر، المعنيُّ بنظرية التأويل والتلقي، وفهد العكام من سورية، وهو المترجمُ المهتم بتصنيفات الشعر، والدراسات الشكلية، وتيارات ما بعد الحداثة في النقد الأدبي. والعراقي عناد غزوان شيخ النقاد العراقيين، وسيد بحراوي من مصر، وهو أحد المتخصصين بالدراسات الأسلوبية للشعر الحديث، وكتاباته عن شعر أمل دنقل، وطوفان نوح، معروفة مشهورة. ودة. نبيلة إبراهيم، وما لها من باع طويل في الدراسات التراثية الشعبية، والحكايات المأثورة، وما تُلقي به من أضواء على العلاقات الثقافية بين لغة الأدب الفصيح، والأدب الشعبي. ود. عز الدين إسماعيل، شيخ النقاد في مصر، ورئيس تحرير مجلة فصول، المتابع لمؤتمر النقد السنوي قبيل أن يتوفاه الله عليه الرحمة. وبلا شكّ كان لعزّ الدين إسماعيل أثره الجلي في المؤلف، ولعقيلته د. نبيلة إبراهيم. وقد تجلى هذا الأثر في المناحي المتعدّدة التي تتوزع فيها جهوده، فهو شاعرٌ، وكاتب، وناقد، وباحثٌ أكاديمي، يكتب شعرا للأطفال، والكبار. فقد صدرت له اثنتا عشرة مجموعة شعرية منها: ملهمتي والحروف الأولى، وأنشودة للبكاء، و تنويعات مسافرة، وأنغام الوجدان، ومن دفتر العُمر، وترانيم، ودموع وأشجان، ووردة من مقام الصِّبا، ووطني ياجُرحا يؤلمني، وقد جمع بعض هذه الدواوين في خمسة أجزاء نُشرت بعنوان ديوان إبراهيم أبو طالب. وصدرت له خمس مجموعات من شعر الأطفال، منها: أغاريد وأناشيد للبراءة، ومنها هيا نغني يا صغار، و أنا أحبّ عملي. وله من الكتب الكثير نكتفي بما يأتي: في الأدب الشعبي، وقراءات في الخطاب القصصي، و تطور الخطاب القصصي اليمني من التقليد إلى التجريب (1) - وهو أطروحتُه للدكتوراه، والنصّ والصدى – دراسات (2)، وببليوغرافيا السرد اليمني، والموروثات الشعبية القصصية في الرواية اليمنية، ولا تفوتنا الإشارة لابتعاث الدكتور أبو طالب من جامعة صنعاء للدراسة العليا في مصر، أي أنه حظي بالأخذ عن بعض الأساتذة في القاهرة، كعبد المنعم تليمة، وعز الدين إسماعيل، ونبيلة إبراهيم، وكمال بشر، وآخرين. شيءٌ آخر لا ينبغي أنْ تفوتنا الإشارة إليه، والتنبيه عليه، وهو تسمية الكتاب سِيَر (ذاتـ/ ـغيرية) فقد نحت من كلمتي ذاتية، وغيرية، تركيبا واحدًا، وفي ذلك حالفه التوفيق، لأن السِيَر، مع أنها سِيَـرُ الأساتذة، وهي في ذلك غيرية، إلا أنّها في الوقت نفسِه سيرٌ ذاتية للمؤلف، لأنه يتحدث فيها عن نفسه، وعن هؤلاء الذين تعلم منهم، وأخذ عنهم ما أخذه، مما يدخل في تكوينه الأدبي، والمعرفي، وحتى الذاتي. وهو في هذا ينحو منحى عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه» الأيام « مع فارق ملحوظ، واختلاف ضمْنيّ غير ملفوظ، فطه حسين لم يتحدث عن شيوخه بحبّ، بل كان في أكثر حديثه عنهم منتقدًا ساخرًا، في حين أن مؤلفنا لم يكتف بحديث المحبّ، بل كان في أكثر حديثه عنهم حامدًا شاكرا. هامشان: 1.انظر ما كتبناه عن هذا الكتاب في القدس العربي اللندنية بتاريخ 6 ديسمبر (كانون الأول) 2016 2.انظر ما كتبناه عنه في الدستور الثقافي الجمعة 26 أغسطس(آب) 2016 الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-07-2021 10:07 مساء
الزوار: 658 التعليقات: 0
|