الهوية العربية في الشعر المعاصر لمحمد حور والحلقة المفقودة
عرار:
د. إبراهيم خليل
على الرغم من أن مؤلف الكتاب الهوية العربية في الشعر المعاصر (588ص) لا يخفي غايته من تأليفه، وهي البحث عن تجلي الهوية في هذا الشعر، إلا أنه يمهد لذلك بالحديث عنها مثلما تراءت، أو يخيل لنا أنها تراءت، في الشعر القديم. ولهذا نجده يبحث عن جذورها التاريخية. فثمة كتب في رأيه مثل أيام العرب في الجاهلية، ودواوين كديواني ذي الإصبع العدواني، وزهير بن أبي سلمى، تؤكد أن ماضي العرب في القديم كحاضرهم اليوم؛ فالقبلية، و البداوة، والاقتتال لأهون الأسباب، مثلما جرى يوم البسوس، تغري المؤلف بوصفهم مُقْتبِسًا (بأسهم بينهم شديد)(1). وقد اطردت طريقة المؤلف في تتبع هذه الجذور، فما هي إلا سنوات معدودات حتى كانت الفتن، ومعارك الجمل، وصفين، شواهد تؤكد أن الهوية العربية في الإسلام بقيت على الدوام هوية مرتبكة، هذا إذا سلمنا- جدلا - بوجودها فالمؤلف يصفها بوهم يراد له أن يكون حقيقة. وقد ظل هذا الارتباك سيد الموقف حتى بدايات العصر الذي نحن فيه، إذ برز السعي لها مجددًا لا سيما في النصف الأول من القرن 19.
مع العثمانيين وتوضيحًا لهذا يخصِّصُ المؤلف الفصل الموسوم بالتوطئة لتتبُّع ذلك بادئا بالإشارة لبسط الهيمنة العثمانية على المنطقة (1451م) واصفا العصر الذي تراخت فيه قبضة العثمانيين بجمود الحياة الأدبية، وانحطاطها، على غير صعيد، وفي أكثر من مستوى. (ص63) فالقادة السياسيون الذين برزوا بصفتهم ورثة السلطنة، أمثال: محمد علي، وابنه إبراهيم، لم يكونوا عربا، ولا مصريّين، وانحصرت آمالهم في إنشاء إمبراطورية تتحكم بالكثير من الولايات دون أن يكون لهم أيّ تطلع لإقامة نظام عربي مثلما ظن المقدّسي في « الاتجاهات» ، والدقاق في « الاتجاه القومي « متبنيا رأي عمر الدسوقي الذي يرى في محمد علي وأبنائه غزاةً طامعين في حكم مصر، وغيرها، بالقهر، والإطاحة بالرؤوس الكبيرة. (ص 64). ولم يكن الحالُ في العراق بأفضل من مصر، وشذت الجزائر عن ذلك. وهنا يشير المؤلف لسبب يبدو لنا واقعيا، ومقبولا، فالجزائر مُنيتْ عام 1830 بالاستعمار الفرنسي، وبذلك اختلف الوضع، فالعثمانيون تحكموا بالبلاد العربية بذريعة أنهم مسلمون، لذا وجدت النخبة العربية نفسها في حَرَج: إذ كيف يثورون على من هم شركاؤهم في العقيدة والدين؟ أما في الجزائر، فقد شنَّ عبد القادر الجزائري حربا ضد الفرنسيين، وانتزع منهم عددًا من الولايات، ولولا تضافر الفرنسيين والإسبان ضدَّه، لما استطاعوا قطع الإمدادات، وهزيمة ثورته. على أنَّ النصف الثاني من القرن شهد اختراقا لهذا الوضع. وظهر الشعور القومي بوضوح، لا في الصحف، ولا في الدعوات الإيديولوجية المعلنة، فحسب، وإنما ظهر في الشعر أيضًا. وقد شاءت الظروف أن يكون الشعراء المسيحيون رواد هذه النزعة. وفي مقدمة هؤلاء إبراهيم اليازجي الذي يقفنا المؤلف إزاء قصائد ثلاث من شعره يخاطبُ فيها قراءه بعبارة أيها العُرْب، ويهاجم العثمانيين، وبعده يقفنا المؤلف إزاء الدور الذي نهض به عبد الله النديم، مشيرا لخطبه الناريه، ومقالاته الثورية، التي تصبُّ الغضب الجمّ على العثمانيين و الإنجليز. فهو يخاطب المصريين بعبارة بني العُرْب قائلا: بني العُرْب، هيا لا يعيش جبانٌ فجسمي وروحـــي همَّـــــٌــة وجَنــــانُ وفي بلاد الرافدين ذكــّر عبد الحميد الشاوي القراءَ من العراقيين، وغير العراقيين، بماضي العرب المجيد، متخذًا من هذا الماضي بعدًا من أبعاد الهوية، ففي نجد، وحِمْيَر، وبغداد، تتشابك الأصولُ، وتنْصهر، توحِّدها اللغة، والدين، والتاريخ. فقصيدته قصيدةٌ يموج في ثناياها الحسُّ القومي الذي يذكرنا بقصائد لعبد الغني الجميل عربية الروح والاندفاع(ص77). وعلى هذا النحو يواصل المؤلف تتبُّعه للنزوع القومي لدى الزهاوي، والنبهاني، أما الرصافي، ففي شعره تذبذبٌ، وتردد، فلا هو قادر على التمسك بعثمانيته، ولا هو قادر على التمسك بعروبته، فهو بيْنَ بيْن، وموقفه هذا عاد عليه بغير قليل من الانتقاد. وليس يختلف أحمد شوقي عن الرصافي إلا قليلا. والنقلة الجديرة بالانتباه هي التي تحقَّقت في بدايات القرن العشرين، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى. فصدور وعد بلفور 1917 وإفلات البلاد العربية- مصرًا وشامًا وعراقاً- من قبضة العثمانيين، ودخولها تحت الاستعمار الغربي، أتاح للنُخَب المستنيرة أنْ تثور بعد أن زال الحرَج من الشريك العثماني، فالخطر الخارجي الداهم أيقظ عوامل النهوض القومي. أسْطورة الوحدة ويتتبَّع المؤلف تحت العنوان المذكور ما ظهر من إشارات في الشعر تدعو للوحدة. إذ من الشعراء الذين طغى على شعرهم هذا الحسّ الوحدوي خير الدين الزركلي، وحليم دمّوس، و رشيد سليم الخوري (القروي) وسليمان العيسى، وأحمد البقالي، وكمال نشأت، وحافظ إبراهيم، وهذه الإشاراتُ تندرج في ما يُحسب من باب التفاؤل، والدعوة للتكاتف، والتضافر، بدلا من التناحر. والائتلاف، بدلا من الاختلاف. ويبدو أن جلَّ تلك الشعارات التي ملأت هاتيك القصائد، أو الدواوين، ذهبت أدراج الرياح. إذ لم تكن تلكم الشعارات أكثر من أهزوجة تُشنّف الآذان، وهي - مع ذلك- لا تعدو أن تكون ضربًا من الأوهام التي تعلقوا بها، وظلوا فيها سادرين. ومن المعروف أن الشعر الذي قيل في مأساة فلسطين، قبل النكبة وبعدها، لا يخلو من إشارات للوَحْدة والتضامن، والتكاتف، وفي ذلك بلا ريب شيءٌ له علاقة بالهوية، إذا لم تكُ وهما على رأي المؤلف. إلا أنَّ هذا الشعر الذي نجده في غير قليل من المصادر، والدواوين، ليس مما يعزز هذه الوحدة، ولا مما يجلو الهوية العربية إن كانت ثمَّ هوية. وقد استوفى المؤلف مشكورا الكتب التي عُنيت بهذا الشعر جمْعًا وتبويبًا ودراسة (ص141- 142). ولم يكتف بهذا، بل تناول هذا الشعر بالدراسة، والتعليقات، بادئا بالمهجري رشيد سليم الخوري (القروي) مُعلقا على أبياتٍ له في فلسطين، يقول في واحد منها ما يأتي: فلقد تفوزُ، وأنتَ أضعَفُ أمةٍ وتؤوبُ مغلوبًا، وأنتَ الأقْــــدرُ فهذا البيت - في رأي المؤلف - يلخّص موقف الشاعر، إذ هو ليس دليل تفاؤلٍ مجانيٍّ فحسب « بل فيه سَذاجةٌ وَهَبَـل « (ص144) وفي هذا التعليق غير قليل من التحامل، لأن القروي يذيل أبياته بما يعرف بالتذييل الجاري مجرى المثل، وهو ليس بالضرورة وصفا للواقع حتى يُحاسَبَ عليه، وعلى ما فيه من زيف في وصف هذا الواقع، أو صدق. وهذا الشعر قيل قبل النكبة بزمن، وغايته من ذلك التحريض، وشحذ الهمم، وبث الحماسة في الناس. فهل كان عليه أن يبث فيهم اليأس والإحباط، قائلا: لا تناضلوا فإنني لا أرى في هذه الأمة من عوامل الصمود والتحدي إلا صِفرًا؟ ويقول المؤلف - سامحه الله - عن مجموع للدجيلي صدر في النجف بعنوان « فلسطينيات « 1939 منتقدًا ما فيه من حماسةٍ وتحريض، ما يأتي : « أثبتت الأيام أن الأمة العربية كانت عاجزة عن المواجهة «. وهل هذا ذنبٌ الشاعر؟ وكل ما في الأمر أنه أراد بث النخوة في جمهوره، داعيًا العراقيين، وغير العراقيين، لنصرة فلسطين، أمْ تراه كان عليه أن يمتشق المدافع ليخوض الحرب نيابة عن الفلسطينيين، مثبتا أن الأمة العربية لم تكنْ عاجزة؟ الأطرش في الزفة ومنْ غريب ما يستوقف القارئ انتقادُ المؤلف للدُجيلي صاحب القصيدة [ نحن نعْشو في الشمس]. يقول محمد حوَّر معللا اعتراضه على العنوان « إذ المرءُ يعْشو في الليل، أما في الشمس فهذا يعني أنه أعمى البصر والبصيرة. « (ص146) ولعمْري هذا انتقاد غريب. إذ لو قال الشاعر نعشو في الليل، أو الظلام، لما كان قوله هذا شعرًا. فالشاعر لا يرمي بقوله لتقرير الحقائق، ووصف الواقع، وإنما يسخر ممن يُحدِقُ بهم الخطر في وضح النهار ومع ذلك لا يَرَوْن. ولا يختلف انتقاده هذا عن انتقاده العَجيب لأبيات سيِّد قطب (ص147) إذ يقول: عالم السياسة لا يؤمن بالقيم، ولا بالمثل، إنه – أي عالم السياسة- يوظفُ المثلَ والقيمَ في خدمة السياسة « وهذا الرأي، بغموضه، كالألغاز والأحاجي. فلمَ يحقُّ للسياسيين توظيف المثل، والقيم، في خدمة مآربهم الدنيئة، ولا يحق للشاعر أن يوظف هاتيك القيم، وتلك المثل، لتحقيق مآربه النبيلة؟ أوليْسَ الشعر سياسة؟ ولَسْنا ندري ما الخطأ في أن يقول الشاعرُ مُحْترقًا بالهمّ الفلسطيني: عهدٌ على الأيام ألا تُهزموا فالنصر ينبتُ حيْثُ يُهْراقُ الدمُ فهذا في رأي المؤلف قولٌ لا يتّفق معناه، ولا يستقيم مرماه، مع ما أراده الشاعرُ وتوخاه. وفي ظنّنا أن المؤلف يحاسب الشعراء حسابا عسيرًا، لا يسيرًا، متناسيا أن الشعر مباينٌ لغيره من حيث أنه يصور عواطف الشاعر، وانفعالاتِه بالأحداث، ولا يُطلب منه أن ينتظر ريثما تظهر النتائج، وتتضح المآلات. وهذا النقد هو نقدُ من يضع العربة أمام الحصان. وهو نهجٌ لم يقلْ بهِ أحدٌ من النقاد، لا في قديم، ولا في حديث. ومثل هذا الخلط بين الشعر وغيره نجدُه في تعليقهِ على أبيات أخرى للقروي الذي يشير فيها لكثرة الذين سقطوا دفاعًا عن فلسطين، وكثرة من يَظنّون أنهم أحياءٌ وهمْ موتى: يا فلسطينُ اندبــينا مَعَـــــــــــــــهمْ فلكمْ ميْتٍ وكمْ حيٍّ شهيد يقولُ المؤلف د. محمد حور ما يأتـي: « فلله [درّ] الشاعر القروي الغائب الحاضر. إذ إن تساؤله الاستنكاري ما يزال قائمًا إلى يومنا هذا « (ص149) وهذا الاستفهام ليس استنكاريا مثلما يُظنّ، بل هو استفهام خبري يفيد المبالغة، والتكثير، وهو كقول الفرزدق في الشاهد النحوي الآتي: كم عمــــةٍ لك يا جـريرُ ، وخــالـةٍ فدعاءَ، قد حلبَتْ عليَّ عُشاري والمؤلف- سامحُه الله - يطالبُ الشاعر القرويَّ بتحمُّل تبعاتِ النكبة، وذيولها من الحوادث التي ألمت بالبلاد العربية من الماء إلى الماء. وهذا، فضلا عن أنه كثير، منطقٌ لا يستقيم مع نقده للشعر، والأولى به أن يُصنَّف في النقد الفقهي الذي غايته التفريق بين الحلال والحرام حسب. وهل كان الشاعر القروي في الأبيات إلا راثيا نادبا شهداء فلسطين في زمانه، وهل كان خلودُه للصمت – مثلا- أجدى وأنفع لفلسطين من الترحم على أرواح الشهداء ليأتي الدكتور فينقده هذا النقد الساخر « الغائب الحاضر «. فهذه العبارة تكادُ تتهم الشاعر بالغفلة، لأن الحاضر الغائب « كالأطرش في الزفة «. وليت المؤلف يقتصر على هذا الاستخفاف بالقروي، ولكنه يطال أيضًا الجواهري وإبراهيم العريض وأحمد محرم وعلي الجارم وحسن عبدالله القرشي. الحلقة المفقودة وأما تجاوزُ المؤلف هؤلاء الشعراء، منتقلا دون تمهيد، أو توطئة، من هذا الشعر إلى شعر ما بعد نكسة يونيو 1967 دون المرور بالشعراء الفلسطينيين أصحاب « الملهاة « فتلك ثالثةُ الأثافي. إذ يُفاجأ القارئ بالحديث المطول عن الشاعر نزار قباني، وقصائده السياسية، ولا سيما قطعته الخطابية المليئة بالشعارات الرنانّة، الخالية من الشعر» منشورات فدائية « ففي ذلك غبنٌ واضح، وتضليلٌ فاضح، عمادُه شطب الشعر الفلسطيني من التاريخ الأدبي، على الرغم من ذكره لكثير من الكتب التي عُني مؤلفوها به. فقد تجاهل بصورة لافتة شعرمحمد العدناني، وسعيد الكرمي، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) ومطلق عبد الخالق، ومحمود الحوت، وهرون هاشم رشيد، وكمال ناصر، ويوسف الخطيب، و إبراهيم طوقان، وفدوى طوقان، وعبد الرحيم محمود، وإسكندر الخوري البيتجالي، وخليل زقطان، و توفيق زياد، وسالم جبران، ونايف سليم، وحنا إبراهيم، وسميح القاسم، وأمين شنار، وراشد حسين، وسلمى الجيوسي، وعبد الرحيم عمر، ومحمود درويش، وفواز عيد، وعز الدين المناصرة، ومحمد القيسي، وحكمت العتيلي، وراضي صدوق، وغسان زقطان، ومحمد لافي، وعلي فودة، وعلي البتيري، وغيرهم (2).. ممن كانَ في تناوله لبعض أشعارهم ما يغنيه عن الحشو، والتطويل، غير الضروريَّين في الحديث عن نزار قباني، وعن حبيب الزيودي، برغم تقديرنا للشاعرين. صحيحٌ أن المؤلف تحدث في موقع آخر عن القليل جدًا من هذا الشعر تحت عنوان « سقوط الأقنعة « إلا أن ما يحتمه المنطق أن يكون تناوله لهذا الشعر - بالذات - في أثناء حديثه عن مأساة فلسطين، ولا بأس في أن يلمّ ببعضه في فصله « سقوط الأقنعة» والسؤال: إذا كان المؤلف يبحث عن الهوية في الشعر، فكيف يسمح لنفسه أنْ يتجاوز قصيدة محمود درويش الموسومة بعنوان بطاقة هوية؟ سؤالٌ نختتم به هذه القراءة في كتاب محمَّد حوَّر، راجين ألا تؤثر هذه الملاحِظُ على تقويم القارئ للكتاب، فالكمال لله وحده. هامشان 1.نزلت هذه الآية ببني إسرائيل، والاستشهاد بها ها هنا ينطوي على مغالطة خطيرة، إذ يظنّ القارئ أن الضمير في بأسهم، وبينهم، يعود على العرب، في حين أنه يعود على بني إسرائيل. وفي تتمة الآية (تحسبُهم جميعًا، وقلوبُهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) . 2.اقتصرنا على ذكر المشاهير (الفحول) ولو أردنا الجميع لوجب أن نذكر الكثير مما يضيق عنه المقال.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-10-2021 11:10 مساء
الزوار: 948 التعليقات: 0