محمود البنا -1- تراودُ الكاتبَ فكرةُ أنْ كيفَ سيبتدئُ كتابةَ النصِّ؟ ما هي الكلمةُ القُنبلةُ، التي ستفتحُ الطريقَ أمام انهمارِ الكلامِ؟ لم يُفكِّرْ، مَرّةً، كيف ينتهي من النصِّ منذُ البدءِ؛ ويبدأ بما وراءَه. إنها عمليةٌ مُعَقَّدةٌ: كُلَّما وقفنا، مشدوهينَ، أمامَ هذه المساحةِ البيضاءِ، تقتلنا حَيرةُ البَدءِ، وترهقنا فكرةُ الخاتمة، وتشغلنا المساحةُ التي بينهما. إلى خارجِ البياضِ قليلاً، هناكَ نصٌّ يستحيلُ على الشاعرِ؛ لا يستطيعُ قراءتَه تمامًا، يجعله في يقينٍ هُلاميِّ الماهيّةِ. القارئُ نصٌّ غيرُ ثابتٍ، ذو نتائجَ متحولةٍ، عاليةٍ أو هابطةٍ، وربّما ساقطةٍ، في بعضِ الأحيانِ؛ حتى قضيةُ العلو المعرفيّ أو ضدّه، ما معيارُها الواحدُ؟ هل يكونُ؟ هل يمكنُ وضعُ قاعدةٍ تمنحُ الكاتبَ يقينًا لا هشاشةَ فيه؟ ربما، في المقابلِ، الهشاشةُ هذه قوّةٌ في مضمونها وتكوينها. كيفَ يكونُ ذلك؟ التساؤلُ، كذلك، لا بدَّ من تركِهِ بلا إجابةٍ؛ كي لا يرسو الفكرُ في سياق الجواب، وإنما يبقى رهينَ الاحتمالِ، ففي الاحتمال حياةٌ للسؤال، وحياةٌ للنص، وحياةٌ للكاتبِ. بين احتدام السؤال، وتكاثفِ الاحتمال؛ نشهدُ تكاثُرًا هستيريًّا للنصِّ، ناتجًا عن تكاثرٍ كثيفٍ للقراءةِ، يصبحُ النصُّ كثيرًا، مُشِعًّا؛ وفي كلِّ شُعاعٍ رؤية، ولكلِّ رؤية مدى، وفي كل مدى نصوصٌ تتكاثرُ أسرابًا، وهنا تكمنُ حياةُ الفكرةِ: بتكاثفِ أمدائها.
-2- يجنحُ الشاعرُ نحو التشبيهِ في أغلبِ ما يرصفُه شعرًا؛ التشبيهُ بلاغةٌ تقريبيّةٌ، بطبيعةِ الحال، لا يقينَ فيها. هذا الجنوحُ الذي يمكنُ أن يستحيلَ إلى جُنحةٍ؛ وهذه الجُنحةُ تمنحُهُ وجودًا، من وجهةٍ ما، وقد تستحيلُ إلى جناحَيْنِ؛ يُحَلِّقُ بِهما إلى فضاءاتٍ لا تنتهي. الأمرُ نفسُهُ يستخدمُهُ في مرحلة ما قبلَ الرَّصْفِ، حينما يحاول استفزازَ الفِكرِ بالفكرة النّاجعةِ، والمُتناسِبةِ مع مَدى الدَّهْشَةِ المُبتَغَاةِ لَدَيْه؛ يَبحثُ عَنِ التَعَرُّجِ في فَهْمِ فِكرَتِهِ، ولا يُريدُها طَريقًا مُستَقيمَةً، بالضَّرورَةِ. لا يريدُ أنْ يكونَ نصُّهُ سَهْلَ المَنالِ؛ إنه مُغرَمٌ برؤيةِ القارئِ يلهثُ خلفَ المَعنى ولا يُدرِكُهُ؛ ويبحثُ عن الغايةِ، بالوسائلِ كُلِّها فلا يجدُها؛ كأنه يمارِسُ نوعًا من القَصاصِ؛ فما عاناهُ من تعبٍ وضَنَكٍ في الوصولِ إلى نصِّهِ المكتوب في مرحلته المرئيّة للقارئ، لا بُدَّ أن يقابلَهُ تعبٌ وضنكٌ في الوصولِ إليه، مِن قِبَلِ مُتَلَقّيه. هذا الأمرُ بالنسبةِ إلى القارئ مرهونٌ بمعرفةٍ تضيقُ أو تتّسعُ؛ فمَرّةً يصفُ النصَّ، الذي يقعُ عليه، بأنه سهلُ الوصولِ إلى مَراميه التقريبيّةِ، ومَرّةً يصفُهُ بالغموضِ اللذيذِ؛ الذي يجعلُهُ يبذلُ جُهدًا في التجديفِ أكثرَ، ومرةً يصِفهُ بالإبهامِ؛ إنَّ ما يُحتَكَمُ إليه في ذلك هو المدى المعرفيُّ والثقافيُّ، الذي لا يُمْكِنُ تَحديدُه، ولا تُمْكِنُ السَّيطَرَةُ عليه.
لجوءُ الشاعرِ إلى المَجازِ، في عموميَّتِهِ، هروبٌ مُحَبَّذٌ: هروبُ الشاعرِ إلى حقيقتِهِ المُرادَةِ؛ ربّما يجدُ في وقوعهِ في «جَدَليّةِ الخفاءِ والتجلّي» هوايةً ترتقي به، وتمنحُهُ رئةً مُضافَةً؛ كي يستطيعَ التنفُّسَ أكثرَ، في فضاءاتٍ تأنَفُ أن تكونَ فيها دونَ طاقةِ وُجودٍ إضافيّةٍ؛ كي يبقى على «قيدِ» الوجودِ؛ هذا القيدُ هو الحريّةُ التي يطمحُ إليها دومًا!
-3 - النصُّ، إذا أُعلِنَتْ ولادتُهُ ورُسُوُّهُ في مَرفأ المَرئيِّ، يُعلنُ، ضِمنًا، أنه فضاءٌ؛ يحتوي فراشَتَينِ: فراشةَ المعنى الكامن، وفراشةَ القراءة المتجلِّيةِ الطارئةِ؛ الطارئةِ بمعنى أنها خُلِقَتْ بعلّةِ النصِّ المُسبَقِ، كما النصِّ تمامًا. النصُّ يقومُ بدورِ النارِ أيضًا؛ لهذا فإن فراشتَيِ المتن والقراءة الطارئة تحوِّمانِ حول هذه النارِ، كلٌّ منهما تحاولُ أن تقتربَ منها أكثرَ، لتنصهرَ فيها، فيصبحانِ ماهيَّةً واحدةً، لهما الكينونةُ ذاتُها؛ وبهذا، تبقى الفراشةُ الأخرى حائرةً، أين مكانُها المناسبُ؟ هل التماهي مع نار النصِّ هو الحلُّ الأنجعُ؛ كي تنجوَ؟ تفكِّرُ، أقصدُ الفراشةَ، في لحظةٍ ما، كيفَ لها أن تطفئَ النارَ! هل يصبحُ لوجودِها جدوى إثْرَ ذلك؟! لذلكَ، فإنها تَعمى عن رؤيةِ النصِّ بوصفِهِ نارًا، وتحَلِّقُ فيه بوصفِه فضاءً؛ لتجدَ أنها في أفقٍ أكثرَ رحابةً. لم ندركْ، بطبيعةِ الحالِ، أيّ الفراشتين اختارتِ الفضاءَ، وأيّهما اختارتْ الاحتِراقَ: فراشة المعنى إذا احترقتْ تخلّصَتْ من فوضى البحثِ، وأصبحتْ مَتنًا، لا فرقَ بينهما. وفي هذه الحالة، يَجِبُ على الفراشة الأُخرى أن تقومَ بوظيفتَين: البحثِ عن دلالاتِ النصِّ، وعن معنى كامنٍ يسكُنه؛ هل المعنى والدلالةُ مُتَّحدان؟ هل يؤديانِ المعنى ذاتَهُ؟ لا، في الحقيقة؛ إنَّ الدَّلالةَ هي المرحلةُ الثالثة في تلقّي النصِّ: قراءتِه، والبحثِ عن مَعناهُ، ومِن ثَمَّ اكتشافِ دلالاتِهِ. أما إذا اخترقَتْ إلى النصِّ بوصفِهِ فضاءً؛ فإنَّ ذلكَ يعني أنَّ الفضاءَ ازدادَ سماءً؛ حيثُ تنفتحُ آفاقُ التأويلِ، وتتفتّقُ أزرارُ الحَيْرةِ. وبهذا، فإنه يجبُ على الفراشةِ الأخرى أن تقومَ بصناعةِ النصِّ عن طريقِ هَدْمهِ ثم إعادةِ بنائِهِ من جديدٍ؛ كي تستطيعَ البقاءَ أكثرَ؛ ففي هاتين العَمَليّتَيْنِ: الهدمِ وإعادة البِناءِ، حفاظٌ على الوجودِ؛ إذ كلُّ موجودٍ مفقودٌ؛ الموجودُ حَقًّا هو الذي لم يَكُنْ بَعدُ. أمّا إذا اختارتْ فراشةُ القراءةِ الطّارئةِ الاحتراقَ؛ فإنَّ هذا يعني انتهاءَ العملِ الإبداعيّ، إذ بالتماهي انتفاءٌ لفعاليّتِها؛ ويُصبحُ النصُّ فضاءً ونارًا ومملكةً لفراشةٍ واحدةٍ تنتظرُ من يشاركُها الأفقَ بالفَوضى المُحَبَّذةِ الخلّاقةِ. وإذا اختارت الاختراقَ، واتَّخذَتِ الفضاءَ مَلاذًا، فإنَّ هذا يعني ارتقاءَ فعلِ القِراءةِ، والعَمل على خلقِ وسائلَ للعيشِ والتنفُّسِ؛ تتمثَّلُ في عمليتَيِ الهَدْمِ وإعادة البناءِ اللتَيْنِ أشرْنا إليهِما آنِفًا.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 22-10-2021 10:43 مساء
الزوار: 1119 التعليقات: 0