بعض تقنيات القصة القصيرة جدًا في مجموعة «ماذا لو» لسمير الشريف
عرار:
هاني علي الهندي ماذا لو؟! لم يكن عنوانا لقصة في المجموعة. ماذا لو؟!، سؤال كبير يبحث عن إجابات بعد الخيبات. اختبأ القاص خلف ضمير الغائب لتغييب الشخصيات. نجحت القصة القصيرة جدا بفرض نفسها على المشهد الثقافي بين الأجناس الأدبية، بالرغم من تباين مواقف النقاد والمهتمين منها ومن مشروعيتها، كجنس أدبي مستقل لها خصائصها وسماتها الخاصة؛ منهم من يرفضها ولا يعترف بها، وبعضهم يدافع عنها بقوة، ومنهم من يقف مراقبا مترددا ينتظر عملية الحسم ليعلن رأيه مع أو ضد. ولكل فريق مبرراته ورؤيته. لسنا بصدد مناقشتها وتغليب فريق على الآخر، وما يهمنا أنها موجودة في المشهد الثقافي الأردني. وحتى الذين يدافعون عنها لم يتفقوا على تعريفها، فظهرت لها عدة تعريفات منها، القصة الجديدة والقصة اللحظة والقصة الومضة والقصة الشعرية .... وغيرها، إلا أن مصطلح القصة القصيرة جدا الأكثر انتشارا. فقد صدرت المجموعة القصصية القصيرة جدا ( ماذا لو) للقاص سمير الشريف بدعم من وزارة الثقافة الأردنية تقع في 132 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 120 نصا قصصيا تناول فيها الواقع الاجتماعي وعوراته وكشف عن الوجع السياسي والهم الوطني والقومي والديني بأساليب مختلفة. ولعل أول ما يلفت نظر المتلقي عنوان المجموعة ( ماذا لو؟!) الذي لم يكن عنوانا لقصة في المجموعة، ما فتح باب التأويل واتساعه، والانفتاح على شرفات التحليل والتخمين حسب رؤية المتلقي، فقد ورد في معاجم اللغة أن (ماذا) كلمة وظيفية مركبة من (ما) الاستفهامية و(ذا) اسم إشارة فتعني أي شيء. فقد أحسن سمير الشريف باختيار(ماذا لو؟!) عنوانا لمجموعته، لأنه اختار سؤالا كبيرا يبحث عن إجابات بعد الخيبات، وهذا يعني أن كل قصة في المجموعة تبحث عن إجابات بعد الخيبات والنكسات، ولأنه يتوفر فيه شروط العنوان من إيجاز وإثارة بالإضافة إلى التعبير عن المضمون. وبالنظر في مضمون قصص المجموعة تتضح بعض السمات الفنية المميزة لأسلوب القاص منها: 1ـ الحكائية وهي ركن أساسي من أركان القصة القصيرة جدا وأهمها، فأي قصة لابد وأنها تطرح فكرة معينة من خلال أحداث تؤديها شخوص لتروي حكاية ما عبر منظور سردي ضمن قالب زمكاني متسلسل أو متقطع، وقد نجح سمير الشريف في المحافظة على هذا الركن الرئيس في قصة (فضاء) ص16 وهو يحكي جزء من سيرة أسرة ممتدة في لحظة اجتماعهم ليلا، عندما سمعوا صوت حركة في الخارج، فأخذ كل منهم يفسر هذه الحركة الخارجية حسب ما يريد أو يتوقع، إلا أن الجد المركون بعيداً لم تشغله هذه الحركة: ـ يشغلكم الخارج ونحن نضيع في هذا العراء؟ إذا كانت القصة قد حددت زمن الحدث دون التصريح به من خلال الحوار بين أفراد الأسرة ؛ عاد نضال بعد تنفيذ العملية / كلاب الحي تتضور جوعا/ عيون الحكومة لاتنام/ بل هم المهربين في أخر الليل، فإنها كشفت عن القضايا الداخلية للمجتمع من جوع وفقر وبطالة وعسس الحكومة، والتهريب، استطاع أن يجمعها القاص في نص بصورة إيحائية مكثفة. لتأتي خاتمة القصة ساخرة من المجتمع الذي ينشغل بقضايا خارجية وينسى أو يتناسى قضاياه الداخلية. 2ـ التكثيف يقصد بالتكثيف الإيجاز من غير خلل بعيدا عن الحشو و الزوائد دون الإخلال بالبنية الفنية والجمالية للقصة، فقد استطاع القاص توظيف التكثيف في قصصه بأساليب متعددة منها: الاعتماد على الجمل القصيرة والتقليل من حروف الربط، منها على سبيل المثال قصة (غابة): «استشاط التاريخ غضباً، حمل الأقلام، وأعادها لأشجار الغابة» ص42. هذه القصة جاءت محملة بدلالات وإيحاءات تكشف غضب التاريخ من الذين يزورون الحقائق ويدونها بالصحائف والكتب، وحتى يضع حدا لهم قام بجمع الأقلام المصنوعة من الخشب وأعادها إلى الأشجار التي صنع منها.
أساليب التكثيف استعمل أفعال الحركة في قصته (فلاة) ص121 يركض/ يعتلي/ تلمس/ يبحث/ ينحدر. وسأترك الكشف عن باقي أساليب التكثيف لضيق المساحة المتاحة، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن القاص اختار الألفاظ بعناية دون زيادة أو نقصان، بحيث لا يمكن حذف أو إسقاط أو الاستغناء عن أي مفردة من مفردات القصة كما جاء في قصة (خريطة) التي لا تتجاوز ألفاظها أصابع اليدين: «على قلق تنام المدينة التي تركت أطفالها على إشارات المرور» ص43، 3ـ التناص من أبرز السمات الفنية المرتبطة بالقصة القصيرة جدا عند (جوليا كريستيفا) تقنية التناص، التي يقوم بها المبدع لتخصيب نصه لإثارة المتلقي وفتح دلالات على نصوص أخرى لتأكيد وتوضيح وخدمة فكرته، على ألا يكون استعراضا لثقافة القاص، فقد وظف سمير الشريف هذه التقنية في أكثر من نص قصصي منها (قصة سنتياغو) ص113، بطل رواية الشيخ والبحر لأرنست همنغواي، فقد قضى سنتياغو عمرا وهو يجاهد ويحاول بناء آمال هاجمتها قروش البحر، لتنتهي مغامراته بهيكل عظمي. وهو يرمز إلى الشعب الكوبي وظروف معيشته الصعبة، فهل تبخرت أحلام وآمال سمير الشريف في إصلاح الخلل كما تبخرت أحلام سنتياغو ..؟ ومن التناص الديني قصة (فسادستنان): «العبيد في مزارع فسادستان يلهجون بصوت واحد: «ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها» « ص123، تعالق هذا النص مع الآية الكريمة « ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا» [سورة النساء: آية 75]. في إشارة إلى تفشي الفساد والمفسدين واضطهاد عبيد المزارع. كثَّف القاص البعد الدلالي ووسع آفاق نصوصه ودلالتها ما جعلها ثرية وممتعة. 4ـ تنكير الشخصيات ترتبط الأحداث بالشخصيات التي تشكل العمود الفقري للنص، فلا حدث دون شخصيات ولا شخصيات دون حدث، وقد تكون إنسانية أو حيوانية أو نباتية أو جمادية، فجاءت شخصيات قصص المجموعة إنسانية نكرة، حيث اختبأ القاص خلف ضمير الغائب لتغييب الشخصيات وحجبها في جميع نصوصه القصصية، لتصبح نكرة مجهولة عاجزة عن الفعل وتغيير الواقع بسبب قوة الشد العكسي ومنها على سبيل المثال قصة (موضة) «بعد انتهاء المؤتمر الوطني، عرجت زوجة الرئيس على باريس، لإلقاء نظرة على آخر صرعات الموضة» ص9، الذي يدين فيها الانتهازية والفساد السياسي والاجتماعي. 5 ـ المفارقة تحضر المفارقة في قصص سمير بصور متنوعة، تقوم على الجمع بين المتناقضات والمتضادات، وحسب ما ذكر جميل حمداوي فأنها تبنى على» التناقض وتنافر الظواهر والأشياء في ثنائيات متعاكسة ومفارقة في جدليتها الكينونية والواقعية والتخيلية». وغالبا ما تأتي المفارقة ممزوجة بالسخرية كما هي في قصة (دعاء): اغتسل، تعطّر، ولبس أجمل ما لديه قبل أن يغرف من صندوق التبرعات مردداً: ـ اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك» ص96. تظهر المفارقة بين الأفعال / يغرف من صندوق التبرعات والأقوال /اللهم كفنا بحلالك. وفي قصته (ملل) المشحونة بالرمزية خرق فيها المتوقع عندما قال: «مل الراعي متابعة أغنامه، على أطراف الصحو مال لظل شجرة، تسربت بعض الخراف، أوعز لكلابه تولي شؤون القطيع» ص112. بقي أن نقول إن المجموعة تستحق القراءة والدراسة لما تحمله من فنيات عالية تؤكد براعة القاص وخبرته في أساليب القص المتنوعة.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-11-2021 09:11 مساء
الزوار: 798 التعليقات: 0