|
عرار:
قوارب الموت ...نشأ سعيد في احضان عائلة طحنها الفقر واعيتها الخصاصة وقلة ذات اليد فقد فطمته امه صابرة دون اتمام حولين من الرضاعة لجفاف صدرها من حليب امومة ذاوية وللجوع اسبابه في هذه المحنة واكتفت ببعض الطعام الذي يوفره والده حامد الذي يقضي الليالي في نبش الحاويات والنفايات باحثا عن قوارير البلاستيك واشياء اخرى يحملها صباحا الى مستثمري النفايات ليبيعها بثمن بخس جدا يسهل له اقتناء لقمة عيشه ومساعدة ابنه اليائس منذ الطفولة فقد تكررت غياباته عن الدراسة ودفعه الخجل من فقره الى عدم مواكبة الدروس وكيف يرفع سعيد راسه بين اترابه ويواجه معلميه وكله ثقة بنفسه ولباسه مرقع والرجل شبه حافية والدمع من عينيه ينسرب من شدة البرد والقهر وهو ما أجبره على الانقطاع المدرسي المبكر ربما يؤازر والده في جمع النفايات وقد وهن عظمه وذهبت السجائر الضارية ببعض اعضائه حتى بات لا يقوى على حمل اكياس دمرت ما تبقى من جسد هزيل يجري وراء الخبزة لاهثا لانقاذ اسرته وهو ماجعل الابن الغاضب ينخرط في الاحتجاجات الشعبية التي أنهت حكم القائد الحارق عبر سماء افريقيا ..خرج حامد وسعيد رافعين قوارير البلاستيك والخبز اليابس وهما يصرخان رفقة الكثير من المتظاهرين غصت بهم الشوارع تضامنا مع شاب اقدم على جسده وانتشرت رائحة الشواء امام ولاية سيدي بوزيد في ظل الحقرة والتهميش والبطالة والظلم مرددين صوتا موحدا :" شغل حرية كرامة وطنية .." وتوسع بركان النار فاجتاح كل شبر من تراب الوطن فالشعب اراد اسقاط النظام واستجاب له القدر وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن وسرقت ثورة الحالمين بمستقبل أجمل واستولى على أملهم البكر زمرة من حارقي الاكباد الذين تهافتوا على الحكم وافسدوا في الارض وفتلوا لبعضهم بعضا حبالا من مسد وصنعوا صناديق انتخاب جهزوها بليل ظاهرها ديمقراطية وباطنها محاصصات حزبية وتجمعوا في مجلس صار حلبة للصراع والشتم واللطم واللكم والركل وسالت الدماء وهتكت الاعراض وبدا الهلع والفزع والاحباط في صفوف المواطنين ولاح شبح القوارب يزحف نحو شواطئ الوطن المسلوب واندفع كثير من الشباب والنساء والاطفال نحو عباب البحر الأبيض المتوسط بحثا مستقبل في بلاد الشمال حتى لو ابتلعتهم البحار ونهشتهم الحيتان الجائعة فهي عندهم ارحم من حيتان الارض وقد انشبت أنيابها واتت على الاخضر واليابس فاضطر المهمشون والمعطلون عن العمل الى الاستعانة بقوارب الموت وعنوان لوحاتها المنجمية " الحرقة " وصار حامد وابنه سعيد لا يتوقفان عن العمل في ساعات الليل والنهار لجمع ما يكفي لتسديد معلوم الحرّاق الذي سيتكفل بايصال سعيد الى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية جسر العبور نحو المجهول ..... ظل سعيد يحلم كغيره من المعطلين عن العمل بالوصول إلى الضفة الشمالية من المتوسط ولم يقتنع بنصائح والديه حامد وصابرة رغم قبولهما في الظاهر بفكرة الهجرة السرية خشية تسلل سعيد في غفلة منهما ربما يغير الوضع المزري لعائلته ولكن اكثر ما يخيفهما ويزيدهما فزعا وحيرة هو فقدان الابن الوحيد الذي كان هدية الرحمان بعد اعوام من الانتظار والدعاء وزيارة العرافين ومقامات اولياء الله الصالحين حتى استبد بهما الياس وكادا يتواريان من سوء حظهما في دنيا الناس الذين لا يرحم بعضهم بعضا حتى لو كانت المصائب من تدبير الاقدار وانى لحامد وصابرة ان يهجعا ويطمئنا لمخاطر الهجرة وفواجعها وهما يريان ابنهما مصرا على ركوب القطع الخشبية المتداعية للتلاشي والضياع واقتحام المخاطر ...فاتحته صابرة مرة قائلة : يا بني أنا اعرف ما تكابده من جحيم البطالة ووحشية الخصاصة وقساوة العيون التي تجحدك بضرواة نظراتها فاكظم تعبي والقلب مني يتمزق فأشعر بندم شديد حتى تلهبني الاسئلة في مصيرك ...سامحني يا سعيد ربما جنيت عليك بالحمل والولادة فاستقبلت الحياة وقد كشفت لك عن صدر جفت ينابيعه ولا رضاعة تسكت فيك آلام الجوع والعطش فكيف لك أن تثق دون جدوى ببقايا خشب يسمونه (شقف) يكدسون فيه أجسادا رمدتها السنون وأحرقتها مرارة الفقر وخيبات لا تحصى لا اتصور قوارب الموت انها ستكون قادرة على تحمّل قناطير من الهموم الثقيلة والكالحة ولن تعصمك حيلة ببن أنياب البحار الهائجة فيقطع سعيد كلام والدته قائلا : " آآآه ياكبدي ويا حياتي ويا حزني هناك خياران لا ثالث لهما فاما ان نطلب العز على ظهر الكرامة والعزم والحرية واما ان يشملنا البحر برحمته ويخلصنا من شقائنا ومن العدالة الانتقامية وجور الحكومات المتعاقبة والمتواطئة مع سرطان البطالة المزمن اما حامد فلم يسطع المشاركة في حديث يصور حياته اليومية فاي حجج سيستعين بها حتى يثني بها شابا يغرق في التهميش والبطالة والإقصاء،....هو مسحوق كغيره من المقدمين على امتطاء قوارب الموت وهل هو الوحيد من بين المعطلين والمنقطعين عن الدراسة في سن مبكرة مفضلين العمل في أسواق الشغل بلا تغطية اجتماعية ولا مردود مالي يقيهم الفاقة ...كان حامد يشرب السجائر ويكتمها حتى لا يكاد ينفثها فيشتد به السعال حتى تنهمر دموعه وتقهره الغصة مسترجعا معاناة نابشي الحاويات وعمال الحضائر والمقاهي والمطاعم و المصانع، واكتفى بعد مقاومة السعال الحارق بكلام متقطع :"قوارب الموت بلعت نساءً و رجالا واطفالا وافترست اصحاب الشهائد العلمية ومن لم يعرف المدرسة في حياته ..هكذا صار ابناؤنا يحرقون اجسادهم في وطني ويدمنون " الحرقة " وكف عن الحديث وانهمك في اشعال سيجارة كأنها الجحيم .... شكري السلطاني الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الأربعاء 26-01-2022 09:09 مساء
الزوار: 946 التعليقات: 0
|