|
عرار:
د. محمد حسين السماعنة تهتم القصص القصيرة بالمكان اهتماما عظيما، وتحرص على أن يكون مؤثرا في تكثيف القصة، وتماسكها وسلامة بنائها؛ وهو ركن رئيس من أركانها، ولوجوده أثر فاعل في حركة شخصياتها، وفي تطور أحداثها، وكثيرا ما يكون هذا المكان هو المرتكز الذي تقوم عليه القصة، والمحور الذي يجمع حركة الشخصيات، والقضية الأساس التي يبني عليها الكاتب أحداث قصته. وعنيت المجموعة القصصية «أكاذيب المساء بالمكان عناية خاصة، فقد أشركته في صياغة الفكرة، واعتمدت عليه في تطوير الحدث وبنائه، ووجهت الحوار فيها نحوه، وجعلته الركن الأهم فيها. وهي المجموعة القصصية الخامسة للكاتب الناقد محمد رمضان الجبور الصادرة عن دار أمواج عام 2020م بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، وضمت اثنتين وثلاثين قصة قصيرة في مئة وعشر صفحات من القطع المتوسط. إذ يعتمد محمد الجبور في «أكاذيب المساء»على خلخلة المكان بتغييره أو بتحريكه أو بهز رؤية الشخصيات له ومن ثم لتحريكها، وتطوير الحدث وبناء الحوار، فالكاتب في هذه المجموعة يجعل من المكان أساسا مهما لتطور أحداث القصص وحركة شخصياتها التي كثيرا ما تكون ثابتة ساكنة على حال واحدة من الارتباك أو السكون أو الحيرة. وبدأ محمد الجبور خلخلة المكان من عتبة النص وغلافه حيث نرى في الغلاف جزئين مختلفين من ثنائيات ضدية متنوعة جمعتها دائرتان كبيرتان هما دائرتا الحركة والسكون: دائرة الحركة التي تعني التغيير والرفض والتمرد والسعي نحو الأفضل ودائرة السكون التي تعني القبول بالواقع بكل ما فيه من ظلم وانتقاص للحقوق. فضمت لوحة الغلاف دائرة الحركة وهي الجهة المغطاة بالغيوم من البدر، ومجموعة الطيور التي تحلقث فوق المكان، ومجموعة الغيوم التي تناثرت حول جهة من البدر، والسماء التي انقشعت فيها بعض أجزاء من الغيوم، وتسلل منها النور،والعنوان الذي كتب بحروف فيها انحناءات ووحركة واضحة، وضمت كذلك أعلى الصورة وأسفلها اللذين يظهران حركة قوية على الأرض وفوقها. وأما الجهة الثابتة فقد ضمت الوجه الساكن من البدر، ووجه الإنسان الثابت المتصنم الذي لا يلحظ منه سوى ملامحه بسبب سيطرة العتمة، وتضم أيضا الصفاء الممل الذي حول الوجه البشري. وفي لوحة الغلاف إشارات واضحة على محاولة خلخلة سكون المكان من إطالة أنف الوجه، وتحريك الطيور عليه وفوقه، وتحريك الغيوم في اللوحة في كل اتجاه وبخاصة حول البدر. وتقوم قصص مجموعة أكاذيب المساء على ثنائيات ضدية مكانية ضمن دائرتي السكون والحركة، خلخل فيها الكاتب المكان داخليا أو خارجيا لمحاولة تغييره، وكسر سكونه ورتابته، ولتحريك الشخصيات وتطويرها وتطويعها لتحمل ما يعكسه تغيير المكان أو خلخلته عليها من نتائج،واعتمد الكاتب لخلخلة المكان عدة طرق وأساليب منها: خلخلة المكان في الشخصيات الرئيسة وتحريكه نفسيا، أو خيالا لتغيير المكان والتمرد على سكونه، أو تحريك المكان وتغييره خارجيا لإحداث الخلخة التي تحمل رؤية الكاتب، وتحرك بها الشخصيات بالانتقال من مكان إلى مكان. وقد حملت عتبة النص علامة سلبية على نتائج هذه الخلخلات الداخلية أو الخارجية التي أحدثها الكاتب في المكان لبناء قصصه.ولعل عبارة أكاذيب المساء التي حملت عنوان المجموعة هي نتيجة من نتائج الصراع بين رغبة التغيير التي بعثتها خلخلة المكان والقوى المقاومة للتغيير المتمسكة بالسكون المكاني والثبات، فهي نتيجة لفظية من نتائج التضاد بين الحركة والسكون، وهي مولدة الأحلام والأمال والنتائج التي عنيت الشخصيات برسمها وهي تستمع لحروفها وتنصت لها، وظنت أنها حققتها في الواقع حين خلخلته هذه الأكاذيب في داخلها واكتشفت أنها مجموعة من الأكاذيب المخترعة للتطمين والإلهاء والمناورة؛ فقد جاءت في نص فيه عبارات كثيرة تصف المكان بأنه مكان ثابت ساكن ممل يقول الراوي بطل القصة: «لأكثر من عشر سنين والمقهى ظل هو المقهى، والليل هو الليل والكراسي المتحلقة حول المناضد المهترئة هي هي». وتبع هذا السكون المكاني سكون الشخصيات فأبطال القصة منذ عشر سنين يتحلقون حول منضدة مهترئة، أكلتها الأيام. ولتأكيد سكون المكان وثباته كرر الكاتب على لسان الراوي وصف اهتراء المقهى، وأن ما فيه هو كومة من الخشب الرديء البالي. وربط ثبات الشخصيات وسكونها بثبات المكان وسكونه؛ فعبد الستار في المقهى مازال يدخن نرجيلته بهدوء ويستمع لما تقوله الحكايات وعيناه تسبران أغوار الأرض التي تقعد عليها نرجيلته. ويوسف هناك يقلب صفحات الجريدة اليومية، وتستقر عيناه على زاوية الكلمات المتقطعة، وسليم العلي يمسح على شعر كلبه. وكلهم أدمنوا متابعة ما تبقى من الليل في كهف الضائعين الذي كانوا يجرّون إليه أقدام الخيبة بعد كل سهرة عبثية مكرورة في المقهى. ومهد الكاتب لخلخلة هذا المكان الساكن في القصة حين قال على لسان سليم العلي: «شهيرة فقط هي وحدها التي مزقت أستار الزمن وانطلقت دون أن أدري لها طريقا» وقد عمد الكاتب إلى خلخلة سكون المكان بقوة وبشدة بخلخلة المكان في داخل شخصية البطل الذي هو الراوي نفسه، فينطقه بما يعد بداية للرفض والتمرد على السكون، يقول: «...أضل الطريق وأنا من رسمها، أصنع من الأيام حلما ولكن أحلامي تبقى في فمي أمرّ من العلقم». ثم يعمد الكاتب إلى تحريك السكون المكاني خارجيا حين يعد الأصدقاء كلهم رحلة إلى أعماق البحر وكلهم آمال عراض بتجدد الحياة. ويبدأ تمردهم المكاني فيرحلون من السكون المكاني إلى دائرة جديدة ظنوا أنها المحرر والمنقذ فقد رحلوا إلى البحر بحثا عن حياة جديدة مجددة للهمة والروح التي ملّت البر والمقهى والكهف، وانطلقوا في قارب إلى عرض البحر لكنهم لم يجدوا فيه ما رحلوا بحثا عنه لتتحطم أحلامهم، وليتحطم كل ما بنوه من آمال عراض في أن تجدد رحلتهم البحرية حياتهم، أو أن يجدوا شهيرة فهم لم يجدوا في البحر سوى مزيد من المعاناة والمخاطر التي لم يبحثوا عنها حيث البحر تحركه العواصف وتتلاعب به الريح وهو في حالة عبثية لا هدف لها إلا كسر السكون الذي أورثه إياه المكان الذي كان يعيش فيه. وفي قصة «أبطال من ورق» يحدث التناقض بين عالمين: عالم الحقيقة والواقع وعالم الخيال؛ فتجري أحداث عالم الخيال على الشاشة بهدوء وسلاسة وكما خطط لها، وأما أحداث العالم الحقيقي فهي تسير في كل اتجاه مسببة المعاناة للبطل، فتحركه وتستفزه فيبحث في شخصيات العالم الخيالي عن بطل يغير الواقع الحقيقي المليء بالقتل والدمار والتشريد والظلم. وتفشل شخصيات قصة» رحلة» في تغيير ثبات المكان وسكونه بعد أن خلخل الكاتب المكان في نفوسهم، ويعودون محمولين إلى مكان أكثر سكونا، فهم في القصة قد سعوا إلى تغيير الواقع الساكن المملوء بالفوضى حيث تتعثر أرجلهم بأشياء كثيرة «ألقيت هنا وهناك» فينطلقون بنهم وفرح شديدين إلى البحر ليعودوا في المساء جثثا في سيارات الإسعاف ونقل الموتى إلى مكان ثابت وعالم جديد لم يحلموا به. والمكان في قصة» وصول» غير محدد وضائع، فالمركبة أقلت الشخصية الرئيسة إلى مكان لا يعرفه لينتظر هناك مركبة تقله إلى مكان لا يعرفه، ويطول انتظاره حتى تأتيه مركبة نقل لموتى. وخلخلة المكان في القصة كانت داخلية نفسية نبهت الشخصية الرئيسة على أنها بلا هدف، وتسير بلا عنوان، وأنها تسير في دائرة من السكون المكاني الثابت فأحبطها ذلك وأيأسها، وبقيت تتعذب من هذا الثبات والسكون الناتج عن ضياع العنوان حتى جاءت مركبة نقل الموتى لتقلها فقبلها من يأس ورغبة بتغيير هذا السكون المكاني الذي يقتله ويعذبه. وفي قصة «ليس الآن «يخلخل الكاتب المكان فيباعد بين ضفتي نهر وقف على إحداها الراوي وهو بطل القصة. وألقيت على الضفة الأخرى جثة صديقه عبد الستار، فتنشأ من هذا التباعد بين الجسدين وبين الضفتين رغبة التلاقي فيحاول البطل الوصول إلى جثة صديقه، وكسر هذا السكون المكاني بطرق صوتية وحركية وفكرية كلها باءت بالفشل ليبقى المكان كما هو ساكنا ثابتا. وفي قصة»خبر مفجع» خلخل الكاتب حياة البطل الرتيبة التي فرضها عليه مكان عمله الثابت الساكن في الجريدة الإلكترونية التي تعنى بنقل أخبار المكان المتحرك الشارع فجعل الدائرة المتحركة تؤثر نفسيا في البطل بخبر حادث السير الذي وقع لابنته. ويخلخل الكاتب المكان في قصة «رسائل» فيجعله مهددا بعد أمن وسكون وثبات لينتقل الجندي نتيجة هذه الخلخلة إلى دائرة الحركة ليضمن بقاء عائلته ضمن دائرة السكون فيغلق باب بيته وفيه عائلته التي تحيا حياة هادئة ساكنة آمنة ويذهب إلى الجبهة للدفاع عنها. وتقوم قصة «موت الحصان والأمر 72» على مجموعة من الخلخلات المكانية التي كان أساسها مكانين مختلفين واحد فيه حركة وحياة، وآخر يحتله الفقر والمعاناة. فيفرض المكان سطوته على حركة الشخصيات في القصة فهم يلتحقون بالعسكرية طمعا في الانتقال إلى مكان أفضل فيه ما يروي الضمأ الذي أحدثه الشوق إلى مكان أفضل بعد أن خلخل الكاتب المكان في نفوسهم برسم مكان آخر فيه ما يحبون وما يشتهون من المال والنساء. وحين وصل هؤلاء الجنود إلى الصحراء قبلوا التحدي الذي فرض عليهم من أجل التغيير المكاني فصبروا على قسوة الصحراء وقسوة المدرب من أجل الوصول إلى المكان الحلم. وينتقد الكاتب في قصة «شواخص» الواقع الذي نعيشه ويخص الحال الثقافية العربية بالنقد الشديد فالشواخص كلها مضللة لا ترشد إلى ما يجب أن ترشد إليه، وكأن الكاتب يقول لنا إن المعين لا يعين والمرشد لا يرشد والمنجد لا ينجد ولا أحد يقوم بواجبه ففي القصة يفاجأ الذاهب إلى شارع الثقافة العربية أن الشاخصة ضللته ووضعته أمام مكان خال من الثقافة لأن المكان المتخلخل يؤدي إلى خلخلة خيارات الشخصيات. ويخلخل الكاتب المكان في قصة «حوار» فيبني الحوار الذي بنيت عليه القصة على رغبة تغيير المكان حين يجعل الكلب الذي يسير في طريق موحلة حيث يسكن الفقراء يطلب من صاحبه أن يرسله إلى بيوت الأغنياء ليعيش هناك، وأنه لا يمانع في سبيل إشباع معدته أن يعيش في مكان يتخلى فيه الناس عن قيمهم ما دام جحيمهم يملأ معدته الخاوية. وفي قصة مغادرة يشتد التناقض والتضاد بين ثنائية السكون والحركة فالمقعد الذي يجلس عليه البطل في الحافلة يحوي كل ما يسبب الخلخلة المكانية فيه ابتداء من النافذة المطلة على المناظر الجميلة وعلى العالم الخارجي المتحرك، والصبية التي تثير الرغبة، وانتهاء بالكتاب المفتوح الذي بيدها. ويثير الشوق وحب الاستطلاع للانتقال من رتابة المقعد وسكونه الممل البطل للانتقال إلى عالم الحركة المتوقع في الكتاب والمشاهد المتحركة في الطبيعة التي تمر من أمامها الحافلة . وفي قصة هذيان تضاد بين ثنائية الواقع والحلم؛ ففي الحلم حرب تحرير فيها قتل وجرحى ونزف دماء وعبور للنهر وإطلاق رصاص ورجال تقاتل ونصر. أما في الواقع فكان الشاب المريض ممدا في سريره بلا حراك يهذي ومن حوله أصوات رصاص عرس الجيران. الكاتب المكان داخليا في البطل في قصة المسمار حين جعل البطل وهو الزوج يقلق من مكان وجود المسمار في الحائط ويبني على مكانه كثيرا من الأحداث المتوقعة المؤسفة مما دفعه لمحاولة تغيير مكانه بانتزاعه من الجدار . وتحضر النافذة في قصص المجموعة كمكان انتقالي مطل من دائرة السكون التي غالبا ما تكون الغرفة أو البيت على دائرة الحركة التي تكون في كثير من قصص المجموعة هي الشارع أو السوق. كما في قصة «قرائح ميتة» وقصة «أحلام طائرة» وقصة «انحناء» وقصة «جثة غامضة» وقصة «مغادرة» ففي قصة «نافذة يخلخل الكاتب المكان وهو غرفة فيجعلها مملة ف»يطل البطل من نافذة غرفة بيته بعيدا لينظر بعيدا عن العالم الذي صنعته التكنولوجيا القابع برتابة في غرفته وليستنشق الهواء من دائرة الحركة المتمثلة في علاقات مختلفة مع الجارات. وظف محمد الجبور في مجموعته القصصية أكاذيب المساء ثيمة السفر وتغيير المكان كميزة جوهرية حاول بها فتح آفاق أمام القارئ للاستكشاف وتفجير طاقاته الخيالية ولإشراكه في بناء الحدث سعيا لإحداث أثر في نفسه. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-02-2022 10:01 مساء
الزوار: 606 التعليقات: 0
|