ناصر الريماوي السماري كنت أعاني كثيرا من توعك أبنائي المتكرر عندما كانوا صغارا، وتحديدا نزلات البرد الطارئة والتهابات الأذن والحنجرة وما يرافق ذلك من أوجاع قاسية وارتفاع شديد في الحرارة. انتقلت إلى فرع الشركة بالرياض، وكانت أولوية البحث الدائمة عن عيادات أطفال مؤهلة، وطبيب بارع، مثلما هي العادة، فنصحني الزملاء بشكل لافت وإصرار عجيب بمستوصف مجاور، يدعى «السماري». حين وطأت قدماي ذلك الصرح للمرة الأولى وكان قريبا من حي «الملز» حيث أقيم، ويقع على أطراف ساحة رملية معتمة قليلا، تجاور محال ورش عديدة لإصلاح السيارات، تملكني شعور غامض، أشبه بالسفر عبر الزمان والمكان أيضا. كان موظفوه هنودا ومراجعوه أيضا، كان مكتب الاستقبال بسيطا ينزوي فوق بسطة مستوية أعلى بيت الدرج الصاعد نحو العيادات والمختبر. تملكتني الرائحة بفوحها الهادىء، كانت خليطا فواحا من كل أنواع التوابل الشرق أسيوية، داهمتني وأنا أعبر البوابة المشرعة على الساحة الرملية وأصعد الدرج الصغير، الضيق. في قاعة الانتظار أيقنت بأنني في «كيرلا» ولا أدري لماذا تحديدا. كل الوجوه من حولنا كانت تطالعنا أنا وزوجتي وأطفالي المرضى الثلاثة، في فضول وصمت. ملامح وأردية هندية، مزركشة وقاتمة، تطالعنا في حيرة. طلاء الصالة أبيض مغبر ومعجن، لوحات موزعة بلا أطارات لتاج محل وسهول كشمير وعربات صغيرة تعبر شوارع دلهي الفقيرة، المزدحمة. أناس يعبرون ثم يخرجون، أصوات تعلو وتنخفص بلغة «الأوردو» ومستخلصات لكناتها الخاصة بها. حتى الإضاءة خافتة ولمبات الإنارة قديمة وعجيبة، لمعة الضوء جافة، أجهزة التكييف تشخر والمراوح السقفية تدور في كسل بدائي محض. ربما كنا حديث الأغلبية الهامسة. بل كنا كذلك، دون شك. ما الذي أتى بهذه العائلة «القوقازية» إلى «كيرلا»؟ تمنيت لو أعود للرياض وبيتنا في تلك اللحظة. كان الوقت ليلا، بعد صلاة العشاء، وكان صيف المكان يشبه ذاته. بقعة زمنية ومكانية لفظتها رحابة السحر الهندي الغامض إلى وسط «الرياض». يا لتلك الدهشة الغريبة. جاء دورنا، فدخلنا عيادة الأطفال بعد أن شيعتنا العيون بنظراتها المستفسرة. كانت تلك العيادة عبارة عن غرفة صغيرة ضيقة، شباكها الوحيد، مستطيل، أسفل الجدار، يطل على الساحة الرملية ومحال ورش السيارات. لم يكن هناك سرير بستارة بيضاء لفحص الأطفال المرضى كالمعتاد. أما الطبيب الهندي فقد صافحني جالسا إلى مقعده الخشبي، ثم تناول سماعته من فوق طاولة مكتبه المستطيلة المصنوعة من خشب رخيص. أجلس ولدي الصغير على تلك الطاولة، أمامه، دون أن يقف، ومد يده إلى المروحة الحائطية، المثبتة على يمينه، مروحة لم أر مثلها من قبل سوى في أفلام الستينيات القديمة. مروحة ذات شفرات دائرية قصيرة وأسلاك مشبكة مطلية حوافها بلون البيج الترابي. نظر في وجه ولدي بثقة ثم نظر إلى فمه دون أدوات فحص طبية، حتى دون استخدام للسماعة ووقعها الطبي على النفس. ثم طفق يكتب «روشيتة» الأدوية بحرية ونشاط بالغين. لأول مرة يتعافى ولدي وتذهب عنه الحرارة منذ الجرعة الأولى للدواء. كان ذلك عند منتصف الليلة الأولى لتشخيصه الأول. همست زوجتي يومها: هذا الطبيب المقعد.. محض ساحر. ثم توالت زياراتنا الدورية لتلك العيادات ولنفس الغرض، وفي كل مرة أخطو فيها نحو بوابة المستوصف، أغادر «الرياض» إلى «كيرلا» في لمح البصر. ويشفى صغاري بعد الجرعة الأولى تماما. كنت أرغب في كل مرة وبشدة أن أبوح للطبيب الهندي، بما يجول في صدري. فأنا لا أعترض على وسائله وتطرفها مهما كانت، ما دام صغاري يتعافون بعد ساعات قليلة من مغادرة المكان، حتى وإن كان في الأمر ما يدل على سحر هندي، بل و»هندوسي» أيضا. لكن، وفي كل مرة نضحك أنا والطبيب ثم يعتريني الحياء، وأعدل عن سؤاله. لم أره يقف على قدميه أبدا، لم أره يغادر أو يعبر إلى تلك الغرفة في حياتي. في كل مرة يدلي بمروحته الجيشية، المستحوذ عليها من بقايا مخلفات الحرب العالمية الثانية، وينظر مبتسما إلى وجه مريضه الصغير الجالس أمامه وسط الطاولة الخشبية. ثم يشرع يخط طلاسمه الطبية بلغة أشبه بالسحر، قبل أن يودعنا بابتسامته الصافية نحو الباب ونحو «الرياض» لمرة أخرى. لابد أنه طبيب يحترف السحر، لكنه مقعد، وهذا واضح من جلوسه ونيله لما يريد من مكانه وكرسيه، فكل ما يلزمه مثبت على امتداد ذراعه. تلك السنة، في الرياض، تخلصنا أنا وزوجتي من معاناتنا القديمة مع أطفالنا ووعكاتهم العديدة المتكررة والنوعية، المزعجة، والمقلقة، والتي كانت غالبا ما تطول. قالت لي زوجتي بعد تفكير عميق: ألم تتنبه إلى أن هذا الطبيب الساحر لم يحدد لنا ولا حتى موعدا واحدا للمراجعة، وهو ما اعتدنا عليه، ويفعله الإطباء مع كل مرضاهم عادة؟ قلت لها بأنني تنبهت لهذا، وأن هناك الكثير من الأمور المحيرة حول هذا الرجل، ولكنني مرتاح له، وهذا يكفي. بعد سنة، عدت للدمام وغادرت الرياض ولم أعد إليها، إلا لعمل عابر. في الزيارة الأخيرة لمستوصف «السماري»، مددت يدي للطبيب مصافحا، وقلت له: وداعا يا دكتور، نحن راحلون إلى الدمام، بصدق.. سنفتقد لك جميعا. بدا عليه الأسى، وهو ينتصب واقفا للمرة الأولى، ويمد يده لمصافحتي ويقول: هل هذا حقيقي؟ قلت له: نعم. قال: أتدري؟ هناك ما يحيرني حولك أنت وزوجتك، وأتمنى أن تخلصني من حيرتي هذه. قلت له مستهجنا: تفضل يا دكتور.. خير؟ قال بحذر وتحفظ: هل تتعاملان أنت وزوجتك مع ما يسمى بالرقى الشرعية، أو الحرز، وأعني الحجب تحديدا؟ كدت أن أضحك لفرط دهشتي من هذا السؤال، قلت له: لكن لماذا تسأل يا دكتور؟ هز رأسه وقال: هذه المرة الأولى منذ عشرين عاما، لا يراجعني فيها طفل مريض بعد تشخيصي الأول لحالته. وراح يشير إلى أطفالي.أما أنا وزوجتي، فقد تبادلنا نظرات عابرة، لن يفهمها سوانا،ثم انفجرنا ضاحكين. أشباح هاري بوتر منذ أيام، وبعد أن أنهت ابنتي الصغرى قراءة الجزء السابع، والأخير، من رواية «هاري بوتر» العالمية. بدأت أعثر على قصاصات صغيرة، في أماكن متفرقة من الشقة، وظاهرة للعيان، مدون عليها أحرف لاتينية غريبة، مرتبة في أعمدة وصفوف، متساوية. وكلما واجهتها بالسؤال بادرتني بابتسامة صافية ولم تجب. أخبرني البواب «شاه» صباحا، بأن جيراني الثلاثة في الشقق المجاورة، قد عثر كل واحد منهم على أفعى سوداء تتلوى تحت سرير نومه، كان هذا بالأمس، أما اليوم فقد رمشت لمبات الإنارة في صالاتهم الرئيسية في وقت واحد، ثم انقطعت الكهرباء دون سبب واضح. ولما أبديت له استهجاني، سألني في استغراب: وكيف ذلك؟ ألم تواجه شيئا مماثلا كالبقية؟ بقالة الهندي «جنيد»، الملحقة بالمبنى، ظلت مغلقة حتى المساء وهو ما لم نعتد عليه في الحي، أبدا. وحين سألته عن السبب، نظر نحوي في ضيق أول الأمر، ثم تحولت نظراته إلى ما يشبه الذعر. بلع ريقه ورد بلهجة مضطربة ومفككة: كنت نائما، وكلما هممت أن أستيقظ، كنت تدفعني بقوة لأعود إلى غفواتي الطويلة من جديد. كنت تلف حول جسدك أفعى سوداء، تمسك برأسها وتدفع به نحوي. كانت تبدو عليه علامات الضيق والهلع فيما يدعيه. في الفسحة السفلية من البناية تعثرت بالجار العربي الوحيد، العم «بيير»، كان هو الآخر يترنح متعثرا بالهواء، ويوشك أن يرتطم بجسده النحيل بين جدران البهو. عندما رآني عدل من نظارتيه وهزني بيديه بارتباك: هيا، أسرع، هناك حريق ضخم في شقتك، الدخان يتصاعد من أسفل الباب ويملأ المكان. هرعت إلى المصعد، وهو الذي لم يخذلني إلا هذه المرة، حين علق بين الطابقين. فاحترت. سمعت أصواتا مختلطة ومرتبكة وصخب غير معتاد، كان مصدرها الطابق العلوي. خفت إلى الحد الذي جعلني ألطم المصعد بكلتا يدي وأصرخ. ارتفع المصعد أخيرا حتى ذروة الطابق الثاني وأطل وجهي من فسحة الباب الذي انسحب نحو مكانه الأصلي، وكأن شيئا لم يحدث على الإطلاق. طالعني الجيران باصفرار وجوههم وهلع الملامح المرتسمة عليها، تبينت ذلك بوضوح من بين أعمدة الضباب العالقة بين أبواب الشقق
الأربعة. قال «شاه» بهستيريا: حاولنا خلع الباب ولم نقدر، صرخنا على العائلة ولم يمتثل أحد.. تعجل وافتح الباب، ماذا تنتظر؟. أدرت المفتاح بيد مرتجفة ثم دفعت الباب بقوة. اندفعت للداخل وتبعني البعض منهم. كان فضاء البيت صافيا تماما ولا أثر لشيء مما توقعت، لم يكن هناك ما يدل على حريق أو دخان يتصاعد. وقف الجميع وسط حيرة ودهشة، وهم يرون ابنتي الصغرى تقف مبتسمة أمام فتحة الباب، ثم تطير قصاصات كثيرة، ممهورة بأحرف غريبة، نثرتها في وجوهنا لتتهادى من حولنا فراشات ملونة وطيور زاهية، رفرفت ثم فرت من حلق الباب المشرع، وراحت تحلق نحو أبواب الشقق المشرعة ثم تعبر، وكأنها تعرف طريقها جيدا. على جانب الطريق منذ ساعات ونحن على جانب الطريق النائية، المعتمة، الخالية من كل شيء، ورعب الخلاء بما يحوي من مفاجآت محتملة ومجهولة، وما يحيط بالسيارة المتوقفة على حدود الفراغ المترامي من مخاطر. كان هذا أمام اللافتة التي لم تزل تشير إلى ثلث المسافة المتبقية لمدينة «ثول»، بينما صاحبي «الفيلسوف» يلعن الضجر والكآبة بأعلى صوته. ويرمقني بنظرة جانبية يغلفها الحذر. وكأنه يعنيني أنا، وهو يراني في مزاج معتدل ورائق. في الأيام الأخيرة، كلما تملكني الضجر واعتراني رماد الكآبة، وأنا في هذه المرحلة من حياتي المهنية، أتذكر بأنني كنت أعاني من هاتين المتلازمتين حتى وأنا أقيم في دمشق، أم العواصم. بحت بذلك لصاحبي الفيلسوف، هذا المساء، فتأملني وقال: الضجر يأتي من الداخل. ورغم أنه على حق، إلا أنني كرهته، وتمنيت لو أعترف له بأنه أحد مسببات الكآبة لدي. لكنه سارع إلى طرح الحلول الممكنة وعلى رأسها التجديد. التجديد حتى في أبسط الإمور. قال لي بعد تفكير: لماذا لا تحلق شعرك على الصفر.. لتغدو أصلعا. ثم واصل يقول وهو يكور كفه في وجهي ويدورها كمختص في التنويم المغناطيسي: احلق لحيتك واحتفظ ببعضها أسفل الذقن «ك *** وكة». يمكنك إعادة توزيع الأثاث في الصالة، وتغيير اتجاه السرير في غرفة النوم. قلت له بأنه يضاعف من ضجري وحنقي أيضا بهذه الحلول السخيفة. فاستدرك: «بلاش».. لتغير نمط الأفلام المفضلة لديك، أفلام «الأكشن» أكثر تسلية من أفلام الرعب الكئيبة، المكررة. نهض واقفا ثم جذبني من يدي كطفل وهو يقول: نذهب بالسيارة إلى خارج مدينة «جدة»، لنقصد « ثول « مثلا، نتناول وجبة سمك لذيذة على البحر، ثم نعود. وسط عتمة الطريق الخارجي، الخالي من الناس ومظاهر المدنية القاسية، اعتدل مزاجي، وكنت ألمح اللافتة التي تشير إلى ثلث المسافة، وهي كل ما تبقى لدينا لنحظى «بثول». تهادت السيارة وانحرفت برفق على جانب الطريق العام، ثم استقرت بعيدا على يمين الخط الأصفر وعاكساته الفسفورية. نظرت في وجه رفيقي الذي تبدلت ملامحه فجأة، فبادلني النظر بالمثل، وقال في برود: «خلص البنزين».
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 25-03-2022 10:32 مساء
الزوار: 400 التعليقات: 0