|
عرار:
الدكتورة دلال عنبتاوي تعد رواية «راحابيل»، الصادرة في عمان عام 2021، عملاً أدبيا متميزا وهي العمل الروائي الأول للروائي د. أنور الشعر، عالجت هذه الرواية أحداثًا تاريخية بأسلوب فني شائق كان القصد منه نزع الستار وكشف الواقع عما تعرضت له القضية الفلسطينية ومازالت. العنوان: يعد العنوان الواجهة الأولى لأي عمل أدبي وللرواية بشكل خاص؛ فالعنوان في الرواية هو الكفيل بإثارة انتباه المتلقّي والإيقاع به، لذلك يجب أنَّ يهتم الروائي به بشكل كبير ولا يجب أن يكون الروائي مقتنعًا بوفاء العنوان للنَّصِّ والالتزام به فحسب، وإنَّما عليه أن يعلِّق القارئ ويدفعه نحـوه بكل قوة. الإهداء: تتعدد أطروحات الإهداء في الروايات الواقعية وخاصة فيما يجعل من أشخاص بعينهم مرجعية للنص عبر إهدائه أو تقديم النص بعدد من الأسماء ذات الحضور الواقعي المؤكد، فالإهداء في الأغلب يطرح أشخاصًا محكومين بالواقع أو يحيل النص إلى واقعيتهم، وقد يفعل كاتب الرواية أحيانًا ما يعاكس ذلك إذ يحرك شخوصه الروائية نحو الواقعية ليمنحها قوة الواقع، وهذا ما قامت به رواية «راحابيل» في إهدائها، فيقول الكاتب في الإهداء في الصفحة الخامسة: إلى حبيبتي التي.... / على جبينها يتيه المجد.../ ويعشق اسمها ورسمها القمر/ غدًا سنعود.. فنلاحظ أن الإهداء هنا محدد الدلالة وواضح الحضور تماما على الرغم من أنه لم يحمل اسما أو ملامح شخصية إلا أن الإهداء وجهه الكاتب لحبيبة يعرفها العالم من حضورها الراسخ القوي في عالمه وفي قلبه وذاته دون أن يذكر اسمها، فهي واضحة الدلالة والحضور في العالم وفي الوجود كافة... هي حبيبته الأبدية/فلسطين. عبارات التصدير: تمثل عبارة التصدير النصي في الرواية الحديثة نوعًا من أنواع الأيقونة الوثائقية التي تربط بين النص ومساحة ما من الوعي بالواقع التاريخي، مما يمنح المتلقي توجها أوليًّا لاكتشاف وجهات نظر المؤلف قبل أن يتشكل الراوي حيث تعد تلك مساحة ما قبل الدخول إلى المتن الروائي يهتم بها المؤلف قبل أن يوكل المهمة للراوي الذي لم يبدأ عمله بعد. إن عبارة التصدير تحدد منطقة معرفية تصلح للالتقاء والانطلاق لبداية رحلة تستمد خيوطها المشتركة من أرضية مشتركة يبدأ عندها تقابل الروائي المؤلف و الراوي والمتلقي. لقد جاءت عبارة التصدير في هذه الرواية مقتبسة من التوراة لتؤسس للمساحة التي سيقف عندها كل من المؤلف الروائي والراوي والمتلقي وقد شكل هذا التصدير لحظة الانطلاق والدخول إلى عالم الرواية ضمن بنى واضحة محددة وقوية. ملامح الواقعية في هذه الرواية: لقد تعددت المذاهب الأدبية وتعددت تعريفاتها، وستعتمد هذه المقالة المذهب الأدبي الواقعي، وفي الحقيقة أنّ الواقعية هي بمثابة آلة فوتوغرافية تصور الحياة بتفاصيلها بأسلوب حقيقي نقي وشفاف وهذا ما سعت إليه وقامت به رواية «راحابيل». أهم ملامح الواقعية التي برزت في رواية «راحابيل»: الوصف: يعد الوصف عملية إبداعية أساسية في السرد الروائي، بحيث يدفع إلى تصوير الواقع بدقة، وعادة ما يمس الوصف عناصر روائية أساسية مهمة كالمكان والزمان والشخصيات وغيرها، وسأركز هنا على جانبين رئيسين هما: المكان أولًا: عادة ما يرتبط الوصف بالمكان، «وغالبا ما يلجأ الراوي إلى وصف الأمكنة أكثر من وصف العناصر الأخرى، حيث يصف مكوناتها وما تحتويه، وغالبا ما يأتي الوصف لإيهام القارئ بواقعية ما يقرأ. ولقد كان هدف الوصف هنا واضحًا جدًا وهو وضع صورة واقعية في ذهن القارئ وأمامه، وقد لاحظت أنّ الراوي السارد في هذه الرواية كان يتعمد وصف الأماكن بدقة متناهية من أجل رسم صورة تكاد تقارب الواقع وكأنها أمكنة حقيقة تدور فيها الأحداث. ولقد اعتمد الروائي «أنور الشعر» هذه الخاصية في روايته بشكل كبير، حيث أكثر في وصف الأمكنة لتبدو الأمكنة وكأنها واقعية يعايشها القارئ بل ويعيش بها أحيانا وقد تمثل هذا الوصف من خلال حديثه عن: أولا قاع المدينة/ ثانيا المملكة الرشيدية و/ بعض مظاهر الطبيعة كالأرض والحديقة. أولا: قاع المدينة ويقول الراوي في الفصل الخامس المعنون بـ «الصحفي همام»: «واجما شارد الذهن غادرت قاع المدينة قاصدًا مبنى صحيفة المسار. تتزاحم في مخيلتي مشاهد قاع المدينة التي تجسد حالة واضحة للبؤس الإنساني والقهر الاجتماعي والتمايز الطبقي: الباعة المتجولون ومطاردة موظفي البلدية ورجال الأمن لهم في غطاء من القانون والتعليمات، الفتى الذي يبيع الشاي، فتاة لم تبلغ الحلم تمارس التسول عند الإشارة الضوئية والبرد يتسلل من ملابسها الرثة ليستقر في عظام جسمها النحيل، مشادة كلامية بين اثنين من الباعة المتجولين حول البيع عند زاوية الشارع كادت تتحول إلى عراك بالأيدي. ثم يقول الراوي في الفصل الثالث المعنون ب « العامل مرزوق»: نعم.. نعم قاع المدينة منطقة مزدحمة ومشاكلها كثيرة وتحتاج إلى ميزانية كبيرة وقد تخصص الحكومة ميزانية خاصة لها في عام قادم» ثانيا: المملكة الرشيدية: لقد عمد الروائي إلى الاهتمام بوصف المملكة وصفًا دقيقًا ليضفي عليها مزيدًا من الواقعية مع أنها كانت في الرواية مكانًا متخيلًا ليس له على أرض الواقع وجود فعمد إلى وصفه بدقة.. يصفها الراوي في الفصل المعنون بـ»كيفيرا»(1) قائلا: «ثم دخلنا حدود المملكة الرشيدية شاسعة الامتداد ومترامية الأطراف وتمر فيها على جبال عالية وأودية خضراء يلفها الضباب ثم تجد نفسك في سهول واسعة تغطيها المزروعات من كل الأصناف وفي الطريق عرجنا لمشاهدة بعض الآثار التي تعود إلى حقب تاريخية متعددة وقلت في نفسي لقد زرنا آثارًا تاريخية لأمم عديدة في حقب مختلفة ولكن لماذا لاأرى أي أثر تاريخي يشير إلى وجود أجدادي في هذه المناطق كلها ؟؟؟» ووصف كذلك مدينة أم النواعير وأبدع في وصفها. ثالثا: مظاهر الطبيعة/ الأرض أولًا والحديقة ثانيا. إن وصف مظاهر الطبيعة وتقصيها والاهتمام بتفاصيلها الدقيقة جدًا يعطي الرواية واقعية خاصة وكأنها أخذت حيزا في المكان والحضور والوجود وتماهت مع الواقع وابتعدت عن التخييل وهذه من مميزات الأدب الواقعي. ويصف الراوي الأرض في الفصل المعنون ب كيفيرا (2) قائلا: وذات صباح ربيعي جميل في شهر أيار حيث الأرض بدأت تزهو وتخرج أطيب ما فيها من زهور وورود وأشجار بعد أن أروت عطشها بماء المطر الذي تساقط بغزارة. هذا الشتاء طلبت من غزوان أن نتناول طعام الإفطار على أنغام الطبيعة الحية في الحديقة حيث النسيم العليل وأجمل المعزوفات الموسيقية تعزفها الطيور وكأنها فرقة موسيقية متكاملة.» ووردت كلمة حديقة في رواية راحابيل أكثر من مرة وقد حاول الراوي في كل مرة أن يصف تلك الحدائق بعين جميلة تبحث عن الجمال فيها من كل زوايا الرؤية ففي فصل كيفيرا(2) يصفها الراوي قائلًا: وصلنا إلى باب الجناح الذي كان له مدخل خاص من حديقة تزهو بأصناف الورود والزهور وتصدح فيها الأطيار من شروق الشمس حتى مغيبها وعندما تهب النسائم العذبة يفوح معها عبق الورد والزهور فتتنفس هواءً ممزوجًا بأطيب الروائح. ويقول عنها في مكان آخر في ذات الفصل «نهضنا صباح اليوم التالي مع شروق الشمس وأخذنا جولة في الحديقة نستمتع بجمال الورود وألوانها ونطرب لأصوات العصافير تغني على أفنان الشجر. وقت ساحر ماتع إلى حد الخيال.» ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن هناك الكثير من الأمكنة التي ورد ذكرها في هذه الرواية وقد جاءت منقسمة إلى نوعين: الأماكن المفتوحة كالمقهى، والشارع، والبحر، والأماكن المغلقة كالبيوت والقصور وغيرها....ربما أتحدث عنها في وقت آخر الشخصيات ثانيًا: لقد وظف الكاتب في رواية «راحابيل» نوعا آخر من الوصف هو وصف الشخصيات وأكثر منه وذلك من أجل «إيهام القارئ بواقعية ما يقرأ» فحاول أن يرسم تفاصيل الشخصيات ودقائقها وقد وصف في بداية الرواية الشخصية الرئيسة دون أن يطلق اسما معينا لها بل أوغل في الحديث عنها من خلال وصف أطلقه عليها يتطابق وحالتها الصحية ففي الفصل الأول المعنون ب « نادل المقهى « يحكي الراوي واصفًا الشخصية الرئيسة في الرواية؛ شخصية المبتور قائلا: «رأيته ملقى على قارعة الطريق في أحد شوارع قاع المدينة حيث ينام الشارع ويصحو.. كان يتكئ على بقايا جسده الذي أنهكته الأيام وتصاريف أهلها يلف ما تبقى من أعضائه بأسمال بالية ممزقة وكأن الدهر أكل عليها وشرب. ساقاه مبتورتان ويده اليسرى ملفوفة بجبيرة مربوطة إلى عنقه. يمر الناس بقربه غير آبهين من بقايا اللحم الكاسد يبدو أنه فاقد القدرة على الكلام كما فقد القدرة على الحركة بسب بتر ساقيه ولم يظهر من أعضائه قادرًا على القيام بنشاطه البيولوجي سوى يده اليسرى التي يلتقط بها مايجود به المارة من فتات أقواتهم وعينين غائرتين تعلوان لحية كانت على ما يبدو كثة غزيرة ذات يوم وبقي فيها بعض كتل الشعر موزعة هنا وهناك مثل ثروات الوطن العربي التي تمتاز بغزارة الإنتاج وسوء في التوزيع. تنظر إلى عينيه فينتابك شعور عميق أنهما تخفيان في أعماقهما أسرارا. وفي الفصل الثاني المعنون بـ»الصحفي همام» يركز الراوي على وصف الملامح الخارجية للعامل الذي صادفه بالمقهى قائلا: ... وكان يرتدي بدلة سفاري قديمة رمادية اللون وفوقها معطف أسود يتناسب مع بشرته البيضاء وقامته فارعة الطول مما جعله يبدو وكأنه من الجماعات التي تدافع عن حقوق العمال.» لقد اعتمد الروائي كذلك في روايته لزيادة التأكيد على واقعية الشخصيات ودورها الحقيقي الفاعل في الرواية على الوصف التعبيري الذي يؤدي الوظيفة الإيحائية التي تجعل القارئ يتجاوز الصور الخارجية والشكل والملامح الخارجية للشخصية إلى باطن الشخصية، وقد جاء هذا الوصف واقعيًا بل ومنطقيًا أحيانًا كثيرة ليحلل باطن الشخصية بحيث تتجاوز الصورة المرسومة بالملامح والصور الخارجية وتتجاوزها للوصول إلى صور لتلك الشخصية كوصف الانفعالات والاضطرابات، وقد كان في الحقيقة وصفا دقيقا جدًا لعوالم الشخصيات الداخلية. يقول الراوي إمعانًا في وصف عالم ذاك المبتور من الداخل في الفصل المعنون بـ»الصحفي همام»: «ومع تكرار ذهابي للمبتور تولدت بيننا بعض الألفة وعندما وضعت الطعام في حجره تبسم وهز رأسه دلالة على الشكر والامتنان لما أفعله معه، وفي اليوم الثامن وضعت له الطعام في حجره وجلست إلى جانبه وبدأت أناوله الطعام لقمة لقمة نظرت في عينيه فرأيت فيهما دفئًا كبيرًا وحنانًا عظيمًا وشعرت أن آبائي من آدم حتى الآن يحيطونني بدفئهم وحنانهم.» ومن ملامح الوصف التعبيري في الرواية ما وصفه الراوي في الفصل المعنون ب كيفيرا(2) « أنا وغزوان»: كان غزوان فارسًا شجاعًا وشهمًا يحمل الكثير من صفات أبيه وطباعه كما عرفت فيما بعد.» لقد عمد الكاتب التركيز على شخصيات الرواية من خلال توظيف الوصف الخارجي والتركيز على أهم الملامح الخارجية للشخصية والإمعان بوصفها بحيث يقوم القارئ برسم تلك الملامح لتلك الشخصيات بمنتهى الدقة وبالكثير من التفاصيل من أجل إضفاء سمة الواقعية عليها وكأنهم أشخاص حقيقيون يتحركون بيننا ويمارسون الحياة بكل تفاصيلها أخيرا: لقد قامت هذه الرواية على توظيف جميع تقنيات العمل الروائي من مكان وزمان وحوار وأحداث واتكأت على توظيف أسلوب السيرة الذاتية في السرد من خلال جعل الشخصيات تروي الأحداث وتعبر عن الأفكار ووجهات النظر للتعبير عن تفصيلات الواقع وهي تبدو أحيانا أقرب إلى حكايات التراث جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 27-05-2022 11:02 مساء
الزوار: 470 التعليقات: 0
|