تسمح بتشكل تصور منسجم يمكّننا من فهم طبيعة روايته «ضوضاء الريح» الصادرة عن دار الينابيع، 2012.
فقد تبنى الكاتب قالباً روائياً كلاسيكياً ورؤية قائمة على سرد الأحداث بشكل موضوعي محايد، مع تشغيل أسلوب السرد غير المباشر، وتوظيف مجموعة من الخطابات والسجلات الأسلوبية كالسجل الحلمي، والسجل التاريخي، وعليه، فإنها رواية واقعية قائمة على التخييل المرجعي والرمزية الحدثية، وتحمل في طياتها رؤية تاريخية، وتطرح موضوع الهوية والمقاومة بشكل جديد، ولغتها سهلة وشفافة، وحدثها سردي وصفي.
هذه التعددية أغنت الرواية بكثافتها وغناها الدلالي والإيحائي، ما جعلها تعيد إنتاج التاريخي (الواقعي) من خلال لعبة الكتابة التي تقوم على الزمن والتاريخ، إذ إن «ضوضاء الريح» تستحضر العناصر التاريخية وتتقاطع معها وتعيد إنتاجها كعناصر تخيلية، فتجعل الزمان المرجعي للرواية حاضرا متحركاً، فإلى أي حد استطاعت الرواية أن تصهر التاريخي في أحابيل التخيلي؟ وإلى أي حد نجحت في إقامة تقاطع تفاعلي بين المرجعية التاريخية والتخيلية؟ وهل نجحت في تأسيس حوار حيوي بين «التاريخ» و»الرواية»؟ وبالتالي؛ ما مدى نجاحها في الإخراج الجمالي للتاريخ؟

• المعطى القصصي والدلالي
تنهج رواية يوسف حمدان نهج حركية التفاعل مع الواقع الاجتماعي أو التاريخي من خلال منظور الكاتب أو البطل المهيمن على البنية السردية، وهذه الحركية محملة برؤى نقدية جريئة، وذات سمة فكرية واضحة؛ لأن حمدان نشأ شاعراً قبل أن يكون روائياً؛ لهذا جاء وعيه طاغياً على كتابته السردية التي أتقن من خلالها استثمار الرواية في مجال إيصال فكرة أو رؤية أو حساسية أو انتقاد جريء لواقعه.
إن عنوان الحكاية: «ضوضاء الريح»، يلخص الموضوع المحوري للرواية المتمثل في جوانب من الحياة للشخصية المحورية بالرواية (يوسف) الذي كبر وعاش على مفارقات موزعة بين ما يسمعه وما يراه، بين ضياع الوطن وفقدان الأم التي قضت نحبها بحادثة مفجعة وهي في ريعان شبابها إثر انهيار «المطْيَنة» عليها وعلى رفيقتها «مدللة» أثناء غياب زوجها الذي كان في حينه في بلدة الكرك لبعض شأنه، وعاد بعد أربعة أيام من وفاة زوجته، ليُفاجأ بالخبر المفجع، وليجد أمامه أربعة أطفال عُزّل، يسترجعون وجه أمهم المنطفئ، ويعتصرون الحنان والشفقة من أكفّ الأقارب والجيران المحيطين بهم.
فقد رحلت الأم فجأة وليس لديهم صورة لها يتذكّرونها بها، لكنّها تركتْ لهم ثوب زفافها الفلسطيني المطّرز بكلّ ملامح فلسطين، والذي كانت تحتفظ به في صندوق خاص، مزيّن برسومات تدلّ على ملامح تلك الأيام، وكثيراً ما كانوا يطفئون ولههم إلى أمهم بالنظر إلى الثوب والتّمعّن فيه.
أما «يوسف» الذي كان قد «شرب ماء حياته من نبع الموت» كما قال، فقد أصابته عدوى «تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفنُ» تحت ضغط الظروف، عندما بحث عن فرص عمل في العطل الصّيفيّة في عمّان، وهو على مقاعد الدّراسة، وكانت في الغالب أعمالاً شاقّة..
لم تقتصر الرواية على الشخصية المحورية فحسب، فقد جاء التركيز على هذه الشخصية لجعلها بؤرة لحكايات ترصد عبرها زخماً من التفاصيل التي يحيا في فلكها «يوسف»، إلى جانب شخصيات ثانوية ظل حضورها فاعلاً ووازناً، ما أسهم في خلق ديناميكية في النصّ المحكي داخل الرواية اطّلعنا من خلاله على بعض المواقف الاجتماعية والسيكولوجية التي تظهر كملامح للمجتمع الذي تحكي عنه الرواية بصور شتى، وعلى مفارقات اجتماعية وسياسية، وعلى أنماط إدراك وأساليب عيش تم التركيز في مجمل تفاصيلها على الهواجس التي تعكس عمق الهوة التي يتحسسها «يوسف» من جراء مفارقات الواقع عند مقارنته بالماضي، دون إغفال التحولات السياسية والاجتماعية التي أحدثت ما يشبه القطيعة مع قيم الماضي.
ينطلق الروائي في تحبيك «ضوضاء الريح» من قصة تاريخية شفوية يرويها بكل تفاصيلها إبان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.. وتبدأ القصة باستسلام القرى الفلسطينية حقناً لدماء أبنائها أمام تحالف الإنجليز واليهود في ما بينهم، واستعمالهم الأسلحة الفتاكة في اقتراف جرائمهم الجماعية لطرده من أرضه.. فأدى الوضع المأساوي في القرى مع انتشار الجهل والفقر والجوع وانعدام الأمن إلى هجرة السكان نحو قرى جديدة داخل فلسطين بحثاً عن الأمان ولقمة العيش.. فهاجرت أسر كثيرة فيهم الأرامل واليتامى والأطفال الصغار. ومن بين هذه الأسر التي شدّت الرحال بحثاً عن الأمان، أسرة يوسف (خديجة وأولادها)، تلك المرأة التي حمت أبناءها أثناء غياب زوجها، بانضمامها إلى أسرة أبيها في رحلة اللجوء هرباً من بطش الطغاة الصّهاينة.
وقد وصلوا أولاً إلى قرية دير الذّبّان عند غروب الشّمس، لكنّهم سرعان ما غادروها عندما جاء من يقول إن اليهود أصبحوا على مشارف دير الذّبّان، «فطلب جدّي منّا التّحرّك شرقاً باتّجاه خربة أم برج القريبة من قرية عجّور، حيث سنكون جميعنا هناك في مأمن، ففيها مغر كثيرة لإيوائنا وإيواء أغنامنا» (ص 12)، وهناك فقدت العائلة طفلتها الرضيعة «زينة»، وبعد ثلاثة شهور دارت عليهم الدوائر، فاضطرّوا إلى مواصلة لجوئهم من مكان إلى مكان، حتّى انتهوا إلى خربة في قرية دير بزيع غرب رام الله، مروراً بالعرّوب، التي باتت فيها العائلة ليلة واحدة، فبيت لحم ليبيتوا فيها أيضاً ليلة، فالقدس فقلنديا، فبيتونيا التي وصلتها العائلة ليلاً فباتت فيها، إلى أن انتهت بهم الطريق إلى عين عريك ظهراً، وإلى دير بزيع عصراً، وذلك قبل أن تستقر العائلة في خربة «حريقة الصاج» لفترة من الزمن عاد خلالها ربّ العائلة الذي تبيّن أنه كان أسيراً لدى اليهود.
ووجد الجميع أنفسهم أمام ظروف أخرى جديدة استوجبت انتقالهم إلى أريحا، حيث وصلت إليها العائلتان سيراً على الأقدام، وقت الضحى في اليوم التالي من مغادرتهم، في نيسان 1950، «لنذهب في اتّجاهين، جدّي بعائلته وأغنامه إلى مخيم عين السّلطان، وأبي بعائلته إلي مخيّم النّويعمة» (ص 28).

•التفاعل مع التاريخ
إن أشكال التعامل مع الماضي في الكتابة الإبداعية تختلف، لكنها تحرص على أمر أساسي هو ربط الماضي بالحاضر، والذي يتم عبر علاقات دلالية بين الواقعين قد تكون مبنية على التماثل أو التناقض.. وهنا لا بد من التأكيد على أن أيّاً من شكلَي التعامل ينطوي على رؤية أيديولوجية للواقع الحاضر.. ويلاحَظ من خلال جرد مظاهر التاريخ الذي تتفاعل معه «ضوضاء الريح» أن هناك حضوراً لمجموعة من الأحداث المتحققة التي وقعت خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، مثل خروج أهلها من مدنهم وقراهم، ومن ثمّ لجوئهم إلى كلّ أصقاع الدّنيا..
فكان تفاعل الرواية مع التاريخ، في إطار البحث عن شكل ناجع للكتابة، يساعد على الغوص في الواقع، لإيجاد آليات لخلخلته وتحويل مساره إلى جادّة الصّواب، وإعادة كتابة هذا التاريخ بقراءة إبداعية خلاقة، وإلا فإنها سوف تتحول إلى تكرار عقيم لما سلف. من هنا جاءت مقاربتنا للمتن الروائي المدروس، شكلاً من البحث في طبيعة التاريخ الذي يستحضره الكاتب يوسف حمدان في روايته، وفي طريقة تعامله معه، لاستحضاره داخل النص، والوقوف عند الصورة التي يتمثل بها الكاتب، فيما يؤصّل وظيفة التاريخ في إبداعه.
قدمت «ضوضاء الريح» شخوصاً واقعيين كوجود موضوعي تتحدد من خلالهم الأحداث الكبرى في الرواية: أبو عاصي، إبراهام ليفي، أم عاصي، الجدّة فاطمة سالم، الأم خديجة وزوجها وأولادهما، الجارة والصّديقة أم علي شمسة، مدللة، الكعش، الحاج مصلح، الشيخ يوسف، عبد الله أسعد، الأستاذ علي الأميركاني، الأستاذ سعدات الحوراني، الأستاذ مصطفى البنا، الأستاذ مصطفى السمهوري، المعلّم يوسف البيّاري، مدير المخيّم إسحق الدّجاني، عدلي عرفات (المعلّم الأيقونة الذي ترك أثراً لا يُمحى في شخصية يوسف الذي يصفه بزارع قمح الحكمة ليصنع منه خبز الحياة)، المربّي حبيب الخوري، الأستاذ عز الدين، إسحق موسى الحسيني، عودة وأمه الضريرة، إسماعيل علي محمد، يوسف المغزّز، رشاد أبو شاور، عبد الرحيم قراقيش، مصطفى مصّيص، صبحي حرز الله، حسين الكوزي، هشام الشّوّا، فايز وشاح، أميرة ج، صبحي محيسن، د.هشام الجيّوسي، وديع جورج دعدس، جهاد أبو طاحون، مستر دوبي، كاظم، جمعة المصري، المهندس إبراهيم، ي. المالكي، وليد محمدية، بيتر درينت، روبرت هابي، عجران، الخبير هانك، رزق الغزّاوي.. إلخ.
ووظفت الرواية أيضا شخصيات «تخيلية» من أعراق وأوساط اجتماعية مختلفة ومتنوعة، دون أن يتعارض هذا التوظيف مع تاريخية الرواية أو ينقص من قيمتها المرجعية، بل إنه دعم تواشج التاريخي مع التخيلي فيها، إذ إن الحاجة إلى التخييل وتوظيفه في سياقات المحتمل والممكن مسألة حيوية لتحقيق فنية الرواية من جهة، ولملء ثغرات النص التاريخي الإخباري وبياضاته من جهة أخرى.
فالرواية تقدم بذلك قصة يمكن أن نصدّقها بوصفها عالماً من الواقع (التاريخي)، ويمكن أن نتخيلها عبر اللغة الأدبية بتمفصلاتها الواقعية والخيالية والنفسية والجمالية، كما أن الذي أكسب هذه الشخصيات الفسيفسائية في الرواية قيمة تاريخية وجمالية حضوريّة أنّ هَمِّ «ضوضاء الريح» انصبّ في كثير من الأحيان، على رسم الشخصية الفلسطينية، قبل أن تعمل على تقديم رواية تشكل الأحداث ذروتها.
انطلاقاً من موجز الأحداث أعلاه، يتضح أن «ضوضاء الريح» رواية تاريخية بامتياز، يقوم موضوعها على رصدٍ وتقصٍّ تاريخيّ يرتدي لباس الروائي، ومن هنا يمكن القول إن اللجوء إلى التاريخ للتفاعل معه كمادة حكائية اختيار جمالي من جهة، ومن جهة أخرى يتيح القدرة على التعبير أكثر مما قد يتيحه واقع مرير سُيّج بسلسلة من المحرمات والممنوعات، التي جعلت الروائي يلجأ إلى التعبير بالكتابة الإبداعية، وبطريقته السّيريّة الفريدة هذه.

•مكانية التلقي
خصوصية المكان أو عبقريته وما أثير من جماليات في هذا المجال، تمثل البُعد الحميم الذي منح هذه الرواية وهج التلقي، فقد عملت الرواية على استيحاء الواقع المتميز بكثرة الأحداث، بعيداً عن هاجس التوثيق وملاحقة الأحداث الكبيرة والصغيرة، اللذين يحتلان مركز انشغالات الكتابة التاريخية وفق سلسلة من أنساق البناء السردي والأسلوبي.
أما المكان كما بدا في العمل الروائي، فيمكن تقسيمه إلى: داخلي وخارجي. أما الداخلي فمحكوم بالصراع بين الفلسطينيين واليهود، وهذا المكان، بالرغم من انغلاقه، يؤكد انغراس الفلسطينيين فيه، يغادرونه لوقت وجيز ثم يعودون إليه, ويمثل الخارجي فسحة للفلسطيني المقتلع من وطنه، ومهرباً من ضجر المكان الداخلي الذي ما انفك ينتمي إليه ويحنّ إليه..
أما زمن السرد، فهو زمن سردي كرونولوجي متعاقب، ينطلق من الحاضر نحو الماضي ويعتمد على ترابط الأحداث منطقياً وزمنياً، رغم أن الفترة المرصودة زمنياً (1948-1978). وترتكز الرواية على سرعة الإيقاع الزمني عن طريق الحذف وتلخيص الأحداث والقفز على مجموعة من الأحداث التاريخية المهمة، ومن ثمّ تخلو الرواية من المقاطع الوصفية والمشاهد الدرامية المثيرة كما يدل على ذلك عدد صفحاتها القليل نسبياً (116 صفحة من الحجم المتوسط).

نقلا عن الرأي