|
عرار:
غسان إسماعيل عبد الخالق مما يذكر لحقبة المد التقدّمي في الوطن العربي، إنشاؤها حالة من التوحّد القومي الذي غيّب كثيرًا من تفاصيل الهويّات المذهبية والطائفية، لصالح التفاهم الضمني على أن الحضارة العربية الإسلامية، بمكوّناتها المادية والمعنوية، هي المرجعية التاريخية والفكرية لكل العرب. وعلى الرغم من أن هذه الحالة من التوحّد القومي، قد اعتراها بعض التصدّعات وخاصة في السبعينيات، فإنها ظلّت متماسكة إلى حد ملموس حتى عام 2006 الذي شهد انفجار الحرب المذهبية في العراق، على مرأى ومسمع من الاحتلالين الأميركي والإيراني، وفتح باب الاصطفافات المذهبية الرئيسية والفرعية على مصراعيه، كما فتح باب السؤال الأخطر: هل أخطأنا بتجاهلنا لتفاصيل الهويّات المذهبية والطائفية طوال عقود... حتى صرنا كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل؟ وإذا كنا قد أخطأنا فعلاً فما العمل؟ لم يسلم المشهد الروائي العربي من ارتدادات هذا السؤال؛ فراحت جرعة التركيز على خصوصيات الهويّات المذهبية والطائفية تتعالى فيه، انطلاقًا من قناعة بعض الروائيين العرب بأن تسليط الأضواء على الإسلام السنّي والإسلام الشيعي من جهة، وعلى التفاصيل المذهبية للطوائف الأخرى من جهة ثانية، من شأنه أن يثقف الجمهور في ظل انتشار كثير من الأوهام النمطية المتبادلة، وأن يشيع جوًا من التسامح، وأن يرسّخ التعايش مع فكرة التعدّد والتنوّع، وأن يشبع مخيلة المتلقي بما لا يعد ولا يحصى من التفاصيل التي ظلّت أسيرة البيوت والغرف المغلقة. في هذا السياق، يمكننا الزعم بأن مجدي دعيبس، لم يدّخر وسعًا لإعادة صياغة تاريخ ودور المكوّن الدرزي في بلاد الشام، من منظور روائي واقعي لم يخل من بعض الأسطرة، وبالاستناد إلى التقنية السردية ذاتها التي سبق له أن وظّفها في (الوزر المالح)؛ تقنية تعدّد الأصوات والكرنـ?ـالية والمنحى الحواري – وفقًا لباختين ثم جوليا كريستفاوتودوروف- وهي التقنية التي استأثرت بعناية بعض النقاد فلم يكادوا يبقوا زيادة لمستزيد. وعلى كثرة الأصوات التي شاركت في نسج قماشة السرد المتئد المضبوط في (قلعة الدروز)، فإن أصوات كل من: عجاج وزوجته صبحية وابنه نايف، هي الأعلى والأوضح والأكثر تأثيرًا في توجيه حركة السرد؛ بدءًا من المكان والزمن الجميلين اللذين تمثّلا في سنوات الإقامة في القرية الوادعة المنتجة، مرورًا بالمكان والزمن المتوتّرين اللذين تمثّلا في تجربة الهروب ثم الاختباء في أكثر من قرية بعد أن أقدم الفتى نايف على إرداء جندي فرنسي بخنجره، انتقامًا لجدّته التي قضت نحبها بسبب تهور هذا الجندي، وليس انتهاءً بمكان وزمن المحنة اللذين تمثّلا في الاستقرار بقلعة الأزرق/ الدروز مع بعض العائلات الهاربة من البطش الفرنسي، وصولاً إلى لحظة المأساة التي تمثّلت في مصرع نايف، على الرغم من نجاحه في الفرار من السجن، وجرّاء إصراره في الوقت نفسه على تصفية أحد الجواسيس، وفاء منه لأحد رفاق السجن. على أننا ينبغي أن نستدرك بالقول: إن مجدي دعيبس لم يسهب في تسليط الضوء على تفاصيل المذهب الدرزي الذي ما زال غامضًا في أذهان الغالبية الغالبة من الناس، فاكتفى ببعض الإشارات العابرة، وركّز في المقابل على تفاصيل التاريخ الاجتماعي والسياسي الذي أظهر المكوّن الدرزي، ركنًا رئيسًا من أركان مقاومة الأتراك والفرنسيين؛ فبعيدًا عن تفاصيل المذهب الدرزي تبدو العادات الاجتماعية مثل الشجاعة والكرم وإحاطة المرأة بسياج منيع من الحرص والرزانة، متطابقة تمامًا مع المدوّنة الاجتماعية المتعارف عليها في بلاد الشام، ناهيك بأن التصدّي الباسل للاستبداد التركي والتسلّط الفرنسي، يبدو محرّكًا وامتدادًا للمشاعر الوطنية والقومية. لقد مثّل عنوان الرواية (قلعة الدروز) معادلاً موضوعيًا لما أراد دعيبس أن يضفيه على الشخصية الدرزية من صلابة وخشونة وعناد؛ فلم يجد أفضل من قلعة الأزرق/ الدروز، رمزًا ماديًا ومعنويًا لهذه الشخصية الراسخة المقاتلة العصيّة على الاستسلام. ومما يسترعي نظر الناقد المدقّق في صفحات هذه الرواية؛ أن دعيبس لم يشر لدور هذه القلعة في الثورة العربية الكبرى؛ فقد استخدمها (لورنس العرب) مقرًّا لاجتماعاته وقاعدة لعملياته العسكرية ضد الأتراك. ثم استخدمها الشريف الحارثي للغرض ذاته، ثم شنّ الأمير فيصل ابن الحسين - بوصفه قائدًا للجيش العربي الشمالي- هجومه الأخير على الأتراك انطلاقًا منها. مع أن دعيبس لم يدّخر وسعًا لتسليط الضوء على الحقبة الرومانية التي احتضنت فكرة تأسيس وبناء القلعة على يد المهندس الروماني آرنسو. ولعله أدرك – وهو يأخذ على عاتقه مهمة إبراز ثورة الدروز على الاستعمار الفرنسي بقيادة سلطان باشا الأطرش- أن ظلال الثورة العربية الكبرى وظلال شخصياتها الرئيسة، من شأنها أن تحجب – تاريخيًا وروائيًا- أي ظل آخر. ناهيك بأن ثورة سلطان باشا الأطرش الذي يُعدّ من أبرز رجالات الثورة العربية الكبرى أيضًا، قد تلت الأخيرة ومثّلت امتدادًا لها على نحو ما. وأخيرًا؛ فإن دعيبس يبدو في هذه الرواية، مخلصًا للوظيفة التثقيفية والتوثيقية، فواظب على شرح وتفسير كل ما بدا له غامضًا أو غير مفهوم للمتلقي. بل إنه لم يتردد في إدراج مرجعين تاريخيين في ختام الرواية، بوصفهما المصدرين الرئيسين لسرديته. وكأنه يؤكد بذلك للمتلقي والناقد حقيقة أنه يفهم الرواية على أنها وثيقة. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 28-10-2022 08:09 مساء
الزوار: 464 التعليقات: 0
|