|
عرار: يحتل الشعر النبطي مكانة مرموقة في منطقة الخليج العربي، تتمثل في كونه اللون الأدبي الشعبي الشائع الذي يعبر الناس بوساطته عن مشاعرهم وقضاياهم، يستوي في ذلك الأمير والفقير، والصغير والكبير. ويشبه الشعر النبطي في شكله وأسسه الفنية الشعر العربي الفصيح التقليدي. ويرجح أن تكون أصوله في شعر اللهجات القبلية الفصيحة قبل الاسلام وبعده، وهو شعر أغفله الرواة إلا قليله. والشعر النبطي الذي ندرسه هو شعر عربي الأصول والأبنية والتقاليد، بدوي اللهجة العامية. وانطلاقاً من كون الشعر النبطي مقولاً باللهجة العامية البدوية، فإن تتبع بداياته يمكن أن يتحقق من خلال تتبع بدايات ظهور اللهجة العامية في البادية العربية، وحلولها محل الفصحى في التداول اليومي. وهذا ما لم يبدأ قبل القرن الرابع الهجري، بل انه لم يكتمل بحيث يحتمل أن يصاغ به شعر عامي الا في أواسط القرن الخامس الهجري. ومن هذه الفترة التاريخية نقل ابن خلدون بعض نصوص الشعر البدوي، فكان ما نقله في مقدمته هو أقدم نصوص الشعر البدوي المدونة المعروفة، اضافة إلى انها كانت من أقرب النصوص إلى البدايات الفعلية لظهور الشعر النبطي العامي، اذ بتحقيق هذه النصوص تبين أن أقدمها نص يعود إلى حوالي سنة 450 هــ، وهي سنة قريبة جداً من النشأة الافتراضية للشعر البدوي العامي في نجد، يعزز ذلك أن النصوص التي رواها ابن خلدون من الشعر البدوي كانت جميعها لشعراء من بني هلال الذين نزحوا من بادية نجد وأطراف الحجاز إلى الغرب العربي، ولا زال يعزون ابتكار هذا النوع من الشعر لبني هلال، ولهذا الاعتقاد ما يسوغه من التاريخ والجغرافيا السكانية. أما تسمية هذا الشعر باسم "النبطي"، فهو نابع من أن كلمة "نبطي"، في العهد الذي نشأ فيه الشعر النبطي، كانت تعني عجمة اللسان وعدم الفصاحة، سواءً أكان الموصوف بها عربياً أم غير عربي، ولذا فقد سمي الشعر الذي خرج عن أصول الفصحى باسم "الشعر النبطي"، وهي تسمية منسوبة إلى قوم اسمهم النبط من غير العرب، كانوا يسكنون سواد العراق، وامتد وجودهم جنوباً حتى وصل البحرين، اي انهم كانوا مصاقبين للبادية العربية، وكانوا رمزاً لفساد اللسان والعجمة. لقد تأخر ظهور الشعر النبطي عن ظهور الشعر العامي الذي نشأ في الحواضر العربية مدة قرنين من الزمان، بسبب احتفاظ البادية بلغتها الفصيحة الفطرية، في وقت تفشت فيه العاميات في الحواضر، بسبب مخالطة الاعاجم وفساد السلائق. وللشعر النبطي اسس بنائية وفنية متوارثة ومعروفة، قلما يحيد عنها الشعراء، وكثيراً ما تتوافق هذه مع أسس الشعر العربي الفصيح. وتتأثر بما يستجد فيه من ظواهر. فمن ناحية البناء الفني للقصيدة، جاءت القصيدة النبطية مشابهة للقصيدة الفصيحة التقليدية، فالبيت المقسوم إلى شطرين هو وحدة القصيدة، وقد تتضمن القصيدة الواحدة أكثر من موضوع واحد، كل موضوع منها يبدو منفصلاً عن غيره، لا يجمعها معاً إلا ما يدور في نفس الشاعر من عواطف ومشاعر. وكثيراً ما تنقسم القصيدة إلى ثلاثة أقسام هي البداية ثم العرض أو الموضوع الرئيسي، ثم الخاتمة. وللبداية أساليب تقليدية منها البدء بذكر الله تعالى، ومنها البدء بالشكوى والتعبير عن الهموم والوجد، ومنها البدء بمخاطبة النسيم أو الطير المثير للشجون... الخ. وللخاتمة أساليب تقليدية كذلك، أكثر انتشاراً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الله تعالى. ولكي يربط الشاعر بين هذه الأقسام فإنه يتبع أساليب مختلفة منها ما يحقق الربط الموضوعي بين العنصرين المتتاليين، بحيث ينتقل القارئ أو السامع من موضوع إلى موضوع دون أن يشعر بالمفاجأة، أو الانقطاع. ومنها ما يجعل القارئ يشعر بالنقلة ويشعر بأنه مر بفجوة موضوعية، وانه انقطع عن موضوع ودخل في غيره دون مقدمات أو مبررات. أما هذه العناصر المكونة للقصيدة فقد يكون ورودها تقليدياً كذلك، ولكن هذا لا يحدث إلا في بعض الأنماط البنائية التقليدية، كمثل قصائد المشاكاة والمردة، التي يشكو فيها شاعر لشاعر آخر ما يعانيه أو يلاقيه، ويطلب منه حلاً أو مساعدة، فيرد عليه الشاعر الثاني بقصيدة مبينة على نفس الوزن والقافية، مقدماً الحل الذي يراه ويعرض المساعدة التي يراها، ففي هذه القصائد ومثلها قصائد المدح المرسلة، وقصائد الغزل المرسلة بوساطة المندوبين، يلتزم الشعراء بناءً تقليدياً، وتسلسلاً متعارفاً عليه في البداية والعرض والخاتمة، وقلما يشذ عنه الشاعر. وقد تبنى القصيدة النبطية تبعاً لتسلسل معين، وحينما تسمى باسم ما تبعته في تسلسلها، فالقصائد الألفية يتبع الشاعر في تسلسل أبياتها حروف الهجاء من الألف إلى الياء_ وقد سميت بالألفية، نسبة إلى حرف الألف. والقصائد المبينة يتبع الشاعر في تسلسل أبياتها ايام الاسبوع، أو عدد أيام الشهر. وقصائد " العرائس" يطوف فيها الشاعر بعروسه على مشاهير الساحة لتنتقي منهم من يعجبها، ولكنها تجد في كل واحد مثلبة تبعدها عنه، الا الممدوح فانه يكون منى القلب والنفس. أما النواحي الوزنية والموسيقية فقد بنيت أسس الشعر النبطي فيها على أسس الشعر العربي، فيمكن باتباع طريقة التقطيع المعروفة استخراج التفعيلات ثم الأوزان النبطية، وقد امتاز الشعر النبطي بهذه الخاصية عن غيره من الأشعار العامية، التي لا تقبل التقطيع الفصيح وتفعيلاته وأوزانه، بسبب السكون الواقع في حشو البيت، وما ينتج عنه من مقاطع مذيلة، وليست معروفة في حشو البيت الفصيح. وقد بنيت غالبية أوزان الشعر النبطي على ست تفعيلات فقط من ثمان فصيحة، فقد ندرت فيه تفعيلتا (متفاعلن ب ب - ب -) و (مفاعلتن ب - ب ب - )، وذلك بسبب تكرار المقاطع القصيرة فيهما، مما يستدعي وجود حروف متحركة متتالية، وهذا ما يندر وروده في الشعر النبطي ذي اللهجة العامية التي تميل إلى التسكين وعدم توالي الحركات. أما الأوزان التي بنى عليها الشعراء النبطيون، فقد بلغت سبعة وأربعين وزناً، تتفرع من معظمها صور أخرى حسب تفعيلة العروض والضرب. ومن بين هذه الأوزان اثنا عشر وزناً التي اعتمدت على التفعيلتين المهملتين السالفتين. أما البقية الاوزان النبطية فهي مولدة مستحدثة، منها ما أتوا به على نمط البحور المهملة في دوائر الخليل العروضية، ومنها ما هو مستحدث مبتدع بتكرار بعض التفعيلات وتزويجها مع غيرها. ويلاحظ في استخدام الشاعر النبطي للأوزان، انه مدرك لوحدة الوزن وهي التفعيلة ادراكاً موسيقياً رائعاً، جعله يستحدث الكثير من المجزوءات والمضاعفات للوزن الواحد، فتفعيلة (مستفعلن) مثلاً استخدمها الشاعر النبطي مفردة في كل شطر، ومزدوجة في كل شطر، ثم مكررة ثلاث مرات في كل شطر، ثم مكررة أربع مرات. وتفعيلة (فعولن) استخدمها الشاعر النبطي مزدوجة في كل شطر، وكررها أربع مرات في كل شطر، كما كررها ثماني مرات في كل شطر... وهكذا. إن هذا الاحساس بالتفعيلة كوحدة للوزن يشبه إلى حد ما، ما ذهب إليه الشعراء المحدثون من بناء القصيدة على أساس التفعيلة، غير أن الشاعر النبطي ابقى على التزامه بالمقدار الموسيقي للبيت، إلى جانب التزامه بالتقفية التقليدية. ولم يكتف الشاعر النبطي بالتقفية في نهاية كل بيت من القصيدة، وهو الأساس الموروث، وانما ألزم نفسه في معظم الأحيان، بالتزام قافية اخرى في نهاية الشطر الأول من كل بيت، أسماها "الناعشة". وقد انقسمت القصائد من حيث قوافيها غلى عدة أقسام منها: ( المثناية) ذات الشطرين، و(المثلوثة) ذات الاشطر الثلاثة، و (المربوعة) ذات الاشطر الأربعة، و (المخموسة) ذات الأشطر الخمسة، و(المثمونة) ذات الأشطر الثمانية، ولكل نوع منها نظام او أنظمة تقفية تخصه. وعلاوة على ذلك فقد ألزم بعض الشعراء انفسهم بقواف اضافية وصلت عند احدهم إلى اربع قواف في كل بيت من شطرين، فقد التزم حرفاً في أول أبيات القصيدة مع آخر في نهاية الشطر الأول، وثالث في بداية الشطر الثاني، علاوة على الروي المعهود في نهاية الأبيات. إنه نمط من أنماط (لزوم ما لا يلزم) الذي ابتكره أبو العلاء المعري. لقد أعان الشاعر النبطي على النهوض بوزنه وقافيته بقوانينها الصارمة، أنه مالك لزمام اللغة، ويستطيع ان يتصرف في صياغة بعض كلماتها واشتقاقها بما يناسب غرضه، هذا بالضافة إلى كون الشعر النبطي مروياً يسمع أكثر مما يقرأ، مما يتيح للشاعر فرصة التطويل والتقصير في الأصوات ومقاديرها بما يتناسب مع وزنه. كما أن طواعية اللغة للشاعر وبعض الخصائص الصوتية للهجة أتاحت للشاعر مجالاً أوسع ومفردات أكثر، يمكن استخدامها في التقفية، ومثل ذلك أن الشاعر النبطي إذا ما اختار الجيم قافية لقصيدته، فانه يستطيع الاتيان بكلمات منتهية بجيم من الكلمات التي تنتهي بجيم من أصلها، ومن الكلمات التي انتهت بجيم منقلبة عن قاف.... وهكذا. وكما تنوعت قوافي الشعر النبطي، تنوعت اساليب التعبير فيه، فكثيراً ما عمد الشعراء النبطيون إلى التغطية على ما يرمون إليه، وبخاصة إذا كان اسم محبوبة أو أمراً لا يحتمل البوح به أو التصريح، وقد سلكوا في التغطية ثلاثة أساليب اطلقوا عليها اسم "الغطو"، أولها اسمه (الدرسعي) وفيه جعلوا لكل حرف حرفاً آخر يتبادل واياه المواقع، فاذا ورد هذا الحرف يكون بديله هو المقصود الحقيقي. وثانيها اسمه (الريحاني) ويعتمد على الاشارة إلى الحرف ببعض الكائنات، فاذا أراد الشاعر حرف الفاء أورد نوعاً من أنواع الفاكهة، واذا أراد الواو جاء باسم من اسماء الوحوش، وهكذا... وثالثها (الجمل) وهو حساب الجمل المعروف في الشعر العربي الذي يتم فيه استبدال الحرف برقم، أو استبدال الرقم بالحرف المقابل له. أمّا الأساليب الشعرية التي اتبعها الشعراء فيما يدور بينهم من أشعار، فهي أساليب كثيرة ومتعددة يجمعها أساس واحد هو أن القصيدتين المتبادلتين بين شاعرين لا بد أن يكونا على نفس الوزن والقافية. ومن هذه الأساليب "المشاكاة والمردة"، والنقائض أو الأهاجي التي اتخذت نمط النقائض في الشعر العربي، والتقليد والمداخلات الشعرية، والمحاورات الارتجالية. ومن الناحية اللفظية اتبع الشعراء أساليب عديدة في لغة شعرهم، كأن يأتوا بأبيات خالية من الحروف المنقوطة، أو أن تكون جميع حروفها منقوطة، أو أن تحتوي كل كلمة منها على حرف معين من حروف الهجاء، وهكذا وكلها أساليب عرفها الشعر العربي. وإذا تركنا النواحي البنائية والفنية إلى النواحي الموضوعية وقضايا المضمون، فإن التصاق الشعر النبطي بالشعر العربي الفصيح يبدو أكثر وضوحاً، من حيث تشابه المعاني والموضوعات التي طرقها الشاعر البنطي، بل إن أحد الشعراء النبطيين عبر عن إحساسه بأن الشعراء لا يأتون بجديد، إذ لم يترك أسلافهم معنى بكراً، إنه الإحساس الذي راود عنترة في الجاهلية، ذلك الإحساس الذي نبع من زخم الشعر العربي، وكثرة الشعراء، وتناولهم لكل قضايا المجتمع وأموره، فلم يكن الشعر العربي، كما لم يكن الشعر النبطي يوماً، فناً منعزلاً عن الحياة، وإنما هو فن الحياة، الذي يقال لجمال ولمعناه ولقضاياه. لقد طرق الشعراء النبطيون موضوعات الغزل والمدح والقضايا الاجتماعية والهجاء والفخر والنصيحة والحكمة والمثل والقضايا السياسية والقومية والوصف وشكوى الزمان كما تطرقوا إلى تفصيلات الحياة اليومية، وشاركوا في الأحداث والمناسبات الاجتماعية. وواضح أن كثيراً من هذه الموضوعات تقليدي، ولكن بعضها ليس كذلك، فقد كان للبيئة أثرها، ولخصوصية الحياة التي يعيشها الشعراء أثرها أيضاً، ذلك أن الشعر النبطي كان خير معبر صادق عن بيئته، ففيه ظهرت البداوة بمظاهرها من كرم الضيافة، إلى الإهتمام بالإبل، إلى عمليات الغزو والثأر والاستلاب، إلى فنجان القهوة وصفاته المفضلة، كذلك ظهر الاهتمام بالصقور والصيد بها كمعلم من معالم بيئة الشعر النبطي، كما ظهر أثر الغوص في المعاني والصور والأخيلة، بل ان الغوص نفسه كموضوع إنما كان صدى للفترة التي سبقت عصر النفط، حيث كان اعتماد الناس في رزقهم على الغوص، وما نتج عن ذلك من آثار اجتماعية واقتصادية، ونفسية وعاطفية...مثل هذا وغيره من موضوعات خاصة امتاز بها الشعر النبطي في منطقة الخليج العربي عن غيره. إن دراسة مضامين الشعر النبطي أدت بطريقة تلقائية إلى دراسة صوره وأخيلته ورموزه، وتبين من خلال استعراض أساليب الشعراء النبطيين في التصوير انهم على درجة عالية من الوعي ويملكون مقدرة بالغة على التصوير بطرقهم المختلفة، فهم قد استخدموا الرمز الجزئي الذي يقع في اللفظة الواحدة، واستخدموا الرمز المركب الذي يكون صورة كاملة متكاملة الجوانب، كما استخدموا الرمز الكلي أو المعادل، الذي يستغرق القصيدة بكاملها، ويعبر فيه الشاعر عن موضوعه الحقيقي بموضوع مواز مشابه. إنهم بذلك يجارون أحدث ما ظهر في الساحة الأدبية الفصيحة من أساليب التصوير والتخييل، والتعبير الرمزي واللجوء إلى المعادل اللفظي والموضوعي. إن انعكاسات ما يدور على الساحة الفصيحة على الساحة النبطية يوحي بأن الشعر النبطي يسير في اتجاه من التطوير والتغيير، يحتم على الدارس أن يقول :" إلى أين؟ إلى أين يسير الشعر النبطي؟ وإلى أين تقوده رياح التغيير والتطوير؟ وهل سيبقى الشعر النبطي بأسسه الفنية وأصوله التقليدية المعروفة؟ أم أنه سيتحول لنمط آخر؟. ورغم أن الإجابة على هذه الأسئلة صعبة لأنها تعتمد على الحدس والتخمين، إلاّ أن المؤشرات قد تكون عوناً على تحديد الطريق ومعالم الاتجاه. إن أهم خصائص الشعر النبطي، هي الخاصية اللغوية أي كون لغته هي اللهجة البدوية، والخاصية الفنية، وهي كون أسسه وقواعده الفنية هي نفسها الأسس والقواعد الفنية للشعر الفصيح، من حيث شكل البيت وموسيقاه وقافيته وتقاليده. فهل يبقى هذا الشعر نبطياً إذا تغيرت لغته، وهل يبقى هذا الشعر نبطياً إذا تغيرت أسسه وأصوله وتقاليده الفنية؟. إن الشعراء النبطيين المحدثين، وبخاصة الشبان المتعلمين قد تركوا اللهجة الأصلية البدوية أو القريبة منها، وأخذوا يستخدمون لغة أقرب إلى الفصحى، وهي عامية المثقفين العرب في كافة أوطانهم. كما أن كثيراً من الشعراء النبطيين المحدثين أخذوا في اتباع أساليب فنية جديدة غيرت في نظام التقفية، فعددت القوافي في القصيدة الواحدة، وتخلت عن التقفية أحياناً، ولم يلزموا أنفسهم بشكل القصيدة التقليدي، بل إن كثيراً منهم مالوا إلى اتباع نظام التفعيلة في موسيقى أبياتهم. وباختصار، فإن جميع مظاهر التطوير التي حدثت في الشعر الفصيح: في اللغة والموسيقى والقافية والشكل والمضمون، جميعها انعكست على الشعر النبطي، ولكن على استحياء، فما زالت هذه التغييرات في مهدها، ولا زالت تنحصر في شعراء معروفين. فإذا ما كتب لهذه الرياح التغييرية أن تعم، فإن ما ينتج عنها، وما يحمل سماتها لن يكون من الشعر النبطي، وإنما سيكون من الشعر العامي الذي له أمثلة كثيرة عند الشعوب العربية في معظم ديارها، ذلك الشعر الذي لا معالم خاصة للغته، وكثيراً ما يعتمد في موسيقاه على نغمة تتردد في نفس الشاعر، فيصوغ عليها قوله على غير نمط. إن هذا الأمر إذا حدث فإن مكان حدوثه سيكون الحواضر أولاً، وسيستغرق وقتاً طويلاً إلى أن يصل إلى بؤرة البادية التي كانت ولا زالت بمنأى عن رياح التغيير المباشرة. هذا هو الشعر النبطي موضوع هذه الدراسة، وهو كما بدا صنو الشعر الفصيح، ونظيره العامي الذي ما زال يعيش تقاليده وأصوله، وما زال يعيش بيئته وظروفه الأولى، مما يجعل دراسة الشعر النبطي تحمل في طياتها أهمية بالغة، لأنها تلقي بمزيد من الأضواء على ظروف الشعر العربي الفصيح في بيئته البدوية الجاهلية، التي كثرت فيها الاجتهادات والتخرصات، خاصة فيما يتعلق بالرواية الشفهية، وما نتج عنها من نظريات انتحال بنيت على تصورات بعيدة عن واقع الحال، فمن عرف مقدرة البدوي على الحفظ والرواية، ويعرف أهمية الشعر في حياته اليومية، يعرف جيداً أن قصيدة يمكن أن تعيش مئات السنين على الشفاه والألسنة وتبيت في الصدور، دون أن يتطرق إليها الخلل أو التغيير. بل إن الشعر النبطي يمكن أن يكون مقياساً لما كان يمكن أن يكون عليه الشعر العربي الفصيح، لو قدر له أن ينطلق من عقال الوصاية اللغوية والأدبية، التي وضعته في قوالب لا يمكن الحياد عنها قيد أنملة. ذلك أن الشعر النبطي حين خرج عن دائرة قيود الفصحى، خرج بصورة تلقائية على وصاية اللغويين الذين أسقطوه من حساباتهم، فإنطلق الشعر النبطي على سجيته يعيش ويتطور ويتجدد، متفاعلاً مع بيئته، ومصارعاً عوامل التقليد والمحافظة، وعوامل التجديد والتغيير الطبيعية، فوصل إلى ما وصل إليه من أسس وتقاليد، إطارها المحافظة على الأصل، ومعدنها من المرونة بحيث استوعب من التطوير والتغيير ما تستدعيه الحاجة المتجددة. ومثل هذه القضية، يمكن دراسة كثير من القضايا، مثل قضية تطوير أوزان الشعر الفصيح بصورة لا تخل بالأصالة وروحها ... وهكذا. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الثلاثاء 10-04-2012 11:46 صباحا
الزوار: 2931 التعليقات: 0
|