|
عرار:
حميد سعيد.. شخصية الشاعر وشخصية القصيدة نجمان ياسين* ها هو محمد صابر عبيد يعيد كتابة تاريخ الستينيات في الشعرية العراقية الحديثة، ويضع بجرأة نادرة وفهم شامل وعارف ومطّلع، الأمور في نصابها بعيداً عن وهم الأدعياء المرضى الذين غرقوا في التنظير والفذلكة والتنطّع الأجوف، ومصادرة إسهام الآخرين الأصيل بأُميّة نقدية يهرفون فيها بما لا يعرفون، بعد إذ اكتشفوا أنّ حصليتهم فارغة لا معنى لها تحت سماء النقد الحديث الصافية، وألجأهم ذلك إلى خمش الجدران العالية التي تحطّم نيّاتهم الباهتة. حقاً إنّ هذا كتاب نبيل، كتبه ناقد نبيل، عن شاعر نبيل هو الشاعر الكبير حميد سعيد، وحقاً إنّ اللحظة التاريخية، تضخ النور في هذا الكتاب المميز الذي كتبه ناقد مرهف مجرّب مبتكر أصيل، ومدرك لما يقول ويؤسّس، عن شاعر حقيقي متطابق مع تاريخه الإبداعي والفكري، يعلي كبرياء الروح وكرامة الكلمات ويصدر عن مواقف نظيفة، ناصعة طهور، شاعر يحلق خارج السرب، ويظلّ قريباً منه، حميد سعيد الإنسان والشاعر، يسكن القباب البيض وتاج الأعالي، شاعر يمتلك شرف المواصلة وعدم التوقف على الرغم من عيشه في قلب العاصفة، شاعر لم تسرقه المواقع من شعره، ولم توقفه متاعب المنفى ومأساته الشخصية عن الشدو في كتابة التاريخ الجماعي لأمّته إبداعياً. حميد سعيد رمز، ولا أجمل من أن يتحول الشاعر إلى رمز فذلك حلم الفلاسفة والمبدعين والثوار، ومن يعرف الرجل، يعرف أنه مرتفع بنفسه وممسك بالنور لحظة انبثاقه. كشف لنا محمد صابر عبيد وبمهارته المعهودة، شخصية الشاعر وشخصية القصيدة وأوقفنا أمام أحد صناع القرار الثقافي ممّن كانت أياديه البيض تحتضن الأدباء والمثقفين، وأرانا عبيد الناقد أنّ حميد سعيد من فرسان قصيدة الستينيات في تحولاتها الحاسمة ورؤيتها الجديدة والمتكاملة مع قصيدة الرواد، وحلّل عبيد برؤية نافذة خصوصية قصيدة حميد سعيد وأصالتها الناجمة عن النأي عن الانسحاق تحت وطأة النماذج المستوردة، وحقاً إنّ تحليل عبيد لأكثر من قصيدة لحميد سعيد، ترينا أنّ ناقدنا مختلف ومغاير في ذائقته ووعيه لإسرار وسحر القصيدة، وينير الكثير من تجربة شاعر متفرد ملتحم بعمق مع إرثه تاريخاً وحاضراً، شاعر يتعامل مع حرائق أمته وبلده بصوفيّة شفافة، محققاً وبتوازن نادر الجمالي والفكري في منجزه الشعري الشاهق، شاعر منحاز إلى القوى الوضاءة في الحياة- إذا استعرنا عبارة نيكوس كازنتزاكي-، يوماً بعد أخر يؤكد محمد صابر عبيد أنه يبذر بذوره الخاصة في أرضه المحروثة بدمه، لنحصد معه ثمراً فريداً لا يشبه غيره وقد لا يفهمه العابرون في كلامهم العابر. إنها الشجاعة مزدانةً بضمير يقظ، أن يكتب ناقدنا الخلاق، هذا الكتاب في زمن صمت الحرباوات، زمن صمتَ فيه الآخرون عن إمساك جمر الموقد والإفصاح عن شرف الجمال. تحية لمحمد صابر عبيد، الذي كتب هذا الكتاب النبيل في برهة تاريخية حرجة، وكشف لنا فيه ببراعة واقتدار، خصوصية وتفرّد الإنسان والشاعر في حميد سعيد، فضلاً عن دراسته لأراء وادّعاءات بعض مدّعي الوصاية على شعر الستينات، من الذين توهموا الثقل في خفة أوزانهم ونسبوا لأنفسهم ما ليس فيهم. جميل أن تقرأ كتاباً حياً متوقداً أصيلاً فيه كشف للإبداع الحقّ في تجربة حميد سعيد التي تصدر عن حداثة صادقة وصافية.. وجميل أن تقرأ كتاباً عميقاً فيه فضح وتعرية للمتنطّعين الذين غادر بعضهم شرف المواطنة وتنكّر للأرض والإنسان. حين تنتهي من قراءة هذا العمل النقدي المدرك البارع، تشعر بكثير من طمأنينة القلب وهو يسافر في مياه رائقة، وتحل بسكينة العقل المبتهج في إسرائه في سموات رحيبة، هي سموات فهم ووعي وإدراك الغامض والمضمر والمستتر في قصيدة حميد سعيد، لتصل إلى قناعة بأنّ العمل النقدي المنبثق عن مرجعيات توافقية رصينة وذائقة عالية، هو العمل الذي يستحق الاحترام، وهذا القول يسري على محمد صابر عبيد، فتلك بعض صفاته... أسعدني هذا الكتاب الشهادة، الكتاب الكشف، الكتاب النبيل، الفاضح للمدّعين، ولكل من تنطّع بأنه الوحيد الذي حمل راية شعر الستينات، ولم يكن كذلك، وأسعدني تحليل وتفكيك عبيد لآراء هؤلاء المتنطعين، فمناقشته لآرائهم كانت هادئة، علمية، رصينة، مستندة إلى شواهد وقرائن، وإلى تفكيك خطابهم الملفّق بخبرة ودراية ومعرفة وذائقة الناقد العارف العليم. إنّ كتاب التحليق خارج السرب، حميد سعيد، شخصية الشاعر وشخصية القصيدة، درس في الكتابة الدقيقة المتأنية، وفيه إنصاف لمنجز شاعر كبير هو حميد سعيد، وآية محمد صابر عبيد في كتابه الذكي هذا، إنّه مترع بنور الحق والحقيقة والمعرفة والوعي في إعطاء كلّ ذي حق حقه، وتأشير من لا حقّ له سوى الادّعاء!.... *الرئيس الأسبق للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-08-2023 08:06 مساء
الزوار: 219 التعليقات: 0
|