إبراهيم خليل من الملامح التي تغلب على هذه الرواية (النبطي المنشود: دار المأمون، 2022) لصفاء الحطاب الإيحاء غير المباشر بأنها رواية للفتيان، فهي تخاطب الشداة من المتعلمين والدارسين مقدمة لهم النموذج القدوة الذي يجدون فيه، وفي حرصه على الوصول لأهدافه، وغاياته المنشودة، الإسوة الحسنة، التي يقتدون بها، ويحذون حذوها. ويغلب عليها أيضا الإيحاء بظلال الماضي العريق، وما تركه الغابرون من آثار وإنجازات ترقى إلى درجة الإعجاز في مجالات علمية، وتقنية، لا ميتافيزيقية، كتحديدهم الأوقات، والتقويم، ومسارات النجوم، ومواقع الأفلاك، وما يتصل بذلك من اكتشافات تحسب في دائرة علم الفلك الآثاري تارةً، أو علم الحِيَل، والميكانيكا، تـارة أخرى. فمعمر، وهو الطفل ابن الخامسة، يتعرف عليه القارئ في مستهل الرواية وقد عثر على جرة فخارية من الفخار النبطي الرقيق بين أطلال البترا. فتوحي له بأن هذا المكان، وإن كان لا ينطوي إلا على الآثار والخرائب، والأطلال، فإنه يخفي تحتها بلا ريب الكثير الجمّ من كنوز هذه الحضارة العريقة، التي يكاد الجهل بها يكون عاما إلا لدى النُدرة النادرة منْ أمثال معمر. ابن المكان: ولهذا لا يُنكر هذا الطفل أنه ابن المكان، عدا عن أنه ابن الزمان. فهو يلازم صخور البترا صخرةً صخرةً، وله مع كل صخرة ذكرى. فيها تعلم الصيد، وحلم بالمستقبل، إلى أنْ أصبح يافعًا، فشابًا يشعر باختلاف علاقته بالمكان عن غيره. ساعد بعض الفرق التي جاءت للتنقيب عن الآثار، فعلى الرغم من صغره، استطاع أن يقوم بأعمال جديرة بوصفه حارسًا للمدينة الأثرية، مراقبًا حريصًا على كلِّ جزءٍ مهما صَغُر من آثارها الكثيرة(ص60- 61). وها هنا يذكر لنا الراوي، الذي يبدو للقارئ وكأنه يلازم هذا الفتى ملازمة الظلّ لصاحبه، أنه كعادته تجول ذات يوم بين الآثار، وتأخَّر قليلا، وفاجأته عاصفة شديدة الريح، غزيرة الأمطار، مستمرّةُ الانهمار، فالتجأ إلى أحد البيوت المنحوتة في الصخْر لوقاية النفس من الماء المنسكب، وعلى ذمّة الراوي شعر الفتى بالدفء فأغفى(؟) وفي تلك الغفوة رأى، فيما يرى النائم، أميرة من الأنباط حسناءَ الوجه والهندام، رشيقة القوام، سوداء الشعر والعينين، أسيلة الخدين، وهي ترحب به ترحيب من يعرفه منذ زمن، ومن يشاركه الانتماء للوطن، وهي ومن معها من مواطني البترا في انتظاره لأنه « النبطي المنشود « لأداء المهمة، وتحقيق الرؤيا. وهذه الرؤيا التي أصابته بالانبهار تنتهي كأيّ رؤيا في أيِّ حلُم آخر بالصحوة، التي تنطوي على تكليفه بمهمة السعي قدر المستطاع للكشف عن إنجازات النبطيين في ميادين شتى، وحقول متعددة: مراقبة الأنواء، ومواقع النجوم، ومعرفة الكثير من أسرار الرياضيات، والفلك. وذلك مما قام الرومان بعد اجتياحهم للمدينة الوردية بالقضاء عليه، أو سرقته، وانتحاله. فقد تحوَّلت المدارس، والمكتبات، ودورُ العلم ومراكز الصناعات، على أيدي الكهنة لمعابد تعبد فيها الأوثان، و مدارس للتنجيم والشعْوذة (ص12- 13). أفاق معمر من غفوته تلك، وهو يؤكد أن قيامه بهذه المهمة عَهْدٌ عليه، ولا يمكن أن يتخلى عن الوفاء بعهده. ومعمر، مثلما يذكر الراوي، بعد أن درس وأمضى سنوات في الجامعات، ظفر بشهادة عليا في الدراسات الفلكية الآثارية. وأعد أوراقا، وبحوثا، وغدا معروفا مشهورًا في أوساط الفلكيين، ومن أصدقائه البارزين المعدودين د. هادي- وهو مصري- يشغل مركزا بارزا في هذا الميدان. كذلك سونيا إمام - الباحثة المتخصصة في حضارات الشرق القديم - فقد تعرف عليها في مصر، واتفقا على مواصلة البحث والتنقيب بعد أن تأكد له الشبه بينها وبين تلك الأميرة النبطيّة التي تجلّت له في الرؤيا. البوصلة المسروقة: لا يُنكر الراوي ما نشأ بين سونيا ومعمر من استلطاف يرقى إلى درجة العشق. وحكاية القطعة المسروقة من المتحف المصري الكبير هي الأداة، أوالحافز، الذي دفع بهما دفْعًا للسفر معًا إلى روما. حيث الضابط الإيطالي البرتينو، أحد أفراد شرطة الإنتربول، يخبر الاثنين بالعثور على القطعة المذكورة لدى عصابة من مهربي الآثار. وهي القطعة التي تعرَّف عليها معمر، واصفا عملها، وطريقة استخدامها في تحديد الاتجاهات، مؤكدًا أن الأنباط كانوا يتعرفون على الطرق بها في الصحاري المترامية الأطراف، وفي أعالي البحار. وعلى الرغم من أنّ الشائع عن تلك البوصلة أنها من صنع قدماء المصريين، وابتكاراتهم التي لا تنكر، إلا أنَّ الخبرة، والبحث، والتحقيق، قاد إلى نتائج مبهرة، وهي أن الأنباط كانوا قد عرفوا البوصلة، واستخداماتها قبل ألفي عام، وأنّ القطعة التي جرى العثور عليها، واستعيدت من مهربي الآثار، الدليل الساطع، والبرهان القاطع. الأنباط وقدماء المصريين: وكلما وُفّق معمر في إفادة سونيا إفادة جديدة في مجالات الفلك، أو الآثار، أو الإشارة لما فيه قاسم مشترك بين الأنباط وقدماء المصريين، ازداد إعجابُها به، وميْلُها إليه. ولا سيما بعد دعوته لها للمشاركة في المؤتمر الذي تقرر تنظيمه في الأردن. تقول، وهي تتهيأ للسفر إلى عمان، وقد ارتدَتْ أبهى ما لديها من ملابس، وأضافت لملامحها ما يجعلها أكثر إشراقا، وتألقا، وإيحاءً بما تشعر به من سعادة « هل هذا ما أريده حقا؟ أم أنني سعيدة فقط لأنني سألتقي به؟» (ص37) سرعان ما يتوارى هذا الشعور، ويختفي، إذ يتغلَّبُ عليه الحرص الذي تفتَّق عنه الغرض من المؤتمر. لكن الدكتورة سونيا تكتشف في اللحظة الحرجة، وبعيد فوات الأوان، أن بيانات الورقة البحثية التي يجب أن تلقيها في المؤتمر قد جرى مسحُها من جهاز الحاسوب، وأنَّ أحدهم - بلا ريب - قام بذلك عامدًا لإحْراجها. على أن (معمر) وبإشارة من الراوي، يتطوع لاستعادة هذا البحث كلمة كلمة، كي لا توصم مشاركتُها بالإخفاق. وقد أتيح لهما ما أراداه. واسترجعا المادة. ولكن هذا يبدو لدى القارئ صعبًا إن لم يكنْ محالا. والتغلب على هذه المشكلة المفاجئة في الوقت الحرج، بتلك البساطة، فيه شيءٌ غيرُ قليلٍ من التعسُّف. المدينة الوردية: أما زيارة سونيا للمدينة الوردية، فهي حلقةٌ من حلقات هذه الرواية التي تستهدف تقديم صورة باهرة للبترا. وما فيها من عجيب الآثار، وغريب الأخبار، وما توحي به من خفايا وأسْرار. السيقُ وما فيه من غرائب النحت، وما على جداره من خطوط تنم على شيفرة عن السماء، والنجوم، ومواقع الأفلاك. والخزنة بألوانها المتدرّجة الخلابة، ومنطقة البيضا بما فيها من سحر المكان. وتحت تأثير هذا البهاء السنيِّ تعترف سونيا لمعمر بأنه أنار بصيرتها، فلم تكن تعرف أنَّ في الدنيا كلّها بهاءً كهذا البهاء، وجمالا كهذا الجمال. فيقولُ معلقا « ناداكِ المكانُ يا عزيزتي، ها أنت هنا. ومن هنا نبدأ العمل مثمرًا « (ص 49). فما هو هذا العمل الذي يبدأ مثمرًا؟ إنه إحياءُ ما كان قائما في الماضي. ففي هذه البقعة من أطلال المدينة أقام الأنباط مرصدًا فلكيًّا، وعلى الشريكين، سونيا ومعمر، إقامته من جديدة، وإعادته للحياة. وبعد وقت قصير عادت سونيا من مصر لتشارك في افتتاح المرصد الذي دُعي لحضوره غيرُ قليل من الأكاديميين، والباحثين المتخصصين، لا بالحضارات القديمة فحسب، بل في العلوم الفلكية، لا سيما ما هو آثاري. وقد جرى الإعلانُ عن هذا الإنجاز في ليلة هي ليلة « عودة الروح « التي انتظرها المهتمّون بهذا طويلا جدًا (ص 55). وفي الفصل الخامس من «النبطي المنشود» تدعو سونيا (معمرًا) لمصر كي يطلع على شيء تظنّه مفاجئا، وهو « المنقلة الفلكية» الموجودة في أعلى الهرم الأكبر في الجيزة (ص57). بيد أن معمرًا لم يفاجأ بذلك؛ فالمنقلة الفلكية هي الأخرى من ابتكارات الأنباط قبل ما يربو على ألفيْ عام. فالحضارات القديمة، والشرقية منها بصفة خاصة، كانت تتواصلُ، بعضُها مع بعض، وتتفاعلُ فيما بينها، ولكن الناسَ، في هذا الزمن الأغبر، لا يعرفون ذلك. وقد آن الأوان كي يعرفوا. ميناءٌ نبطيٌ: وليس أدلَّ على هذا من ذلك الميناء النبطي الذي جرى الإعلان عن اكتشافه على ساحل البحر الأحمر في الموقع المحاذي لتبوك في الجزيرة العربية. وهذا الخبر عن الميناء (لوكي كومي) وقعَ على مسامع سونيا وقوعَ الصاعقة. وتحمَّست للتعرُّف على هذا الاكتشاف. وتُقرِّرُ الذهاب مع معمر إلى الموقع (ص59). ويتصل بهذا شيء آخر يؤكد تواصل الحضارات، وهو معبد (دندرة) في الأقْصُر. ولذا تدعوه سونيا لزيارة المعبد ليرى بأم عينيه تلك الأعاجيب. ويستبق ذلك بالذهاب - أولا - لقصير عمرة في البادية الشمالية من الأردن، فهو قصْرٌ صغير يعود بناؤه لأواخر العصر الأموي. ويشبه الاستراحة التي اعتاد الخلفاء على التردُّد إليها بعد الانتهاء من رحلات الصيد. وممن كانوا يختلفون إليها، ويتردَّدون، هشام بن عبد الملك، وأخوه سليمان، ويزيد، والوليد بن يزيد الشاعر المعروف. وفيه تّطَّلع سونيا على «القبَّة الفلكية» التي تجعل المرْءَ يرى المجموعة النجمية فوقه مباشرة. معبد دندرة: بُعَيْد هذه الزيارة يلتقيان في معبد دندرة الفرعوني. ولا يكتمُ الراوي ما تشعر به من سعادة بمقدم معمر لمشاهدة المعبد، مؤكدًا أنَّ مصدر تلك السعادة هو الشعور القلبي تجاه الشابّ، وليس الرضا الذهني، أو العقلي، الذي يتحقق بالمنجز الآثاري الذي يسعيان لتحقيقه بصفته ثمرة ذلك السعي. وعلى هذا النحو، أو ذاك، يتكرَّر الاكتشاف تلو الآخر. فيتوجهان من مصر إلى « لوكي كومي « الذي سبق ذكره. وها هنا يتدخل الخيال راسمًا مشاهد السفن وهي تروح ذاهبة وآيبة من هذا المرفأ النَبَطيّ، محملة بالبضائع؛ كالأواني الزجاجية، والفخار، والمنسوجات، والعطور، والتوابل، التي تشهد للأنباط بالتقدم الحضاري، والتمدُّن، والمهارة في التسويق. وهذه السفنُ تستعين - بالطبع - بما توافر لديها من آلات ترشدها للطرق في أعالي البحار، وتحدد لها الاتجاهات تحديدًا دقيقا، مع التعرّف على مواقع النجوم، ومواقيتها، ومواعيد الشهب، وهذا كله يحدُث قبل أنْ يكتشف معمر أن المرصد الفلكي الذي أقاماهُ في «منطقة البيضا» قد حُطّم، وأزيلَ من مكانه، في إشارة من السارد لنفرٍ من الناس يهوون وضع العصيّ في الدواليب، فأصيب بالإحباط. لكن هذا الإحباط لم يُنْسه حقيقة أنَّ البترا هي المدينة الفضلى التي يسمع الجميع بها وعنها « لقد تعبتُ فعلا، لكنني لن أخذل الأميرة النبطية، سأعيد بريق المجد إلى المكان العظيم الذي بناه الأنباط « (ص89). كلمة
أخيرة: جمعت صفاء في هذه الرواية القصيرة وحيدة الحدث، قليلة الشخوص، إذ هي مقتصرة على اثنين هما معمر وسونيا مع تهميش الشخصيات الأخرى التي لا دور لها، كالدكتور هادي مثلا، والشرطي ألبيرتينو، والمدعوين الذين حضروا أو شاركوا في ثلاثة مؤتمرات: في القاهرة، وفي روما، وفي عمان. وحتى اهتمامها بالشخوص لم يكن شاملا بل اقتصر على ما له صلة بموضوع البترا، وما يتصل بها من آثار ذات علاقة بالفلك، وبالمخترعات. وبمعبد دندرة، وقصير عمرة، والقبة الفلكية، والميناء النبطي على ساحل البحر الأحمر. فالذي يحتل حجر الزاوية فيها هو المكان، وأصداؤه، ولكن الروائية جمعت بين المكان والزمان بطريقة غير مباشرة تنم عن ذكاء لافتٍ، فجل ما ورد عن الأمكنة يحيلنا في الغالب إلى الماضي السحيق. وقد جمعت أيضًا بين طابع الحكاية التي تقوم على محاكاة الواقع، والحكاية التي تعتمد الغرائب (الفانتازيا) لا سيما فيما يسردهُ الراوي عن معمر، وما رآه في منامه، وتجلى له في خَلَسات الكرى، من أميرة نبطية قادته في طريقها إلى البترا، وهي تنبعث من الماضي بجل ما فيها من حيوية، وحركة اعتيادية عفوية، أي أن البطل اجتاز المسافات زمانا، ومكانا، وإذا به في البترا أيام الحارث الرابع (توفي 41م) أو بعده، وهي تعجُّ بالحياة. وهذا الجزءُ من الرواية يشبه همزة الوصل بين الجانب (التِقْني) إذا ساغ التعبير، وجاز، وبين الجانب الغرائبي، الذي تحلّقُ فيه الكاتبة بعيدًا عن الواقع. وهذا الجزءُ من الرواية ذو أجواء يأنس إليها القراءُ من فئة الشبان، والفتيان، ويجدون فيها ما يستثير المخيّلة، ويشجع على قراءة القصص، إلا أنه قليلٌ قياسًا بباقي الرواية، وسائر المرويات عن الفلك، وعن آثار الشرق القديم، وعن اللغات من إيطالية، وهيروغليفية، وعن المصادر والمراجع، وأوراق البحث المقدمة في المؤتمرات. فهذا كله مما يضع الرواية في إطار الخطاب الذي يستهدف البالغين فضلا عن الراشدين. فهي من هذه الزاوية ترضي الكبار، مثلما ترضي الفتيان الصغار. ولا ريب في أن القارئ اليافع سيسرُّه أن يكتشفَ في الصفحات الأخيرة أنّ كل ما ذكر من مُتَتالياتٍ محكيّة ما هو إلا كتابٌ يقرأُ فيه أحمد ما كان من أبيه معمر، وأمه سونيا إمام، من سَعيٍ دؤوبٍ لتحقيق ما حققاه واستحقا به التكريمَ، لا في الجمعية الأكاديمية حسب، بل في هذا المؤلف الذي يسْتولي على إعجاب من يقرؤُونه.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 09-02-2024 08:54 مساء
الزوار: 205 التعليقات: 0