«قطن أسود» لمحمد مجدلاوي تجليات الحياة الريفية في غور الأردن
عرار:
محمد عادل الخطيب
أخشى أن يُشْعِر ما يقدَّم من هذه الرؤية لرواية «قُطْنٌ أَسْوَد» للكاتب محمد مجدلاوي، أنني أقع في قول القائل: ما ترك الأوّل للآخر شيئا، أو مذهب القائل: ما أرانا نقول إلا معارًا أو معادًا من قولنا مكرورًا فما أبعدني عن هذا الظنّ أنني قرأتها وفقَ علمي بقراءة الروايّة، ودق أبوابها استشكافًا لدواخلها، وأنني أعتقد أنّه ليس بالإمكان أبدع مما كان، لكن يمكنني القول: تقدم « قُطْنٌ أَسْوَد» تجربة سردية منطقيّة غنية تُنتج المكان عبر تقنية تيار الوعي بشكل رئيس؛ إذ يعتمد السرد على تدفق الأفكار والمشاعر الداخلية لشخصيات الرواية، وخاصة شخصية عمران المتوترة والقلقة، وهو ما يظهر في تأملاته غير المنظمة حول حياته ومستقبله، ويظهر جليّا باستفهام عمران: «سأنتظر خمس سنوات لأوفر المبلغ الذي يحتاجه البيت ليكون مكتملاً... يا الهي! خمس سنوات أُخرى سأترك هذا البيت مهجوراً...»، أدار هذا الاستفهام الصورة نحو المعاناة المصورّة تمثلًا بين واقعه القاسي وآماله المستقبلية، فتقنية تيار الوعي تجعل الحوار فعال لجعل القارئ يعيش مع عمران كل لحظة من صراعه وألمه ومعاناته، وتجعله يعيش المكان حياة وخبرة وتأملًا. ويحدد الوعي الصوفي جانبًا مهمًا في رواية «قُطْنٌ أَسْوَد»؛ إذ يتجلى في كونه ينبوعًا لكل أنواع الحب، محبة الله، محبة المكان ومحبة النَّاس، فالحب هو مصدر العطاء والفضيلة وكل ما هو جميل، في تأملات الشخصيات بخاصة عمران في الطبيعة الغوريّة الزراعيّة ؛ إذ يجد عمران في الطبيعة تعبيرا وموجودات الكون ملاذًا ووسيلة للتواصل مع الله عبر مخلوقاته، مما يرجع توازنه ويخفف من وطأة القلق؛ يطلعنا الراوي بقوله :»يجلسُ عمران على حافةِ الوادي قريباً من الماء الذي ينسابُ رقراقاً بهدوءٍ... كان لهذا الجمالِ البصريّ والإيقاعِ السمعيِّ في المكان وقعاً يُعيدُ التوازن للنفسِ المُضْطربة» فيظهر الراوي كيف أن الاتصال بالطبيعة الغوريّة يساعد عمران في الوصول إلى حالة من الصفاء الذهني العقلي، فيبرّز النزعة الصوفية في البحث عن التجلي بأبعد صوره. تتجلى ثنائية الأنا والآخر في علاقة عمران بالبيئة المحيطة وبالأشخاص في حياته، الأنا تتمثل في رغبات عمران وأحلامه الشخصية بحد ذاتها، أمّا الآخر فيتحدد في علاقته بزوجته عائشة، ووالدته، والمجتمع الريفي الغوري الشماليّ الذي يعيش فيه، فحواره مع زوجته يبرّز هذه العلائق السرديّة المنطقيّة، إذ يقول: «ما ذنب هؤلاء الأطفال أن يسددوا ثمن حنيني للمكان والذكريات؟» فيظهر جليا التناقض بين تطلعات عمران الفردية ومسؤولياته تجاه أسرته، والتداخل بين الأنا والآخر يعكس التوتر الدائم بين الطموحات الشخصية والواجبات الاجتماعية، فهو مطالب بتحقيق مطالب وبتحقيق مطالب غيره من الشخصيّات، وهو هنا ليس بطلًا، أو المنقذ، أو الجني في المصباح السحريّ، إنما هي الشخصيّة الريفيّة الذكوريّة الغوريّة الأردنيّة التي تكون مسؤولة عن عائلته، عن أهل منطقته، عن مدينته، فتكون نتائج المسؤوليّة مثلثة مقسّمة عليهم. تيار الوعي في الروايّة يتجلّى ويتبلّر وبتبدّى في شخصيّة عمران وعائشة عبر الكشف التدريجي عن أفكارهم ومشاعرهم، فعمران شخصية معقدة تجمع صفات يجعله مثالاً للفلاح الذي يعاني من شقاء الحياة الريفية، والتوقعات الكبيرة التي يفرضها عليه المجتمع»لم تكن الأربعون سنة من عمره، التي عاشها هناك في قريته الوادعة الأليفة، إلا مزيجاً من الشقاء والتعب في الحقول» فهنا يبرز كيف أن حياة عمران مليئة بالتناقضات، حيث يتصارع حبه للأرض ورغبته في تحسين ظروفه الحياتية، ورؤية زوجته التي تريد أن تخرج نفسها وعائلتها من ضيق الرؤية في الريف الغوري، إلى براحها في المدينة، فالحوار وسيلة للتواصل بين الشخصيات وفي الوقت نفسه أداة للكشف عن وعيهم الداخلي وصراعاتهم الوجوديّة عبر الحوار بين عمران ووالدته، يظهر التوتر جليًّا بالتمسك بالتقاليد والرغبة في التغيير»لو نقلتَ شجرةً صغيرةً من تربةٍ إلى تربةٍ أُخرى ستنمو وتواصل حياتها، لكنك لو اقتلعت شجرةً عتيقةً من جذورها لتزرعها في مكانٍ آخر حتماً ستذبل وتموت» فيظهر التركيب الخبرة في النفس الإنسانيّة التي تحملها والدته وتدير صراع عمران بين واجبه تجاه والدته وحلمه بالانتقال إلى المدينة. تتقاطع رواية «قُطْنٌ أَسْوَد» مضمونا واستخدامها للأساليب الروائيّة البرانيّة والجوانيّة مع عدة روايات أخرى فنجد في رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي تقاطعًا واضحًا في تصوير حياة الفلاحين وصراعهم اليومي، فتجلّي كلتا الروايتين الارتباط العميق بين الفلاح والأرض ورؤية الفلّاح الذهنيّة المجردة للكون التي تتكون من عدّة مفاهيم مترابطة ومتداخلة تشكّل لديه علاقته معها ومع خالقها ومع تجليات خالقها بها. و تتقاطع الرواية مع رواية «الشراع والعاصفة» لحنا مينا خاصة في تصوير الوعي الصوفي والوعي الداخلي للشخصيّة الذي يعيشه البطلان، وفي رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، نجد تقاطعًا آخر في موضوع الاغتراب، حيث يشعر البطل في كلتا الروايتين بالانفصال عن مجتمعه؛ إذ يعد الاغتراب هو موضوع رئيس في «قُطْنٌ أَسْوَد»، يظهر عمران شعورًا بالانفصال عن بيئته، على الرغم من حبه المتجذر لها، يطلعنا الراوي بقوله: «التفكيرُ يرهق نفسه، ويتركه في حيرةٍ من أمره...»، مما يعكس تشتت عمران بين حنينه للماضي ورغبته في تحسين مستقبله، فالشعور بالاغتراب يتقاطع مع ما نجده في رواية «الغريب» لألبير كامو، إذ يعيش البطل حالة من اللامبالاة والاغتراب عن المجتمع، ويكوّن ذلك عن الأبطال في الروايات السابقة وفي «قُطْنٌ أَسْوَد» خصوصًا لأنّ الطبيعة ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي عنصر فعال يعبّر عن حالة الشخصيات النفسية، فالطبيعة اختبار، والتطور سقوط المدني سقوط، يطلعنا الراوي: «يرنو إلى ما اجتمعَ حَوْلَهُ من جمالِ ورِقَّةِ المَشهد، مُصغياً لخريرِ الماء...». هذا الوصف للطبيعة يعكس كيف أن عمران يجد فيها ملاذًا روحيًا يعيد له توازنه بعدما تشتت روحه وافترقت عنه، مما يجعله قادرًا على مواجهة تحديات الحياة، فهنا الطبيعة تلعب دورًا مشابهًا لما نجده في الأدب الصوفي، حيث تكون الطبيعة وسيلة للتواصل مع الله والبحث عن الصفاء الروحي. الرواية تعرض صراع الأجيال بشكل واضح من خلال علاقة عمران بوالدته. والدته تمثل الجيل القديم الذي يتمسك بالتقاليد ويرفض التغيير، بينما يسعى عمران للانتقال إلى المدينة بحثًا عن حياة أفضل، تقول والدته: «كنتُ أعرف مدى تعلقها بهذا المكان.» فهنا يتجلّى صعوبة التغيير ورفض الجيل القديم للتخلي عن جذوره، مما يعمق الصراع الداخلي الذي يعيشه عمران بين رغبته في التغيير وواجبه تجاه والدته. «قُطْنٌ أَسْوَد» رمزيّة تستخدم تعبيرًا عن التناقضات التي تعيشها الشخصيات، القطن الأسود في العنوان، على سبيل المثال، يعكس التناقض بين الظاهر والباطن، بين النقاء الداخلي والمعاناة الخارجية، يطلعنا الراوي «أشتالُ الباذنجان تشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ أشتالَ القُطْنِ... للباذنجان ثمرٌ أَسودٌ شديدُ اللمعانِ في وهجِ الشمسِ» فيُستخدم اللون الأسود بصفته الرمز للمعاناة التي يعيشها الفلاحون، و الأبيض النقاء الذي يسعون للحفاظ عليه رغم الظروف الصعبة. اختلاف عمران بين طموحاته الشخصية وواجباته العائلية يبدّي تقاطعًا مع رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، حيث يتبدّى في كلتا الروايتين معاناة الشخصيات في مواجهة الظروف الصعبة ومحاولة الهروب من الواقع المؤلم، في «رجال في الشمس»، يسعى الأبطال للهروب من واقعهم عبر الصحراء، بينما يسعى عمران للهروب من قريته إلى المدينة، فكلا الهروبَين ينتهي بمأساة تظهر صعوبة الهروب من القدر المحتوم، ودور المرأة في الرواية يتمثل في شخصية عائشة التي تدعم زوجها في مواجهة التحديات، مما يظهر تقاطعًا مع دور الأم في رواية «الأم» لمكسيم غوركي، فكلا الشخصيتين النسائيتين تلعبان دورًا حيويًا في دعم أسرتهما ومواجهة الظروف الصعبة، وفي «قُطْنٌ أَسْوَد»، نجد أن عائشة تتخلى عن حلمها الشخصي بالحصول على ذهب لتدعم حلم زوجها في بناء البيت. إنَّ رواية «قُطْنٌ أَسْوَد» لمحمد مجدلاوي تقدم رؤية شاملة ومعمقة لحياة الفلاحين في غور الأردن،و التركيز على الصراع بين التقاليد والتحولات الاجتماعية، عبر استخدام تقنيات مثل تيار الوعي، الوعي الصوفي، والرمزية، ينجح الكاتب في تصوير تعقيدات الحياة اليومية وصراعات الشخصيات النفسية الفلاحيّة الغورية والرواية تتقاطع مع أعمال أدبية أخرى تناولت موضوعات مشابهة، مما يجعلها جزءًا من الحوار الأدبي العالمي حول قضايا الإنسان ومعاناته. هذا التقاطع يجعل من «قُطْنٌ أَسْوَد» عملًا أدبيًا يستحق الدراسة والتحليل العميق.