نضال برقان انطلاقًا من مكانته التي ترسّخت في الوجدان الجمعي الفلسطيني والعربي بدايةً، بوصفِهِ أولَ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، تمّ تأسيسُهُ في العام 1790، وتأكيدًا لمكانتِهِ العالميّة، إذ اعترفت به الإمبراطوريةُ العثمانيةُ رسميًّا في العام 1884، في ظلّ حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، تاليًا، نواصلُ عبر هذا التقرير، وهو الثالثُ من سلسلةِ تقاريرَ تتأمّلُ السياقاتِ الاجتماعيّةِ والطبية والثقافيّةِ والسياسيّةِ لمسيرةِ (متحف تراث مِن عبقِ الترابِ)، ومقتنياته، منذ كانت مجموعةً في خيمة بـقرية «غزالة» بفلسطين، قبل أن تحطّ رحالَها في أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمةِ الفرنسيّةِ باريس. كنّا تتبعنا السياقِ الاجتماعيّ والثقافيّ الذي رافقَ المتحفَ في مرحلةِ التأسيس (1790–1884)، إضافة إلى حالِ المتحفِ قبل الحرب العالميّة الأولى، والتي تركت آثارًا مرعبة في منطقة بلاد الشام بعامّةٍ، وفي فلسطين بخاصّةٍ، أمّا ما حصلَ للمتحفِ ومقتنياتِهِ ما بين الحرب العالمية الأولى وما بين نكبة عام 1948 فهو ما سنتعرّف في هذا التقرير. شكّلت الطبيبة حليمة عايد ترابين (ولدت في غزالة عام 1894 وتوفيت في عام 2014)، نقلة نوعيّة في مسيرة المتحف، وهي ابنة الطبيبة حِسِن عايد ترابين وحفيدة حفيده الطبيبة حاكمة عايد ترابين، كرست شبابها لدراسة الطب العربي البدوي والحضري والسعي نحو الكمال في مهنتها وممارسة عملها. واصلت دراستها في كلية الطب في القسطنطينية حيث حصلت على شهادة الدكتوراة في الجراحة في عام 1916. بالتوازي مع كلية الطب، حضرت دروسًا متنوعة لزيادة المعرفة العلمية في الفلك والرياضيات بالقرب من مسجد الفاتح في القسطنطينية. خلال إقامتها في القسطنطينية، التقت الطبيبة حليمة عايد ترابين بالعديد من الطلاب والباحثين والدبلوماسيين الدوليين من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى الجراحين والموسيقيين والفنانين والكتاب والمهندسين المعماريين. من خلال هذه التجارب المتنوعة، اكتسبت معرفة ورؤى لا تقدر بثمن اكتسبتها طوال حياتها. كما أشارت إلى أن العديد من معاصريها يفتقرون إلى فهم عميق للفلسطينيين وباقي سكان بلاد الشام وتراثهم الثقافي الغني. ومن الشخصيات التي كان لها أثر متميّز في مسيرة المتحف الطبيب أحمد منيف عثمان محمد عايد ترابين (1886–1962)، واسم عائلته معروف بسوريا بعائلة العائدي أو العائد، وهو ابن عم الطبيبة حليمة عايد ترابين، والذي تردّد كثيرًا على القسطنطينية. ولعب دورًا حاسمًا كأحد مؤسسي المعهد الطبي العربي في دمشق في عام 1918. والتي شكلت نواة لجامعة دمشق اليوم، وقد شارك في تقديم النصائح الدراسة القيمة مع الطبيبة حليمة عايد ترابين، والتي كانت تزوده بمعلومات عن الكتب والمعلمين والتقنيات الجراحية. تبادلوا خبراتهم الطبية: ناقشت الطبيبة حليمة الطب البدوي من النقب ومصر وفلسطين، في حين شارك الطبيب أحمد منيف معرفته بالطب الحديث من القسطنطينية وسوريا. شارك كلاهما في تحليل ما بين الثقافات وطرحا مقترح ما يُعرف الجمهور الغربي بالثقافة الفلسطينية وباقي المنطقة العربية من خلال إرسال ممثل عن القبيلة إلى القارة الأوروبية. تركت هذه المناقشات انطباعًا دائمًا على الطبيبة حليمة، التي وضعت هذه الأفكار موضع التنفيذ من خلال تعيين أحد أحفادها لتمثيل متحف «التراث من عبق التراب» وتعزيز الثقافة الفلسطينية والعربية في الخارج، بعد ثمانين عامًا. يتذكر د. متحف عايد ترابين، وهو مؤسس أكاديمية علم المتاحف الفلسطيني والعربي في العاصمة الفرنسية باريس، وحفيد الطبيبة «حاكمة» من الجيل السادس، الحياة السعيدة من خلال وجوده في سانت بطرسبورغ: «لم تكن أسرتي مجتمعًا مغلقًا؛ ولأكثر من ألف عام، استكشف الرجال والنساء الثقافة والطب والقانون وطرق التجارة، وحماية الضعفاء، وما إلى ذلك. على حد علمي، إن ذلك منغرس في حمضها النووي. كانت جدتي «حليمة» مثل والدتها، وكذلك جدتها. لقد نشأت بنفس الطريقة وربّتني بنفس الطريقة..». كرست الطبيبة حليمة عايد ترابين، على غرار والدتها وجدتها، نفسها لإثراء ودراسة مجموعات المتحف. منذ تعيينها مديرة للمتحف في عام 1920 حتى إغلاق المتحف بسبب أحداث عام 1948، سافرت على نطاق واسع إلى جميع أنحاء فلسطين للحصول على فهم أفضل للتراث الإثنوغرافي للقرويين الفلسطينيين وسكان الحضر والبدو وشبه البدو. خلال رحلاتها، حصلت على مقتنيات اعتبرتها ذات قيمة وذات صلة بمجموعة المتحف. كانت المقتنيات الموجودة في المجموعة بمثابة وسيلة لعلاج المشاكل الصحية للسكان المحليين والمساعدة في شفاء المرضى. أنشأت الطبيبة حليمة عايد ترابين عيادة حَجَرِية رسمية مجاورة للمتحف، مجهزة تجهيزًا كاملاً بجميع المعدات الطبية اللازمة التي يحتاجها السكان قرية غزالة المحليين. في عام 1935، كان لديها عشرة أجنحة بنيت للمتحف، من بينها أجنحة لدراسة وعرض النباتات والبذور والتمائم والأزياء الشعبية والكثير من المنتوجات النسيج والحلي والأدوات الزراعية والأسلحة البيضاء والنحاسيات والعملات ومكتبة فيها الكثير من الوثائق والمخطوطات المتداولة بين غرف التجميع والغرفة الطبية وغرفة الحرف اليدوية، عكست الالتزام بالحفاظ على وظائف هذه المقتنيات على قيد الحياة لصالح المجتمع الفلسطيني. لم يساهم هذا النهج المتكامل في الحفاظ على التراث الفلسطيني فحسب، بل كفل أيضًا استمرارية تقاليدهم. وبعد النكبة عام 1948 تمّ إعادة إحياء رسالة المتحف، كما تمّت ولادة جديدة لعلم المتاحف الفلسطيني بين عامي (1967-2000)، وهو ما سنتوقف عند في تقرير لاحق.