عُرف في هذا العصر نوع من الكتابة، نستطيع أن نطلق عليه باطمئنان الكتابة المتطفلة. وهي كتابة تتميز بأنها جافة العواطف، متكلفة في صورها ورموزها، ومضطربة في أسلوبها، وركيكة في لغتها. وهي في الغالب غير مكتملة البناء، لا تضيف جديدًا في معانيها وأفكارها، وليس لها من وظيفة غير تأكيد حضور أصحابها على خارطة الإبداع. إنها كتابة رديئة، وإن ادعى أصحابها غير ذلك. هذا النوع من الكتابة نجده عند عدد غير قليل من الشعراء والروائيين المبدعين، الذين جف نبع إبداعهم، وبلغوا نهاية رحلتهم الإبداعية، ولكنهم استمروا في الكتابة؛ لإثبات وجودهم، وليبقوا في الواجهة مستندين إلى تاريخهم في الكتابة؛ فقد كانت لهم أعمال إبداعية عظيمة، قدّمتهم إلى المجتمع والمؤسسات الثقافية، ومنحتهم الشهرة والمنزلة الرفيعة. وقريبة من الكتابة المتطفلة، تلك الأعمال التي تظهر من وقت لآخر لبعض الأدباء المعروفين، التي أنجزوها من أجل تحقيق هدف خارج الإبداع كنيل جائزة، أو مكافأة، أو وظيفة، أو التفاخر بمقدرة، أو التقرب من شخصية أو طائفة. فلا عجب أن تكون كتاباتهم متكلفة، وعلى هامش أعمالهم الإبداعية. ونجد الكتابة المتطفلة عند بعض من لا يملكون الموهبة، ولكنهم يملكون الرغبة والطموح ليغدوا أدباء، فاقتحموا عالم الكتابة، واستخدموا ما لديهم من سلطة ونفوذ ومال من أجل تسويق ما يكتبون. ونجح بعضهم نجاحًا لافتًا حين تناول بعض النقاد أعمالهم بالإشادة والتقريظ، وكانت الندوات والمؤتمرات للإعلاء من شأنهم، وتقديرهم بالجوائز والألقاب. وكان المرتع الملائم للكتابة المتطفلة وسائل التواصل الاجتماعي: الفيسبوك، وإكس، واليوتيوب وغيرها؛ إذ أمنت هذه الوسائل لكثيرين ممن لا علاقة لهم بالإبداع نشر كتاباتهم الرديئة، ومنحتهم الحق في استخدام تلك الوسائل على قدم المساواة مع حاملي نوبل، فضجت تلك الوسائل بالأفكار الضحلة، والألفاظ البذيئة، والقيم البالية، التي تعزز التخلف، وترسخ اليأس والكآبة. لا تخفى الكتابة المتطفلة على المبدعين الحقيقيين، فرأينا بعض المبدعين عندما يدرك نهايته الإبداعية يتوقف عن الكتابة؛ ليحافظ على صورته أمام قرائه، ويبقى في نظرهم المبدع المتميز، كما فعل الطيب صالح بعد إنجازه عدة روايات منها روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» فاتجه إلى كتابة المقالات الأدبية. وكذلك مؤنس الرزاز بعد روايته «ليلة عسل» أوقف مشروعه الروائي، واتجه إلى كتابة ما أطلق عليها «الاعترافات». ربما لمثل هذا السبب، كما أرجح، عرفنا ظاهرة القصيدة اليتيمة وظاهرة الرواية الواحدة. ففي شعرنا العربي القديم تجلت ظاهرة القصيدة اليتيمة عند بعض الشعراء، كما يحدثنا عن ذلك الشاعر محمد مظلوم في كتابه» أصحاب الواحدة» فيذكر قصائد كثيرة فاقت شهرتها المعلقات، من بينها قصيدة سحيم الرياحي ومطلعها: أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني وقصيدة مالك بن الريب، ومطلعها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا وقصيدة الأحيمر السعدي ومطلعها: عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير وقصيدة أجمل المصلوبين لأبي الحسن الأنباري ومطلعها: علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات ولا ننسى قصيدة ابن زريق البغدادي التي مفتتحها: لا تعذليه فإن العذل يورقه قد قلت حقًا ولكن ليس يسمعه أما عن الرواية الواحدة فظهرت مع بروز فن الرواية، مثل رواية «مرتفعات ويذيرنغ»1847. وهي الرواية الوحيدة لإيميلي برونتي، التي حظيت برواج كبير وبشهرة واسعة. ومثلها الرواية التاريخية «الفهد» 1957م للإيطالي جوزيبه تومازي دي لامبيدوزا، التي تعد من أشهر الروايات في القرن العشرين. ومن الروايات الواحدة رواية الروائي والشاعر تيسير سبول» أنت منذ اليوم» التي نال عليها جائزة جريدة النهار اللبنانية للرواية عام 1968م. هكذا فإن تلك القصائد والروايات التي في غاية الإبداع والتميز خلدت أصحابها مع أنهم لم يكتبوا غيرها؛ إذ أحجموا عن الكتابة عندما أدركوا بأن ما سيقدمونه لن يصل في إتقانه وروعته إلى ما كتبوه؛ فرأوا من الأفضل لهم ولقرائهم التوقف عن الإبداع، والمحافظة على ما وصلوا إليه. في النهاية ما نريد قوله إن الكتابة المتطفلة مع أنها تلحق الضرر بالأدب والمجتمع فإن من الصعوبة وقف تدفقها في حياتنا الثقافية والفكرية، لكن على النقاد الحقيقيين أن يكشفوا خطرها بيان ما فيها من قصور وجمود وتخلف، دون الوقوع في فخ المجاملات والتحزبات الثقافية والسياسية والطائفية.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 25-04-2025 12:02 صباحا
الزوار: 33 التعليقات: 0