.عاطف عز الدين عبد الفتاح ما أجمل أن نتناول عملا ابداعيا لأحد الشعراء,وهو يعيش بيننا ؛ لكننا اليوم سنقدم رؤية نقدية لقصيدة ( انسينى ....ما بقتش أنغعك ) للشاعر الراحل أحمد أبو شرخ ؛

محاولين أن نقيّم ما أبيدعه الشاعر بموضوعية مبتعدين _ بقدر الِامكان _ عن عبارات المديح والثناء التى نسمعها كثيرا فى حفلات التأبين .

عنوان القصيدة : العنوان كما يرى الناقد الدكتور محمد عبد المطلب هو عتبة النص ؛ التى يجب أن يخطوها القارئ فى تؤدة مصحوبة بقدر من التأمل اليقظ ؛ حتى لا يتعثر فيها ؛ فتتوقف قراءته و تقصر عن المتابعة ؛

أما اذا تخطى هذه العتبة آمنا ؛ فاِنه سوف يلج منها الى غرف النص وأبهائه و يتحرك فيها حركة حرة واسعة
  . وعنوان القصيدة: ( انسينى .... ما بقتش أنفعك ) يجعلنا أمام شاعر يطلب من محبوبته أن تنساه لأنه لم يجد نفسه جديرا بها ؛ ويستحق أن تثق به ؛

وهنا تتضح لنا سماته الشخصية ؛ فهو يتصف بالشجاعة والقدرة على المواجهة والحزم ؛ عندما وجد نفسه أنه غير كف ء لمحبوبته كى تعتمد عليه ؛ فمن خلال علاقته معها يصر أن يكون هو صاحب القرار مفضلا الانسحاب ؛ وهذا يشير الى اِعتزازه بكرامته .
ويلاحظ القارئ أن الشاعر بدأ العنوان ب " انسينى " وهذا فعل أمر

؛ والأمر هو : طلب حصول الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء . يقول الشاعر فى مفتتح قصيدته : ( انسينى ...... ما بقتش أنفعك انسينى ....... ما اقدرش أخدعك ما اقدرش أكون الداء فى جسمك يوجعك أو شوكة فيكى تعطلك و ترجعك عن بكرة جاى لك بحكايات انسينى ...... وانسى الذكريات ولو حد سألك يوم عليه قولى له مات !!! )

ولقد مات الشاعر و " بكرة " الذى تحدث عنه لن يجئ ؛ و هذا يتناص مع مسرحية " فى انتظار جودو " للكاتب المسرحى الايرلندى صمويل بيكيت الفائز بجائزة نوبل العالمية عام 1969 ؛

وتعتبر مسرحية " فى انتظار جودو " واحدة من أشهر مسرحيات مسرح العبث أو اللا معقول . يكشف لنا الشاعر البعد النفسى لشخصيته عندما يقول : " انسينى ....... ما اقدرش أخدعك " فنحن أمام شخصية ترفض الخيانة و تتميز بالنبل رغم اعلانه عن عجزه ؛ و انه غير قادر على الاستمرار فى العلاقة مع المحبوبة ؛

وهو ما يطلق عليه النقاد المسرحيون اسم " سقوط البطل التراجيدى " ؛ ففى مسرحية " أوديب ملكا " لسوفوكليس نرى الملك أوديب عاجزا أمام قدره ؛ فيقتل أباه ويتزوج أمه دون أن يعرف فيقرر الرحيل من طيبة ويفقأ عينيه . وفى قصيدة " انسينى ..... ما بقتش أنفعك "

يلجأ الشاعر الى الرمز عندما يقول : " ما اقدرش أكون الداء فى جسمك يوجعك أو شوكة فيكى تعطلك و ترجعك " فالشاعر هنا يتحدث عن مصر التى يحبها رافضا أن يسبب لها ألما ؛ أو مرضا ؛ حتى أنه يأبى أن يكون مجرد شوكة فى طريق محبوبته مصر ؛
ويرى الرمزيون أن الصور يجب أن تبدأ من الأشياء المادية ؛

على أن يتجاوزها الشاعر ؛ ليعبر عن أثرها العميق فى النفس من خلال اللا شعور ؛ ويرى الناقد الدكتور محمد غنيمى هلال أن الصور الرمزية ذاتية لا موضوعية ؛ وهى تجريدية تنتقل من المحسوس الىا عالم العقل والوعى الباطنى . يقول الشاعر :

" عن بكرة جاى لك بحكايات انسينى . وانسى الذكريات ولو حد سألك يوم عليه قولى له مات !!!
" يطلب الشاعر من محبوبته مصر أن تنساه لأنه يعرف يعرف ويشعر بقسوة الواقع الذى يقف أمامه عاجزا ؛ ولأنه كفنان يستشعر المستقبل من خلال واقعنا المرير ؛

لذا فان الغد لن يكون مشرقا فى ظل عالم يسوده العنف والكراهية وتختفى فيه المعانى الانسانية ؛ وكأن الشاعر الراحل أحمد أبو شرخ يتحدث الينا من العالم الآخر ؛

فنراه يقول فى قصيدته : " وبلاش يكون الصمت ردك والحيرة دايما فى السكات وماتخافيش مش هاتشوفينى د احنا بينا بحور بينا بحور طويلة وبينا أبعد مسافات الزمان كان أقوى منى موت لى قلبى وصار رفات " ان هذه الأبيات لا تعتبر صدقا فنيا من الشاعر بل أعتبرها اِلهاما وفيضا اِلهيا ؛

عندما يقول الشاعر: " وماتخافيش مش هاتشوفينى د احنا بينا بحور بينا بحور طويلة وبينا أبعد مسافات " وكأن الشاعر يقول لمحبوبته كلماته الأخيرة مؤكدا بأنها لن تراه لأن بينهما بحورا طويلة ؛ وهذه البحور هى الفاصلة بين عالمنا و العالم الآخر ؛ و هذا يدعونا أن نتحدث عن الحقيقة والمجاز ؛

ففى كتاب " مفتاح العلوم " يقول السكاكى عن الحقيقة : " هى الكلمة المستعملة فيما تدل عليه بنفسها دلالة ظاهرة "

أما عن المجاز فان العالم اللغوى عبد القاهر الجرجانى يقول فى كتاب " أسرار البلاغة " : " كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له فى وضع واضعها لملاحظة بين الثانى والأول الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز الىه وبين أصلها الذى وضعت له فى وضع واضعها فهى مجاز " والمجاز وسيلة لترسيخ المعنى لأنه أبلغ من الحقيقة فى تصويره بما يقوم من التخييل كما يرى الدكتور محمد مدنى وكلنا يذكر الشاعر القديم فيرجيل الذى كتب ملحمة " الانيادة " وفيها يعبر بطلها " اينياس " نهرا غريبا جعله المؤلف فاصلا بين عالمنا الواقعى والعالم الآخر ؛

وفيه يقابل " اينياس " " هاديس " ملك الجحيم يقول الشاعر : " وكنت بحلم تبقى ليه المراية أبص فيكى القى نفسى فى أحلى صورة بين عنيكى وكنت عاوزك تبقى دايما دنيتى ومحطتى مهما اتشرق أو أغرب أعود اليكى وكنت عاوزك تبقى مينا للسفينة اللى تايهة فى الظلام " يحدثنا الشاعر عن حلمه مع محبوبته ؛ فهو يريد أن يتوحد بها لتكون دنيته ؛ ومحطته التى يستقر فيها ؛ اِذ يرى الشاعر أننا نسير فى ظلام و لا نستطيع رؤية طريقنا ؛

فالخلاص يأتى من معرفتنا أن مصر هى " المحطة " التى يجب أن نستقر فيها ؛ و هى الميناء الذى يجب أن ترسوَ عليه سفينتا ؛ ويلاحظ القارئ أن الشاعر استخدم كلمة " الظلام " وهى فصيحة فى قصيدة باللهجة العامية وكان يجب أن يبدلها بالعتمة أو الضلمة وكذلك استخدام الشاعر حرف الواو كثيرا مما جعله يكسر الوزن فالشاعر يقول " وكنت بحلم تبقى ليه " فلو حذفنا الواو لكانت العبارة " كنت بحلم تبقى ليه " على وزن " فاعلاتن فاعلاتن " وكذلك تعبيره :

" وكنت عاوزك تبقى مينا " ويختتم الشاعر قصيدته قائلا : " قولى مات .... وما عدش منه غير شوية ذكريات مات وانتهى.... ويا طيات الزمان بس ارجو ما تظلميش ... وتقولى خان د احنا كنا الضحية ....

. واغتالها للزمان د لأجل حبك والخوف عليكى سجنت نفسى فى ذكريات وزرعتك انتى جوا قلبى و مسورة بمصفحات " يعترف الشاعر لمحبوبته مصر بأنه يحبها ويخاف عليها الا أنه كان ضحية ؛
فسجن نفسه مع الذكريات التى تربطه بها داخل قلبه ؛ ولم يكتف بذلك الا أنه أحضر مصفحات لحراسة محبوبته ... ولكن .... ولكن ... " أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة " صدق الله العظيم اِن هذه الدراسة النقدية المتواضعة وعنوانها " آن الأوان لأن نتذكرك " ؛

نقدمها للشاعر الراحل أحمد أبو شرخ ردا على الخدمات الجليلة التى قدمها لعدد كبير من الأدباء من خلال عمله الصحفى ؛ وحان الآن أن نتذكره .... حان الآن أن نتذكره الناقد / عاطف عز الدين عبد الفتاح