|
عرار: فلسطين -آمال عوّاد رضوان:أقام المجلسُ الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ ونادي حيفا الثقافيّ في حيفا أمسيةً تكريميّة، للكاتبة والباحثة الناشطة النسائيّة السيّدة د. نهيل عادل عويضة، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة- شارع الفرس 3 بتاريخ 19-11-2013، وذلك وسط حضور من الأدباء والاصدقاء والمهتمّين. تخلّل الأمسية حفلُ توقيع كتابها "معارك القدس الجديدة"، وقد تولّى عرافة الأمسية الأستاذ المحامي علي رافع، حيث قدّم نبذةً عن الكاتبة د. نهيل وقراءةً في الكتاب، ثمّ كانت مداخلة د. نهيل عادل عويضة حول دوافع وأهمّيّة أبحاثها، في توثيق وتعزيز الذاكرة الجمعيّة، ومن ثمّ، كانت مداخلات متعدّدة من الحضور، والتقاط الصوَر التذكاريّة! جاء في كلمة المحامي علي رافع: د. نهيل عادل عويضة باحثة وكاتبة وصحافية ومناضلة في حركة القوميّين العرب، وُلدت في القدس عام 1935، وتقطن حاليًّا بين دمشق وعَمّان، وقد أُرغمت على الإقامة في عدد من العواصم العربيّة المشرقيّة، بعد إجلائها عن مدينة القدس عام 1948، وهي من الرعيل المخضرم الذي عاش النضالَ القوميّ. أتمّت دراستها الجامعيّة في جامعة دمشق، والجامعة الأميركيّة في بيروت، وعملت في سلك التعليم في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان لأربعة عقود، ومن ثمّ تفرّغت كباحثة وكاتبة وصحافيّة باللغتيْن العربيّة والإنجليزيّة، فكتبت كتاب "اللهجة الفلسطينيّة المحكيّة في القدس" (باللغة الإنكليزيّة)، وكتاب "التعليم في سوريا في خمسة آلاف عام"، باللغة الإنكليزيّة ومُترجَم للغة الروسيّة، وكتاب "سلسلة نساء شاميّات"، وكتاب "النضال السياسيّ للمرأة الفلسطينيّة في القرن العشرين". وقد افتتحت كتابها بأبيات شعريّة بعنوان: نقش على ضريح الشهيد إبراهيم أبو ديّة، بتوقيع الشاعر الخليليّ يوسف الخطيب، الذي نقش هذه الأبيات في دمشق بتاريخ 15-9-2009 قال فيها: "لَكَ إبراهيمُ في شَعْبك ذكر/ تملأ الانفسَ إعجابًا وفَخرا/ عشْتَ ليْثًا في رُبى القدْس وفي/ هامَة القَسْطل قَد حَلقْت نَسْرا/ ليْتَ صوريف الفدا قَدْ انجبت/ بَدَلَ الواحد منْ مثلكَ عَشْرا". لشعبنا مع نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 ذكريات، بدأت بوعد بلفور المشؤوم، الذي أعطى فيه بلادَنا ووطننا مَن لا يملك ولا يستحق. وفي 11-11-2004 استشهد الرئيس ياسر عرفات مسمومًا، كما تشير التقارير الطبّيّة التي نُشرت مؤخرًا. وفي 29-11-1947 صدر قرار تقسيم فلسطين، الذي أعطى للصهاينة الغرباء 56.47 % من مجموع أراضي فلسطين، وكانوا لا يملكون سوى 5.6%، وأبقى للفلسطينيّين 42.88% من الأراضي، الذين يشكلون 94% من مجموع السكان 1.120.000 نسمة. أمّا القدس التي تبلغ مساحتها 65% من الكيلومتر المربع فتصبح دوليّة، وقد رفض الفلسطينيّون قرار التقسيم المُجحِف، وعارضوه بإمكاناتِهم المتوفرة. معارك القدس الجديدة ومداخلها عام النكبة، وسيرة البطل إبراهيم أبو ديّة: كتابة سيرة الشهداء واجبة على الأحياء من بَعدهم، والتذكير ببطولاتهم يدفع الأجيال اللاحقة لإكمال الرسالة التي بدؤوها، كما أنّ كتابة سيرة هؤلاء تدحض الادّعاء، بأنّ الفلسطينيّين باعوا أراضيهم ولم يحاربوا دفاعا عنها، والأهمّ هو حرص المؤلفة على نشر وإعلاء ثقافة المقاومة- ثقافة الحياة، وهذا يُشكّل ردًّا على مَن يدّعي بعبثيّة المقاومة. وقد سبق للمؤرّخ الفلسطينيّ الموسوعيّ مصطفى مراد الدبّاغ، صاحب "موسوعة بلادنا فلسطين"، أن طالب بتمجيد الشهداءالأبطال، ضاربًا المَثل بشهداء ثورة البُراق عام 1929، وهُم عطا الزير، وفؤاد حجازي، ومحمّد جمجوم، الذين أعدمتهم سلطاتُ الانتداب البريطانيّ في سجن عكّا. تتناول المؤلفة في الفصل الأوّل تاريخَ بيت المقدس، وتصل إلى الفتح العربيّ في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 638 م، بعد ذلك تنتقل للحديث عن توسّع القدس في زمن الحكم العثمانيّ خارج الأسوار، فبنوْا عام 1906 المدرسة الرشيديّة خارج باب الساهرة، وبنى الألمان من "حرّاس الهيكل" عام 1870مجمعًا سكّانيًّا في أوّل حيّ البقعة، وأسمَوْه الكولونيّة الألمانيّة، وعندما تمّ إنشاء الخط الحديديّ بين القدس ويافا عام 1889-1892، فصلت سكّة الحديد البقعة إلى حيّيْن، البقعة التحتا التي شملت الكولونيّة الألمانيّة، والكولونيّة اليونانيّة، والنمامرة، وجميعها غربيّ سكّة الحديد، أمّا البقعة الفوقا، والوعريّة، والثوري، فأصبحت شرقيّ خط سكّة الحديد . بنى الفلسطينيّون بيوتًا حجريّة في أحياء القدس الجديدة، في الطالبة، والنمامرة، والقطمون، والبقعة التحتا، والبقعة الفوقا، والثوري جنوب القدس، وباب الساهرة، والشيخ جرّاح، والمصرارة، ووادي الجوز شمالها، خلال فترة الاحتلال البريطانيّ. لم يُقصّر الفلسطينيّون في الدفاع عن أرضهم بمنع بيع الأراضي، وأعلنوا إضرابًا عامًّا سنة 1936، وحملوا السلاح بعد أن خدعتهم الوساطة العربيّة بتصديق وعود حكومة الانتداب المُماطِلة، بوقف انتقال الأراضي للصهاينة، ووقف الهجرة، ليقبلوا بفكّ الإضراب في 12-11-1936، وقد خصّصت الباحثة فصلًا كاملًا (الفصل السادس)، لبحث قرار التقسيم وتداعياته . في 7-10-1947 اجتمعت الدول العربيّة في "عالية" بلبنان، بعد أن أعلنت بريطانيا إنهاء فترة الانتداب، دون إعطاء الفلسطينيّين حقّ تقرير المصير أو الاستقلال، كما كان الهدف الأوّل من فرض الانتدابات الأخرى في سوريا ولبنان، وقرّرت اللجنة العسكريّة التابعة لجامعة الدول العربيّة، بموافقة رئيس اللجنة الأمين العامّ للجمعيّة العربيّة عبد الرحمن عزام في تشرين الأوّل سنة 1947، لكن هذا لم يمنع الشبيبة الفلسطينيّة من أخذ زمام المبادرة، وتشكيل قوّات "الجهاد المقدّس". على أرض فلسطين التقى في القاهرة مُجاهِدون، كان من بينهم عبد القادر الحسيني، وكامل عريقات، وحسن سلامة، وإبراهيم أبو ديّة، وبهجت أبو غربيّة، وآخرون من مُجاهِدي ثورة 1936، وتداولوا كيفيّة الدفاع عن فلسطين، من خلال أعمال عسكريّة. انضمّ إبراهيم أبوديّة إلى خليّة تعمل على محاربة بيع الأراضي، يوم كان عضوًا في حزب الشباب العربيّ قبل معركة القسطل، وشارك في معركة كفار عصيون الأولى، وشارك في 17-1-1948 في معركة صوريف الأولى، التي تُعرَف بمعركة "ظهر الحجّة"، فأدارَ المعركة بكلّ كفاءةٍ، مُستفيدًا مِن معرفته التامّة بأرض المعركة ومَسالكِها، وشارك بعد ذلك في معركة بيت سوريك، ومعركة سانهدريا 25-1-1948، ويقع هذا الحيّ بكامل سُكّانه بين "حيّ مئة شعريم" و"حي الشيخ جرّاح"، وشارك بعد ذلك في معركة كفار عصيون الثالثة المعروفة بمعركة الدهيشة، في 27-3-1948. ذكر المؤرخ المرحوم "عارف العارف" أنّ "كامل عريقات" ترأس المعركة، وساعده إبراهيم أبوديّة الذي كان يقود المعارك ويعود إلى القطمون، وكانت معارك القطمون من أعنف معارك القدس الداخليّة، بعد أن غادر نصف سكّانها منازلهم، إثر نسف فندق سميراميس في 5-1-1948. شهد المربّي خليل السكاكيني الذي يسكن حيّ القطمون لإبراهيم في براعته وحُسن أدائه بقيادة المعركة، كما شهدت بعد ذلك كريمته هالة التي كتبت في 27-3-1948: "إنّ عدد سكّان القطمون ينقص كلّ يوم، والكلّ يتساءل لماذا لا نترك نحن؟ إنّني مُصمّمة على البقاء هنا، طالما بقي إبراهيم أبوديّة يُدافع عنا. إنّني أعبد هذا الرجُل، إنّه رجُل رائع يتدفق بالوطنيّة، يعمل ليل نهار دون كلل، غيرَ آبهٍ بطعام أو راحة، إنّه ذكيّ، أصيل، أبوديّة وأبوعطا يزوروننا كلّ ليلة تقريبًا". وفي 30-3-1948 كتبت هالة رسالة إلى شقيقها سَري، الذي كان قد ترك القطمون صباح 27-3-1948 مُتوجِّهًا إلى القاهرة، بسبب تدهور حالته الصحّيّة وحاجته لدخول المستشفى، وكانت سترسلها باليد مع مسافرة إلى القاهرة في اليوم التالي لتعَذّر الاتصالات، فكتبت في رسالتها: "إنّنا نقضي أمسياتنا حول طاولة الطعام كالعادة، ورشقات الرصاص هذه الأيّام نادرة، والفضل في ذلك لإبراهيم ابوديّة". وفي 20-5-1948 قام إبراهيم أبوديّة بقيادة الهجوم الثاني على رمات راحيل، وهو كيبوتس يقع على طريق القدس بيت لحم، وكان يُشكّل خطرًا دائمًا على قرية صور باهر، وطرُق جنوب القدس عند دير مار إلياس، واحتلّ المُهاجمون معظم مستعمرة الكيبوتس، لكن عصي عليهم "بيت هعام" الإسمنتيّ، الذي كلّف القضاء عليه غاليًا، حتى اجتمع الجنود المصريّون والأردنيّون بقيادة القائمقام المصريّ أحمد عبد العزيز، ودكّوها نهائيّا يوم 24-5-1948، ورفعوا عليها العَلم المصريّ، غير أنّ إبراهيم أبوديّة كان قد أصيب عند مدخل المستعمرة يوم 20-5-1948 بسبع رصاصات استقرّت في ظهره، وتسبّبت في شلله. كانت هذه المرّة الخامسة التي كان يُصاب فيها بجروح ويعود لقيادة المعارك، إلّا أنّ إصابته هذه المرّة اختلفت، ونُقل في الحال إلى المحاجر، ثمّ إلى المستشفى الفرنسيّ قي بيت لحم، حيث بقي شهرًا واحدًا، بعده قرّرت الهيئة العربيّة العليا نقله إلى القاهرة جوًّا للعلاج، وكتبت هالة السكاكيني في مذكّراتها: "أمضى أبوديّة بعض الوقت في المستشفى الإيطالي في القاهرة، وقمنا بزيارته جميعًا هناك، وكان يُعاني من إصابات بليغة، لكن معنويّاته مرتفعة، وبعدها نُقل جوًّا إلى بيروت، لمتابعة العلاج في مستشفى الجامعة الأمريكيّة، (الكاتبة تُصحّح وتقول: إنّ إبراهيم لم يُنقل رأسا إلى بيروت، بل أعيد إلى بيت لحم، وبقي في المستشفى الفرنسيّ حتّى نهاية عام 1948، ثمّ أقام في بيروت حتى وفاته في 6-3-1952". أثناء تداويه في بيروت، لم يُقعده شلله وأوجاعه عن الاستمرار في التثقيف القوميّ الوطنيّ بشكل عامّ، فكان يقوم بزيارات للمخيّمات للتحدّث مع اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان، وخلال تردّده على مستشفى الجامعة الأمريكيّة في بيروت، تعرّف على الحكماء الثلاثة أحمد الخطيب، وجورج حبش، ووديع حدّاد، وباقي طلاب الجامعة الذين شهدوا له بعد وفاته، فشهد د. جورج حبش قال: "كم كان تأثري شديدًا يوم وفاته في مستشفى الجامعة الأمريكيّة 1952". كتب الحكيم أحمد الخطيب: "كنّا نزوره في مستشفى الجامعة الأمريكيّة، ويطلب منّا أن ننشد الأناشيد الوطنيّة، ليُحمّسنا ويُحفزنا على العمل الوطنيّ، والتضحية من أجل قضايانا القوميّة، ممّا أحدث أكبر الأثر في نفوسنا، مهما تملّكنا القهر والغضب على الصهاينة والدول التي ساعدتهم، والحكومات العربيّة والأحزاب العربيّة التي خذلت الفلسطنيّين. وهكذا بدأنا بالتفكير في كيفيّة الردّ والتعامل في ذلك الوضع المُهين، ومن هنا بدأت المسيرة من مجرّد حلقات ثقافيّة، إلى "الشباب القوميّ"، ثمّ إلى حركة القوميّين "العرب"، لإيماننا بأنّ القضيّة هي عربيّة بالدرجة الأولى.. بدأنا نُنظم عملنا ونتوسّع باسم "الشباب القوميّ"، واتخذنا من بيت أسماء أبو الخير الموقع السوريّة في رأس بيرة ملتقى لنا للنقاش والحوار والعمل". (اُنظر كتاب أحمد الخطيب، الكويت: من الإمارة إلى الدولة، ذكريات العمل الوطنيّ والقوميّ (ص80-81). وكتب الحكيم وديع حدّاد: كان الأكثر تأثرًا بنهج وتفكير البطل إبراهيم أبوديّة، فالأخت (س ح أ)؛ المناضلة التي رافقت الحكيم وديع حدّاد، عندما كان مسؤولًا عن مكتب "المجال الخارجيّ في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين" منذ إنشائه، وحتى رحيل الحكيم المُبكّر والمفجع قالت: "كان الحكيم وديع يحتفظ بصورة للشهيد إبراهيم أبوديّة وهو جالس على كرسيّه المتنقل في صدر مكتبه، وبقيت الصورة حتى إغلاق المكتب، وكان يُردّد اسم أبوديّة في العديد من المناسبات، مُستشهدًا بأقواله وأفعاله كلّما أراد أن يَشحذ هِمم الشباب للنضال، كما كان يتمثل بتكتيكاته وأساليبه، عندما كان يقوم بالتثقيف النضاليّ، وكأنّه تتلمذ على يديه أثناء وجوده في المستشفى". والمناضل د. صبحي سعد الدين غوشي؛ ابن القدس البارّ والمُرَحّل قسرًا إلى عمّان قال: "التقيت بالمناضل إبراهيم أبوديّة في بيت قريبي صلاح الناظر، في الطريق الجديدة ثلاث مرّات- كان مشلولًا، لكن شلله لم يكن يُعيقه عن زيارة الأصدقاء، وطبعًا كان حديثنا يَدور دائمًا حول فلسطين، والنكبة شغلنا الشاغل حتى التحرير، وكانت معنويّاته عالية، وأمله بالنصر أكبر.. رحمه الله". والمؤرّخ عارف العارف أفرد له صفحة في كتابه حول النكبة، كما ذكره الموسوعيّ مصطفى مراد الدبّاغ، كما شهد له المربّي خليل السكاكيني بقوله: "القتال (في القطمون) مستحرّ مُستمرّ، والعدوّ يشنّ الهجوم، فيتصدّى له إبراهيم أبوديّة بطل القطمون، فيفتك به ويردّه خاسرًا، ألا مِثله ومِثل رجاله ليكن الأبطال". والعقيد أبو موسى- سعيد موسى مراغة شهدَ للمؤلّفة أثناء لقائها به في دمشق الفيحاء بما يلي: "رافقتُ مُخوّلي الشهيد محمود يوسف القاق، وقد كان مُلتزمًا مع حامية إبراهيم أبوديّة، فذهبت معه إلى القطمون، وأذكر أنّنا بقينا في بيت وراء المتاريس لمدّة أسبوع، وكان فندق سميراميس المُدمَّر شرقنا، وحُرج دير مار سمعان غربنا، ورأيت إبراهيم أبوديّة عن قرب، وكنت أستغرب من أين تأتي له كل تلك القوّة وهو لا ينام، فهو موجود بين رجاله في كلّ لحظة، يدور عليهم في المتاريس ليل نهار، وكنت أشعر أنّه منهم، ليس أعلى ولا أدنى، يجلس معهم، وإذا وجد عناصره يأكلون يشاركهم الخبز والبندورة والملح. يمتاز بالتواضع الشديد والدماثة مع الحزم، يتحدّث بهدوء ويطمئن عن عناصره فردًا فردًا، فهو قائد متقدّم، لا يجلس وراء مكتب ويرسل الأوامر على الهاتف أو اللاسلكي، بل يدرس كلّ حالات الجبهة عن قرب، ويبحث في تحسينها مع عناصره، ويستمرّ في إعطاء التوجيهات ونقل ما يلزم للأماكن المتقدّمة. كنت أرى على وجهه سمات التقوى، وقد تمثل ذلك بحبّه للناس، فهو رؤوف وهذا جزء من التقوى التي تحلّى بها.. كان إبراهيم القائد الميدانيّ المثاليّ". والمؤرّخ عجاج نويهض كتب: "نلتقي في حيّ القطمون مع إبراهيم في أوائل سنة 1948، وقد عهد إليه الدفاع عن هذا الحيّ العربيّ الجميل، وهو أنّق أحياء القدس الجديدة، وألمعها بالبيوت الحجريّة الرائعة المُحوّطة بالحدائق الغناء". (اُنظر كتابه رجال من فلسطين، العظيمان شهيد القسطل وبطل القطمون). والأديب الشهيد غسّان الكنفاني كتب في قصّة قصيرة بعنوان "ورقة من الطيرة"، على لسان بطل القصّة: "لقد كان هناك بعض القادة المُخلصين، ولكن ماذا يستطيع الواحد منهم أن يصنع لوحده؟ ماذا يستطيع أن يفعل ملاك سقط فجأة إلى جهنّم، وعُلّقت جناحاه في براثن الشياطين؟ لقد تيسّر لي أن أدخل معركتيْن مع إبراهيم أبوديّة، رحمه الله، لم يكن يُحارب إلّا وهو واقف على قدميْه، كأنه يُلقي خطابًا، وكنّا كلنا نندفع إلى الأمام، كأننا ذاهبون إلى عرس.. رحمه الله.. أنا أعرف شيئًا كثيرًا عن حياته. لقد بدأ صغيرًا مع عبد القادر الحسيني، يأخذ الرسائلَ عبْر الجبال إلى الرفاق، ثمّ كبر إبراهيم وحمل البارودة ونزل إلى المعركة، وكان عبد القادر يقول: إنّ إبراهيم هو أشجع رجل رآه في حياته. كان ذكيًّا جدًّا. وفي سنة النكبه 1948 خاض مع رجاله معركة في مكور حيييم؛ (هي في الواقع معركة رمات راحيل). كان إبراهيم أبوديّة يَحتضر، وكان ثلاثة رجال يقفون الى جانب سريره يَبكونه، وطلب إبراهيم منه بصوت خفيض أن ينشدوا له نشيد "موطني"، ووقف الرجال الثلاثة (وهم الحكماء الثلاث أحمد، وديع وجورج) ينشدون له النشيد، وهم يَبكون بينما كان هو يموت.. أرأيت كيف يموت الأبطال دون أن يسمع بهم أحد". (ص 192) . المناضل الصحفي نايف شبلاق، الذي استشهد في هجوم على جريدة المحرّر في 31-1-1976، في حيّ الشيّاح في بيروت، كتب مقالًا نشرته جريدة بيروت الصادرة في 13-3-1952 تحت عنوان، "مأتم المُجاهد البطل أبوديّة"، ذكَر فيه أنّ عددًا كبيرًا من سكان العاصمة بيروت ودّعوا مع إخوانهم الفلسطينيّين البطلَ القائد إبراهيم أبوديّة، وشارك في الجنازة ثلة من رجال الدرَك، وعدد من شباب الجامعة الأمريكيّة، ثمّ كبار رجال الدين المسيحيّين والمسلمين، والهيئات الرسميّة، وفي طليعتها ممثلو الهيئة العربيّة العليا، ولجان اللاجئين، ثمّ نعش الفقيد محمولًا على الأكفّ، يُجلّلهُ العَلم العربيّ الفلسطينيّ، ثمّ بقيّة المُشيِّعين. أكرم زعيتر في زاوية "قُلْ كلمتَكَ وامْشِ" في جريدة "الحياة، كتب مقالًا تحت عنوان "لا بدّ مِن يوم". صدّره بصورة للشهيد قبل ساعات من وفاته جاء فيه: "غيّبنا في الثرى هذا اليوم رجلًا، وأغمدنا في التراب هذا اليوم مُهنّدًا من سيوف الله، طالما تكسّرت على نصله سيوفُ الطغاة، وودّعنا جسمًا تألف من جراح، وقلبًا رُكّب من إيمان. وفي الموكب المشهود نحو اللحد المفتوح، رأينا شيوخ الجهاد وأعيان الكارثة قوّست المحنة ظهورَهم، وعفّر الدهر بغبار البؤس جباهَهم، يذرفون دمعات ما أحسب إلّا أنّهم كانوا يسكبونها أسًى على وطنهم السليب، مُمثَّلًا في هذا الذي احتواه التابوت، وما أحسب إلّا أنّهم رأوْا في مصير شهيدهم مصيرَهم، وكأنّي بهم يُحسّون أنّ هذا الذي مات غريبًا، إنّما هو نذير لموتهم غرباء. وهل تُغْني بقعةٌ عربيّة، مهما عزّت وتضمّخت بطيوب الحرّيّة، عن سفوح القدس، وبطاح يافا، ومروج عكّا، وروابي حطين". شكرًا للباحثة نهيل عويضة، ورحم الله الشهيد البطل إبراهيم أبوديّة، ورحم الله جميع الشهداء الذين قضوْا في سبيل حرّيّة وكرامة فلسطين وشعبها. وجاء في كلمة د. نهيل عادل عويضة: أنا لست شاعرة لأعَبّر عن مدى سعادتي بأن أكون بينكم وألتقيكم، فهذا لم أحلم به بحياتي، لأنّني كنت خارج فلسطين، وأتمنّى أن يكون حوار بيننا في هذه الأمسية. ما دعاني أن أكتب وأبحث هو حبّي تقديرَ أناس، كان لهم دور معطاء ولم يذكرهم التاريخ. ولأنّ تاريخنا ذكوريّ، فقد نبّهت الأخ جورج حبش، والأخ هاني الهندي، إلى تقدير دور المرأة الفلسطينيّة بشكل عامّ، وبشكل خاصّ تقدير المناضلة المخضرمة أسماء أبو الخير الموقع، وإعطائها حقها، لأهمّيّة دورها في النضال القوميّ، وتأسيس حركة المقاومين العرب، التي انطلقت من بيتها لغيرتها على شعبها، وكانت ترفض المقابلات بعدما كبرت، وما حصدت إلّا سمعتها الطيّبة. تحدثت عن "سلسلة نساء شاميات"، الذي حمل عنوان أسماء أبو الخير الموقع، بدافع المسؤوليّة في صناعة الذاكرة الجمعيّة، وأهمّيّة توثيق نشاطات "المرأة المشرقيّة"، وتصوير التاريخ من منظور جندريّ خلال القرن الماضي، لأنّ التوثيق السائد كان ذكوريّا، فأغمطت أدوار وحقوق المرأة كجنديّة مجهولة وطنيّا، وفي جميع جوانب حياتها ونضالها، والتي تركت آثارها وبصماتها الملموسة على مجتمعنا الحاليّ، ومن أجل إعطاء فتيات عصرنا ثقة أكبر بمقدرتهنّ، في تخطّي عقبات المستقبل بخطى ثابتة، وذلك من خلال الذاكرة الشفويّة، وتجميع شهادات ممّن عرفوها، منهم: د. جورج حبش، هاني محمود الهندي، فيصل بن خضرا، نهاد هيكل، أديب قعوار، صالح شبل، يوسف نمر التميمي، د.صبحي سعدالدين غوشة، د.فيصل كمال، هشام العابد، حمدي مطر، غازي الخالدي، ابتسام الترك، رجاء خماش، محمّد الأخرس، هيام زكي التميمي، الأستاذة المحامية أمل رملي، ماجدة عمر باشا، إبراهيم الراهب، تيسير قبعة، أسامة النقيب ونازك غوشة. أسماء أبو الخير الموقع من مواليد دمشق 1926، كان والدها أبو الخير الموقع شخصيّة وطنيّة مرموقة، فاشترك في المؤتمرات السوريّة الفلسطينيّة، وكان رئيسًا للغرفة التجارية إبان الحكم العثمانيّ، وأمّها حُسن الحزوري فلسطينيّة. عاشت أسماء طفولتها تتنقل بين دمشق وبيروت وعكا وحيفا، وكذلك تفاصيل النكبة. حصلت على شهادة البكالوريوس من الجامعة الأميركيّة- كلية الآداب عام 1951، ثمّ طُردت من الجامعة لأسباب تتعلق بنشاطها السياسيّ في صفوف الحركة في دمشق، وتأسيس وقيادة حركة القوميّين العرب- فرع سوريا، ورفضت الزواج. وتحدّثت حول كتاب "معارك القدس الجديدة"، وسيرة المناضل البطل إبراهيم أبوديّة، ودوره في التنظير لتأسيس تجمّع الشباب القوميّ، لم أجد مَن قدّر البطلَ ابراهيم أبودية، وكوْني أعرف القدس جغرافيًّا، وواكبتُ أبوديّة طفلة، إذ وُلدت بالقدس 23-10-1935 قبل استشهاد القسّام، وُلدت أنا وإدوارد سعيد بنفس الأسبوع، وعلى يد نفس القابلة- (الداية) وبنفس الحارة، وكان عمري عام 1948 اثني عشر عامًا حين كنّا في القطمون (القدس الجديدة)، أي خارج حدود القدس القديمة التي مساحتها كيلومتر واحد فقط، والتي تضمّ قبّة الصخرة، والمسجد الأقصى، وكنيسة القيامة للمسيحيّين، وحائط المَبكى البُراق لليهود، وفيها شوارع وناس وبيوت جميلة، وحارات مثل حارة النصارى، وحارة الأرمن، والحيّ الإسلامي، وحارة المغاربة الحيّ اليهوديّ، ومن حوْلها القطمون، والبقعة الفوقا والبقعة التحتا. القدس هي ليست التي يفاوضون عليها كالعيزرية وغيرها، فأين حارة الأرمن وحارة النصارى وإلخ في المفاوضات؟ نحن لنا من النهر إلى البحر طبعًا، وبناءً عليه، عليهم أن يفاوضوا ويشرحوا للجيل الجديد أنّ القدس ليست القدس الحاليّة، وإنّما القدس هي بالأساس عربيّة وكبيرة، وهُم لهم الحيّ اليهوديّ. إبراهيم أبوديّة وُلد عام 1920 في قضاء الخليل بقرية صوريف. توفّي والده الحلاق عبد الفتاح عام 1930، فاضطرّ أن يترك المدرسة وهو في الصف الرابع الابتدائيّ، ليعمل صغيرًا، وانضمّ إلى حزب الشباب العربيّ، ليوصل الرسائل وهو طفلًا، وكان ناشطا في تعقب ومقاومة سماسرة بيع الأراضي وردعهم، وثقف نفسه، وشارك في ثورة 1936 بقيادة عبد الحليم الجيلاني، وكان قد تزوج إبراهيم عام 1943م من معزوزة أبو الريش ولم ينجب أولادًا، فصبّ اهتمامه بخدمة وطنه وأمّته ضدّ جيش الاحتلال البريطانيّ، وانضمّ لصفوف الثوّار، وبرز اسمه بين أسماء قادة الثورة، فانتمى إلى الحزب العربيّ الفلسطينيّ عام 1946، بقيادة جمال الحسيني ورعاية الحاج أمين الحسيني. سافر إلى القاهرة عام 1946، والتقى بعبد القادر، وشرَعا في التخطيط لخوض القتال ضدّ القوّات الصهيونيّة في فلسطين، وكُلّف بشراء الأسلحة من بدو الصحراء المصريّة- الليبيّة، التي جمعوها من مُخلّفات معارك طبرق والعلمين، وتخزينها في مصر، ثمّ إعادة إرسالها إلى فلسطين، بعد إصلاح المعطوب منها. وفي 22-12-1947 وصل عبد القادر الحسيني إلى صوريف سرًّا، وحلّ في منزل إبراهيم أبوديّة، وفي 25-12-1947 تمّ تأليف أوّل مجموعة من"جيش الجهاد المقدّس"، بقيادة أبوديّة لسرايا العمليّات الحربيّة، وانضمّ لجيش الجهاد المقدّس عام 1947، وكان بأهمّيّة عبد القادر الحسيني في نضاله، فاعتمرَ حطّة وعقال، وارتدى سترة وقمباز، وأدار معاركه بشجاعة وبعقليّة ضابط مُحترف، يستطلع ويُحدّد الأهداف ويُخطط، فقاتل بمعارك صوريف، وضهر الحجة (في الخليل)، وسنهدريا في القدس، والدهيشة (أو كفارعصيون)، وبيت سوريك، ومعارك باب الواد واللطرون، ومعركة القسطل الشهيرة التي استشهد فيها البطل عبد القادر الحسيني، وهذا ما وجدته في بحثي في مكتبات لبنان وسوريا والأردن. إنّه إنسان بارز ومعطاء، وأحببت أن أنقل هذه الصورة للناس، إذ كتب عنه خليل السكاكيني التربويّ الذي نفخر به، وكذلك غسان كنفاني، وجورج حبش، والمؤرخ عجاج نويهض، وآخرون كُثر كتبوا عنه، وحين توفي، عُدت إلى صحف كانت تتحدّث أنّه جُرح خمسَ مرّات، وكان يهرب من المستشفى ببيجامته (منامته) ليقود المعارك، وكان بشهادة هالة السكاكيني إنسانًا شبه إله، وكان بالنسبة لنا عام 1948 هو المدافع عن القطمون، التي تعلو فوق البقعة التي نسكنها، فظلّ حاميًا لنا إلى 14 ايار لحين سقوط البقعة، وقد جُرح بـ 1-5، وصادر الإنجليز بندقيّته، ولم يستطع العودة إلى القطمون، وأصيب بعدّة رصاصات في عموده الفقريّ في معركة رامات راحيل بقرب القدس، ونقل إلى المستشفى الفرنسيّ في بيت لحم، ثمّ إلى مستشفى الجامعة الأمريكيّة في بيروت، على نفقة الجامعة العربيّة، فأصيب بالشلل، وتوفي في بيروت بتاريخ 6-3-1952، ودفن هناك في المقبرة الرئيسيّة. من هنا كان المنطلق لفكرة كتابي عنه، وعن تاريخ القدس وآثارها، وحول توسّع القدس العثمانيّة خارج الأسوار، وما تلاه من معارك حتى عام النكبة. كما تحدّثت عن تجربتها التربويّة، حيث درست في جامعة دمشق لعدم وجود جامعات في فلسطين، بالرغم من وجود قرار ببناء جامعتيْن في فلسطين، أحدهما في فندق بالاس في منطقة ماميلا، والذي بناه الزعيم الفلسطينيّ الحاج أمين الحسيني في نهاية عشرينات القرن الماضي، ليكون تحفة معماريّة، وفي قمّة الذوق تُنافس العمران الصهيونيّ كفندق الملك داود القريب، خلال مؤتمريْن مُهمّيْن جدًّا وعالميًّا، تقرّر أن تُرصد الأموال لفتح جامعة عام 1930، وقد تبرّع بالمبلغ أمير باكستانيّ، ولكن لأنّه تحت الانتداب البريطانيّ، منعته بريطانيا من إرسال المبلغ. وكانت محاولة أخرى لفتح جامعة بيت حنينا، وكانت نواة لم تكتمل. وبسبب عدم وجود الجامعات، كنت من ضمن الأوائل الذين حصلنا على مِنح دراسيّة للتعلّم في الدول العربيّة، فدرست الأدب الإنجليزيّ في سوريا، وتخرّجت منها وعدت إلى رام الله، بهدف خلق قيادات للمستقبل للاهتمام بالنشاطات العامّة، وذلك من خلال التربية، واستطعت من خلال عملي بالمدرسة أن أخلق نواة لقيادات القوميّين العرب. طبعًا نحن كنّا تحت الحكم الأردنيّ، وكانت ظروفنا وظروفكم واحدة وليست أفضل منكم، مع هذا كان بعضنا لا يَخاف، وبدأنا نُوَعّي القيادات ليس سياسيًّا، وإنّما مثلا، كان في الصفّ الواحد 45-50 طالبة، طلبت منهنّ إجراء بحوث عن نساء عالميّات، أنجزن ما يستحقّ الاحترام والتقدير، فكلّ واحدة كانت تتحدّث ربع ساعة عن تلك الشخصيّة، وما أن انتهيْن من أبحاثهنّ، إلّا وصار لدينا شعلة من طاقة تبحث عن التغيير وتحسين الظروف. لكن كيف؟ بنات الصفّ الخامس انطلقن بمشروع محو الأمّيّة بعد الظهر، وصار لدينا قياديّات سُجِنَّ، وكاتبات أبدعن، وأمّهات جيّدات ربّيْن جيلا وطنيّا. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الثلاثاء 26-11-2013 08:46 مساء
الزوار: 1740 التعليقات: 0
|