|
عرار:
البا ما تلتقي المعارض المشتركة عند تقاطع رؤية معينة يعاد تمثلها من خلال تجارب الفنانين المشاركين، وفي المعرض المشتــرك التـــونسي-الليبــي “بصمـــات متقاطعة” الذي يستضيفه رواق “دار الفنون” بالعاصمة تونس، كان هناك توافق على موضوعة تتعلق بما ترسّخ في الذاكرة من حدث أو ملمح لمشاهدة عابرة أو فكرة يراد لها الحضور، وهي قائمة على تمثلات عينتها تعددية الممارسة وخصوصية انشغالاتها الصورية. وتستدعي علاقة الكائن بالمدينة، حضور المكان كفضاء متخيل في لوحات الفنان الليبي القذافي الفاخري، بوصفه حيزا لتوظيف الذاكرة بتداعياتها الحسية والذاتية الخبيئة. وهي هنا، بمثابة حدث أو نسق من إشارات كتابية أو رقمية أو حتى موضوعة شاعرية. ويتجلى مثل هذا التوصيف، في اعتماد صياغات تتعالق فيها معالجات لأشكال آدمية بتشخيصية محوّرة، وتتماهى مع مساحات تجريدية مشغولة بعلامات تتخذ من مجتزئات الكتابة، بالعربية واللاتينية، دلالتها التصويرية، فيما تمنح المساحات الفارغة التي تحيط بهكذا انشغال تصويري، فسحة لكشف مقاربات الأثر التعبيري في الإفصاح عن معناه. وتنتقل لوحات القذافي مما يشبه فسحة لجدار حافل بعلامات غير متعيّنة سوى في حضورها الصوري نظرا لكونها حروفا مصطفة أو دوائر صغيرة متجاورة أو لطخات لونية تلقائية، إلى اعتبارها سطحا تصويريا تحتشد فيه الأشكال التي يغلب عليها حضور الوجه الإنساني، تمثله خطوط ليّنة تكتفي بتشخيص ملامح غير محددة يغلب عليها قدر من الاختزال. وثمة تقشف لافت في استخدامات الفنان للون الذي ينتقل في الغالب ما بين الأسود والأبيض وتدرجاتهما، مانحا تكوينه التصويري وإنشائيته السمة الغالبة في استدعاء حساسيته التعبيرية. وتستمد أعمال الفنان الليبي وجودها المتخيل من خلال عناوين تنطوي على هاجس يتوسّم الشعر والتوصيف العاطفي، كما في عناوين للوحات مثل “ذكرّتني المدينة” و“سفر الأحمر” و“ليل آخر”. فيما يعلل الفنان التونسي حمادي بن سعد، انشغاله الفني بتجربته، بكونه قائما على المشاهدة في فعلها اليومي، ويقول “أرسم ما أراه على تلك الجدران المتآكلة والتي أعاينها يوميا وأنا أجوب أزقة وأنهج المدينة العتيقة”، حيث تحتفي الذاكرة بما ينظر إليه من أثر قد تبقى على هذه الجدران جراء تحولات أزمنة وعلامات عن غياب آخرين. وتتمثل انشغالات بن سعد في سلسلتي لوحات، حملت إحداها عنوان “جدران المدينة تحكي لي”، والثانية بعنوان “قناع”، حيث جاءت سلسلة لوحاته الأولى حاملة لتكوينات شكلية تتمثل حضورها التصويري بما يماثل مساحات لونية، تجريدية الطابع، تتجاور وفق تداخل منتظم، ما يمنح التكوين الإنشائي للوحة بعدا يكاد أن يكون هندسيا، فيما تتعين سلسلة لوحاته الثانية على شكل وجوه آدمية، بحجم أبعاد اللوحة، مفعمة بتلقائيتها وبساطتها وفعلها التعبيري الحر. ثنائية الجدار والوجه هي علاقة تختزل ذاكرة المشاهدة بين الفنان ومدينته العتيقة، وثمة وجه يحدق بعينين واسعتين إلى وجود يوثق تاريخه على الجدران الذي بات حاملا لما يخلّفه الإنسان من أثر. وتنشأ صياغات الفنان التونسي عبر استخدامات قائمة على تقنية التلصيق للورق المقوى وخامة “الكاغد” وتلوينهما وتوظيفهما عبر تعزيز معالجة تكـون بديلا عن الاستعانة بالفرشاة في اقتراح الأشكال المرسومة. بعض تلك النتوءات الحاصلة والتضاريس التي تفترضها هذه المعالجات، هي من تقترح طبيعة المماثلة ما بين رؤية الفنان وموضوعته الأثيرة. بخلاف هذا التعاطي التشكيلي والصوري لكل من الفنانين القذافي الفاخري وحمادي بن سعد، تشخص أعمال النحاتة التونسية نجاة الغريسي وكأنها تنتمي إلى عالم آخر، أشد خصوصية، وهو عالم مفعم باليومي، باستذكار الغائب وتخيله، في تمثيل رمزي يحيل إلى المباشرة، كما في منحوتاتها التي حملت عناوين “الموعد” و“ساعي البريد” و“الزمن”. والفنانة الغريسي مولعة بتطويع مادة الحديد وتلوينه، وهي الخامة الأساسية في منحوتاتها، لموضوعات تنطوي دلالاتها على ألفة شديدة توحي بالعاطفة وتبجيل اليومي بوصفه أثرا إنسانيا متعاليا، حيث للأشكال حضور يستدعي الهامشي وأحيانا المنسي لكنه مكرّس بأسباب معالجات تنحى للبساطة والتلقائية. من صلب ثنائية قائمة أحيانا على المقاربة وأحيانا أخرى ماثلة جراء فكرة المفارقة، تشيّد النحاتة التونسية مشروعها النحتي الخاص والمغاير، والكائن على مبعدة من حدود التصنيف الفني. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 09-12-2016 08:17 مساء
الزوار: 1825 التعليقات: 0
|