|
عرار:
يدفع هشام القواسمة متلقي ديوانه الثالث» قال شيئاً .. ومضى» الصادر عام 2010م منذ لحظة التلقي الأولى إلى حوار درامي معلن تارة، وغير معلن تارة أخرى للكشف عن مضامين رؤيته الفكرية، وتشظياتها الفنية التي أبرزت أدوات الشاعر الفنية، وحالته الشعوريّة التي أسهمت في إنتاج بنية نصيّة ذات طاقة حوارية، ونبض وجداني واضح، إذ إنّ فعل السارد لم ينته مع العنوان الذي وضعه الشاعر لديوانه، بل كان العنوان نقطة العبور الأولى لمضامين الديوان، وخطوة مهمة انطلق منها السارد ليمارس بوحه في قصائده. يواجه الشاعر المتلقي بعنوان ذي بنية درامية، تكشف عن منزعه الحواري، ونفسه الطويل الذي امتدّ في بعض القصائد ليعلن عن حواريّة تصرّح تارة وتميل إلى الإيحاء تارة أخرى لتكشف عن حالة الشاعر النفسيّة، ورغبته في البوح دون انقطاع. جاء عنوان الديوان جملة فعلية (قال شيئاً .. ومضى) تبدأ بفعل السرد(قال) ذي الطبيعة الحكائية، وكأنّه بؤرة تنبني عليها قصائد الديوان في قالب درامي متفجّر، ففاعل الفعل(قال) ضمير مستتر، ممّا يمنح السارد الغائب فرصة البوح بما يريد، وكما يريد، فضلاً عن الفاعلية التي يمنحها فعل الغياب للأفعال المسرودة، إذ يلتقي هذا الضمير مع حادثة الفقد، كما في رثاء الشاعر لمحمود درويش، وتيسير السبول، وتقنعه بأبي ذر الغفاري، ورسائله المستعجلة إلى امرئ القيس. وهكذا مضى الشاعر في ديوانه سارداً لواقع أرقه، وأقض مضجعه، ينبئ عن مأسوية لا يمكن إنكارها. إنّه عنوان قصديّ، يُراد به التأثير على المتلقي، ودعوته إلى المساهمة في إنتاجيّة النص، عنوان يتوسّل بصيغة الحوار لصياغة حالة شعريّة ذات مغزى دال بمنأى عن قيود الواقع، ممّا أسهم في صياغة بناء درامي قابل للتلقي، يرتكز على خطاب تخييلي يتّصل اتّصالً وثيقاً بتجربة المبدع . إنّ عنوان الديوان بوصفه علامة للتواصل يقود المتلقي إلى تضاريس النص، وينتقل به إلى وظيفة إحالية ذات صلة وثيقة بالوجدان، ذلك أن « العنوان أحد أهم هذه العناصر السيميولوجية التي تسمح للنص الدرامي بافتتاح كينونته في العالم وحضوره فيه، فهو النصُّ، وقد تكثّف في بنية لغوية مقتصدة دالةٍ، أو بنية موقوتةٍ قابلة للانفجار ( للقراءة) في أيّة لحظة»(1). ويعلل الدكتور عز الدين إسماعيل لجوء الشاعر المعاصر إلى الأسلوب السردي» برغبته في الإخلاص للتجربة، وحرصه على تجسيمها « (2). ويُسهم التآلف بين السردي والشعري في جعل المتلقي أكثر قرباً من النص الشعري، إذ تصبح اللغة أكثر قابلية للتأويل، والكشف المباشر، ممّا يُفسح المجال أمام المتلقي لإعادة إنتاج الخطاب السردي بأبعاده الفكرية ضمن رؤيا جمالية. تنتظم قصائد الديوان داخل وعاء شعوري، يتيح لها مزيداً من الامتداد والتشظي في بنية النص الشعري، تسير باتجاه إحداث عدوى شعوريّة أخرى عند المتلقي، أظهرت قدرة الشاعر على تشكيل أفكاره، وبناء مفرداته في قالب إبداعي يعمّق من مشهديّة الصورة المحسوسة وقابليتها للتشكّل البصري في ذهن المتلقي. ينطلق هشام القواسمة في ديوانه من وعي شعري واضح، وتجربة حياتية صادمة للوجدان، تمثلت بانكسارات الواقع ونزفه المستمر، فضلاً عن حالة الفقد بأبعادها الإنسانية الواضحة، وهذا ما جعل الناقد المصري محمد عبدالمطلب في قراءته الأولى للديوان يقف عند ثلاث ركائز مهمة تنتمي لها الدلالة الموسعة للرثاء في الديوان، وهي رثاء تجربة الحبّ، وتجربة الصداقة، وأخيراً رثاء الواقع العربي(3). ولعلّ هذه الركائز سمحت بحضور درامي اتكأ عليه الشاعر لإقامة نصه والكشف عن رؤياه العميقة، إذ « تمضي القصيدة في تموّج شديد الغنى، كاشفة عن طبقات عميقة من مشاعر البوح، والاعتراف، والندم تارة، والاحتجاج على القهر ومقاومة مرتكبيه تارة أخرى، وذلك كلّه لا يتم إنجازه عبر السرد تماماً.. وإنما من خلال انهمار شعري بالغ التأثير في الغالب»(4). إنّ وعيّ التجربة الشعريّة عنصر بارز في تجربة هشام القواسمة الشعريّة، إذ يمارس النص مساره السردي حتى النهاية، ممّا يُصعّد من اللحظة الدرامية ، ويجعلها لحظة النص بامتياز، كما في قصيدة( وتركت روحي للهلاك) حيث يقول(5): يا جرحنا المسجور يملؤنا الحنين يغدو على رمل الطريق ويشتهي يوماً تلامسه خطاك يشتاق للوجهِ الصبوح هل غبت عنا .. يا صديق؟! هل غبت حقاً ... يا رفيق؟! أنا لا أصدق أن عيني لن تراك أنا لا أصدق.. لقد شكّل أسلوب النداء مفتاح السرد، ومنطلقه، فيُضفي على القيم التعبيريّة إيحاءات ممتدة، إذ يستند الشاعر إلى تكثيف شعوري ضمن رؤيا يحاول إشاعتها في نصه، وهي رؤيا ذات طبيعة تفاعلية تستمد مقوماتها من موقف الشاعر الوجودي، وأحزانه المستمرة التي شقّت مسارها النفسي في النص بعدما أيقن الشاعر أن الفراق أمرّ حتمي. وفي قصيدة (هي صورتي علقتها) التي يُهديها إلى روح محمود درويش نلمس خيطاً تناصيّاً مع عنوان الديوان، بعدما جعل الشاعر من صورته سارداً لما يجري من أحداث، يبثها فيضاً صادقاً، حيث تنثال اللغة مجازاً معتقاً، لتنهض من خلالها الرؤى، وتنبني عليها الدلالات، حيث يقول(6): وحدي أرممُ هيكلي وأذوب فيهِ أقرأ الأشجانَ فيهِ أتقيه واشتهيهِ أمتطي صهواتِ شعري أرتقي فوق الجراحِ.. أعود ثانيةً أُرممُ هيكلي كي لا أعيهِ وأذوب وحدي في السكوت يستند الشاعر في خطابه الدرامي إلى أدوات فاعلة تسهم في صياغة مشهده التصويري، وتحفر مادتها التعبيرية في ذهن المتلقي الذي يتماهى مع هذه الأحاسيس وكأنّها نابعة من وجدانه، كما في قوله(7): وحدي أعودُ ضحيةً في البوح تنثرني الموانئُ ليس لي إلاك أغنية تلوك الحزن تلو الحزنِ ترسمني خيالاً مفرط الإحساسِ ولكن لم تريهِ ( لا فرق بين الموتِ .. كي تحيا وأن تحيا .. وتحيا كي تموت) إنّ ظهور القصيدة الطويلة في ديوان الشاعر جاء نتيجة حتمية لهذا النزوع الدرامي الذي لا يتوقف فيه فعل البوح بل ويستمر في سرده الدرامي، ليوائم بين الماضي والحاضر، وليكشف عن مخاضه الطويل الذي رافق ولادة النص الذي بدأ مع لحظة الحياة الأولى واستمرّ برغباته المقهورة التي أيقظت إرادة الحياة في داخله، فنجده يقول(8): أسرج لنا يا ليلُ شمعكَ.. كلُّ ما حولي ظلام أسرج لنا خيلاً .. وليلاً كي نسير إلى الأمام إنّي على ثقةٍ بأنَّ الدروب تومئ للوداع وحدي أفتش في الركام أسرج لنا يا ليلُ دربك ..والسلام إنّ الذات غير منسلخة عن الجماعة وهمومها، بل هي صوت محموم للواقع وانكساراته المتتالية، ممّا يُبرز الشاعر باحثاً عن الحرية، كما في قوله(9): هي ذي بلادي خيمةٌ تشتاق لي ترسم الأشواقَ لي فلما أذنت لي الرحيلَ وحدي أفتش عنك وحدي حينما أيقنت وحدي أن لي درباً طويل عمّان ـ قبل اليوم ـ كانت حلمنا وملاذنا وطريقنا للمستحيل هي صورتي علقتها وتركتني وحدي أفتش عنك وحدي حينما أيقنت وحدي أن لي درباً طويل فالشاعر منح نصه الإبداعي حرية الحركة في المشاعر، مّا جعل ألفاظه تعكس فضاءات نفسية ذات طبيعة حركية، تعكس غربة الذات المكانية والزمانية، الأمر الذي أظهر الصورة الممتدة أو الطويلة التي تسير في اتجاهين متوازيين الأوّل: وصفي يرصد الأحداث بكلّ ما تحمل من معاناة، والثاني عاطفي يرصد تشظيات هذه المعاناة في النفس. لعلّ أهم ما يُميّز الصورة الممتدة في شعر هشام القواسمة هو بعدها الزمني المنتشي بفاعلية الفعل المضارع وحركيته المستمرة التي تتحرك فيها الذات الساردة بوصفها شخصية محورية تصيغ حادثة تنطلق فيها الذات محاورة الآخر، كما في خطابه لمحمود درويش(10): أرأيت كيف نعود ثانية يذوبنا المساء في الحرب ينمو الحبّ أحتاج انتصاراً لو على نفسي لكي لا أنحني أحتاج أن أبدو أمامك صامداً بطلاً وتهزمني عيونك واللقاء للنصر أغنية وللأحلام أغنية ولي ... أنا متعب ما زال يثقلني العياء أرأيت كيف تلفني هذي الهزائم دون أن أدري أرأيت كيف نعود ثانية ونعشق أقوياء إذ يجسّد الشاعر خاتمة نصه بغائية خطابه الشعري الذي ينهض بعبء الغياب وإمكانية الحضور التي تمثل منطلقاً طبيعياً لحركة الذات الساردة الناهضة بفعل العشق والحياة بدلاً من الاستسلام والانهيار. وهكذا فإن « من أولى سمات اللغة الشعريّة المؤثرة، وأشد فضائلها جمالاً فرادتها: كونها لغة شاعر بعينه، تجسّد رؤياه، وحلمه ، وذهوله. ولا تختلط بلغة شاعر آخر سواه. وربما كان هذا المحك مجدياً إلى حدود بعيدة في قياس شفافية الرؤيا التي تترسح عن لغة هذا الشاعر، أو ذاك»(11). إنّ صور الشاعر ذات تعبير حسيّ حيّ، يجسّم الفكرة والمشاعر تجسيماً تمتدّ فيه الصورة لتمنح النص دلالة العاشق المتوحّد مع ذاته، والرازخ لجذوة إحساسه الوجداني، كما في قصيدة ( وأنت برشفة القهوة) التي يقول فيها(12): سألتك باسم ما كانا ألا لا تجهزي ـ قبل الوداع ـ عليّ لا تدّعي عذاب البعد يقتلني أنا من بُعدنا أُقهر تحشرجت القصائدُ في فمي ورصيفُ آمالي الذي شيدته لم أدرِ أن المدَّ يهدمهُ وعدت أرتل الأحزانَ ثانيةً أأشكو..؟ لم يعد في العمرِ غيرُ مسائه العاثر يعيد الحزنَ في خلدي. يُذكر أن الشاعر هشام القواسمة من مواليد الطفيلة عام 1972م، صدر له المجموعات الشعريّة التالية: رحيل النوارس ( 2001م) وسطور الملح(2004م) وقال شيئاً ومضى (2010م). /////// الهوامش: 1 ـ خالد حسين: في نظريّة العنوان( مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصيّة)، ط1، دار التكوين للنشر والتوزيع، دمشق، 2007م، ص421. 2 ـ عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر ( قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية )، ط3، دار العودة، بيروت، 1981م، ص299. 3 ـ يُنظر، هشام القواسمة، قال شيئاً .. ومضى، قراءة أولى في ديوان هشام القواسمة: قال شيئاً ومضى، د. محمد عبد المطلب، ط1، دروب للنشر والتوزيع، عمّان، 2010م، ص 7. 4 ـ علي جعفر العلاق: في مديح النصوص، ط1، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان، 2013م، ص 75. 5 ـ هشام القواسمة، قال شيئاً .. ومضى، ص 32. 6 ـ المصدر نفسه، ص33. 7 ـ المصدر نفسه، ص ص 33 ـ 34. 8 ـ المصدر نفسه ص 34. 9 ـ المصدر نفسه، ص ص 35 ـ 36. 10 ـ المصدر نفسه ص 38. 11 ـ علي جعفر العلاق: في حداثة النص الشعري، ط3، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان، 2013م، ص 21. 12 ـ هشام القواسمة، قال شيئاً .. ومضى، ص ص48ـ 49. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 17-03-2017 09:05 مساء
الزوار: 772 التعليقات: 0
|