عرار:

رأى أكاديميان أن كتاب "الشاهد المشهود" للدكتور وليد سيف كان صوتاً مناهضاً للعنف والظلم، ووضع على عاتقه مهمة تمثيل الناس الذين يعيش بينهم، واستطاع تحريك مبادئ إنسانية شمولية، بعيدة عن عنصرية وفئوية متعصبة تتنفس العنف وتقتات عليه.
وفي الندوة التي نظمها منتدى الرواد الكبار أول من أمس حول "سيرة د.وليد سيف من خلال كتابه الشاهد المشهود" تحدث كل من د.رزان إبراهيم، د.أيمن العتوم، وأدارتها القاصة سحر ملص، ولفتا إلى أن سيف معتادٌ على رَسْمِ المشهدِ بتفاصيله كافّة بقلمه، وظهر ذلك من خلال الأعمال الدّراميّة الّتي ألّفها، وشاهدها جمهورٌ عريضٌ يمتدّ شرقًا وغربًا، وفي سيرته نرى أثر القلم الّذي يتحوّل إلى كاميرا متحرّكة في بعضِ الأحيان ليطوفَ بك في المكان عبر الحارات القديمة، والأزقّة الضّيّقة، وهيئات الكائنات والموجودات.
أستاذة النقد الأدبي الحديث في جامعة البترا د.رزان إبراهيم قالت إن سيرة سيف لم تكن مجرد وثيقة تسجيلية تقول الماضي وحسب، وإنما هي إعادة إنتاج الماضي وفقا لوعي جديد، وبقدر ما يسهم الماضي في إنتاج الحاضر، فإن الحاضر يسهم في إعادة إنتاج الماضي، فالسيرة تخضع لمقاربة ظاهراتية تتبدى من عنوانها، فالعلاقة الجدلية التفاعلية بين معطيات الواقع الخارجي والنظام التفسيري الذي تتبناه ذات بشرية "تنتج الواقع وينتجها"، فهو يقف على صور قادمة من بعيد يتأملها ويعيد إنتاجها ويشحنها بدلالات جديدة من وحي الحاضر وهمومه، وفتح الباب على مصراعيه حول مسارح الصبا وفضاءات الروح بجرعة رومنسية رغم كل الصعوبات والمنغصات التي اكتنفتها وقت حدوثها.
وأضافت إبراهيم أن الكتاب "يتسم بشمولية الرؤية والمراجعات الفكرية في السياسة، الاجتماع، الدين، الأدب، الثقافة، الشعر، الدراما، التاريخ، النظام التربوي، التجربة الجامعية الأكاديمية"، وتعرضه للعلاقة المتشابكة بين الحضارتين العربية الإسلامية والغربية المتقلبة، وتلك المراجعات العميقة لواقع الفكر العربي والثقافة العربية، مشددة على أنها تمثل نوعا جديدا من الفكر العربي المستنير، المستوعب للإنجاز العلمي الغربي، ونجح سيف بشكل لافت في كسر تلك الازدواجية القديمة التي قسمت النخبة العربية بين إسلاميين تقليديين منقطعين عن أصول الحضارة الحديثة، ورجال ثقافة من حملة الفكر الغربي المنقطعين بدورهم عن خصوصية تراثهم الحضاري بشكل كامل.
وقالت إن الكتاب اجتمعت فيه قيمتان؛ أدبية فكرية وأن السيرة تضعنا أمام جانب ذاتي نكون فيه مع الكاتب نتتبع أطوار حياته منذ النشأة وكذلك مجموع المؤثرات والأحداث التي طبعت حياته، والأخرى فإن للعمل صيغة خاصة يطغى عليها تحليل يحيل إلى عقلية نقادة قادرة على النفاذ إلى أعماق ما تقرأ، وقادرة على تحليل المعلومات، وإعادة التفسير والتركيب، والسيرة عموما تنحاز  للفئات والشرائح المقهورة، وتنقد ذهنية الإقصاء مهما يكن مصدرها، وتركز على التعددية وسنة الاختلاف، ويغلب عليها حالة اجتهاد فكري بعيد عن الدوغما والتعصب، تؤكد في أكثر من موقع على "التشارط بين الطغاة والغزاة، فالطغاة ملة واحدة وهوية واحدة مهما يكن الخطاب الإيديولوجي لأي منهم".
وتحدثت إبراهيم عن الأسلوب الأدبي الذي كتاب به سيف مبينة أنه جمع بين البلاغة الأدبية الكلاسيكية، واللغة الشعرية الحديثة، واللغة المعرفية والفلسفية المتنوعة، كل حسب السياق والموقف، والتقنيات ما يسمح بالقول إنها كتاب أدبي بامتياز، أمرٌ يقتضي بالضرورة إحالة إلى أسلوب فني جمالي يعمل فيه الكاتب ما من شأنه استثارة عاطفة قرائه وتحفيزهم على الاستمرار بتقليب صفحاته، مثل انزياحات متتالية أو تغيير في الكلام يفيد نوعاً من البلاغة، ويحمل في الوقت ذاته وظيفة تنبيهية.
من جهته، رأى الروائي والشاعر د. أيمن العتوم أن سيف بدا مُفكّرًا، يضع النّظريّة الأدبيّة، والتجلّيات الفِكريّة ثُمّ يُؤسس لها، ثُمّ يرواحُ فيها بين الوصف والحُكم، وبدا ناقِدًا أكثر مِمّا لو كان صاحب سيرةٍ يروي ما حدث معه عبر مسيرته الحافلة الّتي امتدّت أكثر من ستّة عقود، لقد غاير بذلك ما فعله أستاذه د. إحسان عبّاس – على سبيل المثال – في "غربة الرّاعي"، إذ إنّ الثّاني حمّل التّاريخ حروفه، أكثر مِمّا حمّله آراءه، ونظراته إلى الحياة، وهذا نمطٌ جديدٌ أو قُل مُختلفٌ في السّرد السِّيريّ.
وأضاف العتوم أن رواية السّيرة إذا كان روايها صاحب منهجٍ ثوريّ وحياةٍ متقلّبة – كما هي حالةُ سيف – فإنّه لا يقبل بالسّلطة الحاكِمة الرّاغمة، وهي إشكاليّة المثقّف والسّلطة، وعليه إذا أراد أنْ يكون صادِقًا مع نفسه ومع التّاريخ أنْ يصطدم بهذه السّلطة الّتي لا يعترفُ بها ولا تعترفُ به:"ذلك أن تحدي خطاب السلطة قد تخرج منه بنياشين الفروسية والشهادة أما نقد الخطابات الإيدولوجية والشعبية فقد يوزع دمك بين القبائل السياسية والفكرية فلا تدري على أي جنب تميل. فمن قال إن عدو عدوي صديقي بالضرورة؟!". ص16.
وأشار العتوم إلى شهادة سيف عن محمود درويش في أكثر من مكان مثل "موقف درويش في قصيدته: (سَجّلْ أنا عربيّ)"، "تحليل شخصية درويش  من جهة نظر سيف"، "نفسيّة محمود درويش"، قائلا:"فكان شعره منه ومنّا، وله لنا، وكان كلامه خارج الشعر منه ومن الحزب، وله وللحزب. فبقي الأول كعادة ما تبدعه الروح وذهب الثاني على عادة الريح العابرة"، ص251...."شعراء المقاومة كان شعرهم متوهجاً في ذاته ولكنا كذلك أسقطنا عليه وهج المقاومة فزاده ذلك ألقًا، ولكنه مالبث أن صار عبئًا عليهم كشأن الحب القاسي الذيقد يُسرِفُ في المنح ولكنه كذلك يحدّ من انطلاق الذات ونموها ونضجها. ص 253.
وعن علاقة سيف بالمخيم رأى العتوم انه نجح في الوصف، حتّى لكأنّه في هذه المقارنة كان يُؤسّس – كابن خلدون – لنظريّة المجتمعات وطبائع تصرّفها، وساقَ ذلك بلغةٍ ماتعة، ووصفٍ دقيق، يقول: "ها هو المخيم الذي يُجاورنا، والذي تفتّح وعيي على عذاباته منذ مطالع الخمسينات فصار عنوانًا لمأساة شعبي ووطني، وظل مستودع الذاكرة الجمعية الفلسطينية وحارسَها وحاضنة المقاومة. وما يزال منذ كان الشاهد والشهيد"، ص82، "بلى، بين المخيم وأهل المدينة مسافة بطول مسافة العودة والشارع الضيق الذي يفصل بينهما وتقطعه في بضع خطوات هو الفاصل بين عالمين متفاوتين"، ص83، "إياك ومخالطة أبناء المخيم فتفسد أخلاقك"، ص83.
كما تحدث العتوم عن الحُبّ الأوّل في هذه السيرة حيث يقول سيف "كنت في السادسة أو أكاد. ومع ذلك شعرت بشيء غامض يجذبني عاطفيًّا إلى فتاة في مثل عمري من رفاق الروضة! لا، لم يكن ذلك من باب الرفقة الخالصة التي تنشأ بين الأقران منذ المراحل العمرية المبكرة.. لا لم يكن انجذابي إلى الصغيرة (شفيقة) في تلك الروضة انجذاب الاقران حسب، ولي غني في صحبة الاقران الذكور، بل كان من نوع انجذاب الذكر إلى الأنثى, ذلك الذي ركبه الله في الفطرة التي فطرعليها الناس، او لأقل – إن شئت- في كتاب الجينات..". ص64.