|
عرار:
نعترف بداية أننا مقصرون إلى حدّ ما في دراسة الأدب الأردني شعراً ونثراً، وأننا لم نمنحه ما يستحقه من ثراء ودهشة، فكيف بنا أمام الأدب الأردني في المهجر؟! لقد أهملنا بقصد أو بغير قصد كثيراً من الأسماء في داخل الوطن، وبالتالي نسينا كثيراً ممّن هم خارجه. إنّها حقيقة باتت واضحةً لكلّ من يتابع الشأن الثقافي في الأردن، انتصرنا للآخرين، ونسينا أو تناسينا أنفسنا. ليس من مرارة أكبر وأشد وقعاً على النفس من إنكار الذات، وجلدها تحت تأثير الحداثة، ومتابعة قضايا العصر، والنزوع وراء شهرة زائفة، أو خدّاعة في كثير من جوانبها. على غرار ما حققه الشعراء العرب في المهجر وعلى وقع أشعارهم الوجدانية يمكن الحديث عن أدب أردني في المهجر؛ لتوافر عناصره من شعراء مجيدين، وشعريّة واضحة في كثير من قصائدهم، التي تطرح قضايا إنسانية، تعكس قيماً روحية وتأملية واضحة، وتنبض بحب الوطن والشوق للاتحاد فيه. لذلك فإن إنشاء ملتقى خاص بالأدباء الأردنيين في المهجر بات ضرورة ثقافية وإبداعية ؛ للاهتمام بإبداعهم، وإحساسهم بأنهم جزء لا يتجزأ من المسيرة الوطنية في كافة مجالاتها وبخاصة الثقافية منها. يمكن رصد إبداعاتٍ أدبية مهاجرة منذ وقت مبكر، بعدما أسس الأديب عيسى الناعوري( 1918 ـ 1985) لبداية قوية تعدّ حلقةَ وصلٍ واضحة تربط الأدب المهجري بالأدب الأردني، تُعرّف المبدعين في الأردن بالأدب المهجري وأعلامه من الأدباء العرب فكان كتابه القيّم» أدب المهجر» عام 1959م الذي بيّن من خلاله دعائم وأعلام الأدب العربي في المهجر. ثم كتابه « نظرة إجمالية في الأدب المهجري» عام 1970 وكتاب « مهجريات» عام 1974، فضلاً عن ترجماته لروايات من الأدب الإيطالي، فضلاً عن كونه مؤرخاً أدبياً وناقداً وشاعراً وروائياً، أصدر رواية» مارس يحرق معدته» عن دار المعارف في مصر عام 1955، وكاتب قصة، له أربع مجموعات قصصية تدور كلها حول المأساة الفلسطينية، ومترجم، وكاتب مقالة، له رواية « بيت وراء الحدود» نشرها عام 1959م، و رواية» ليلة في القطار « المنشورة عام 1974م، ممّا أسهم في إحداث مقاربة حضارية بين الشرق والغرب من خلال الأدب. لعلّ حسن بكر العزازي ( 1936 ـ 1983) من أوائل الأصوات الشعرية المهاجرة إلى أوروبا( هولندا) أصدر ديوانه « عيون سلمى» عام 1983م الذي اشتمل على قصائد غزل جميلة بمعشوقته « عمّان» وحنيناً جارفاً لوطنه الأردن. ومن الأسماء الشعريّة المهاجرة التي تستحق الدراسة سرحان النمري الذي يُعرّف بنفسه دائماً بأنه شاعر عربي المنبت، أردني الهوى، يقيم في أمريكا، حافظ على حبل مشيمته مع الشعر والثقافة والحرف العربي، أصدر مجموعات شعريّة هي:» حديث اللوز والدفلى عام 2013، و» بقايا زمان» عام 2013م، وفي عام 2017م أصدر ديوانين شعريين هما:» وجع الهديل» و» البعيد المشتهى». عيسى قنصل المولود في مادبا عام 1946م من الأصوات الشعرية المهاجرة إلى أمريكا، استمر في كتابة الشعر لحنينه واعتزازه بوطنه، أصدر في الشعر:» بين يديك مادبا» عام 2012م، و» مادبا سيدتي الجميلة» عام 2015م، و» تمردي في روحي» و» دمعة شاعر» عام 2016م. وأصدر عام 2015 مجموعة قصصية بعنوان» مرايا مهشمة». كذلك نجد الشاعر عيسى بطارسة المولود في جرش عام 1943 يُسهم في تأسيس المنتدى الثقافي العربي الأميركي في مطلع تسعينيات القرن العشرين مع الشاعر حكمت العتيلي والشاعرة سلوى السعيد، صدر له الدواوين الشعرية:» الآخر البعيد» عام 1993م، و» مَنْ يهزّ الشجر» عام 1994م، و» وجع المسافة « عام 2004م، و» قليل من الخبز .. كثير من الحبّ» و» قبل أن ينتهي الزمان» عام 2011م. لعلّ الشاعرة سلوى السعيد من الأصوات الشعريّة والإعلامية البارزة في المهجر، صدر لها» أغاريد للحبّ والمنفى) عام 1985، و» صرخات على جدار الصمت» عام 1987م، و» اشتعالات امرأة كنعانية» عام 1988، و» نوارس بلا أجنحة» عام 1992م، وغيرها من الأعمال الشعرية المميزة. ولا ننسى تجربة الشاعر أمجد ناصر الإبداعية، وترسيخه لهوية قصيدة النثر من خلال إبداعاته الشعرية في المهجر، وإسهاماته في حقلي الكتابة والإعلام، وإسهاماته في التعريف بالمبدع الأردني في المهجر عبر صفحات جريدة « القدس العربي» الصادرة في لندن. حملت الأصوات الشعريّة الأردنية المهاجرة عشقاً معتقاً للوطن، ووجداً صادقاً، وفيضاً من المشاعر الجياشة لوطن لا يغيب عن أذهانهم، عاطفة وخيال ورقة وإحساس مليء بالشوق لوطن معشوق. النزعة الإنسانية، والحزن على فراق الوطن، فضلاً عن اللجوء إلى التأمل فراراً من صخب الحياة من الملامح المميّزة لتجربة الشعراء الأردنيين في المهجر. من الناحية الفنية فإن السهولة والوضوح والحلولية في المكان، والإحتفاء بالطبيعة، وعفوية الصور من أوضح السمات الفنية لأشعارهم. تبقى لتجربة الشعر في المهجر خصوصيتها وألقها ووهجها، فمن رحم الشوق والحنين ولدت ومن أعذب الكلمات تُصاغ وبأرق العبارات تتوهج المعاني في قلوب المتلقين. فهو استجابة لانفعال عاطفي واختمار فكري، وروحي وانعكاس لرؤية جمالية تحقق إضافةً نوعيّة مهمة لحركة الشعر في الأردن. الصوت الروحاني قوي، وهو صوت صافٍ عذب يُذكرنا بأبي القاسم الشابي، وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وغيرهم. سمة مهمة في أشعارهم تتمثل في النزوع التأملي فضلاً عن اهتمامهم بالطبيعة، وتقديسهم لها، وامتزاجهم بها، فهم يعزفون على وتر الغربة والحنين إلى الوطن، ويعلنون تشبثهم بالجذور بلغة عاطفية تخترق القلوب. نقرأ لكوكبة رائعة من شعرائنا في المهجر صهرت تجربة الغربة تجربتهم الشعريّة فضلاً عن تفاعلهم مع المثقفين العرب في المهجر وسطوع إحساسهم بالمواطن العربي وهمومه. هذا اللون الشعري لا نكاد نعثر عليه إلا عند الشعراء المهجريين، فهم مؤثرون في مسيرة الشعر، وهذه النغمة العاطفية لا نعثر عليها إلا عند مَنْ فارق الوطن، وعاش في بلاد بعيدة وبين شعوب مختلفة في الدين والفكر والثقافة. إنّ تشكّل نمط وجداني عميق هو أثر لهؤلاء الشعراء، فكلماتهم مشحونة بلغة خاصة، ووجد خاص، ممّا يُحتّم علينا النظرة لأدب المهجر من زوايا مختلفة: نفسيّة واجتماعية، وتعبيرية. وإن كانت اللغة والصور والاستعارات محكومة بالجانب النفسي الانفعالي، فالفكر والعاطفة موجهان للممارسة اللغوية، وقادران على صياغة وجدانية مؤثرة في الآخرين. إنّ التشكيل اللغوي للذات يقود إلى تشكيل عاطفي مهم زاخر بالعنفوان والحيوية. لعلّ بروز الروح العربية والذات الشرقية العربية الأصيلة سمة واضحة في هذا الشعر، روح تحن إلى الوطن وتتمنى لقاءه. إذ تتبدّى الأنا الشاعرة المنفردة في علاقتها بالواقع وقضاياه. الاتجاه الرومانسي واضح في أشعار المهجريين، وهو اتجاه ينحاز إلى التواصل الجمالي مع المتلقي؛ ليحمل في ثناياه تفضيلاً لحقل الطبيعة، وسياقاته الدلاليّة، التي تعتمد على التشخيص، وتكوين الصورة المركبة التي جعلت لغة الديوان تميل إلى تصعيد الخطاب الوجداني مع المتلقي، وتعبّر عن حالة وهج وجداني، يحتفل بالأنوثة ومفرداتها؛ فالأنثى غواية، والطبيعة كذلك، فضلاً عن كونهما مصدراً مهماً للإبداع، وقيمة جماليّة وفنيّة حاضرة بقوة. فالكلمات لم تعدّ وسائل اتّصال حياديّة المعنى، بل صارت ذات دلالة إيحائيّة، وذلك بحضورها المادي المجسّد القادر على التشكيل البصري للكلمات، وجعلها ذات أبعاد روحيّة خصبة، تؤجج المشاعر، وتحمل المتلقي إلى اكتناه أسرار الأنوثة، والنعيم بعالمها الساحر. يحملنا ديوان «وجع الهديل» للشاعر الأردني سرحان النمري إلى أشواق الشاعر المهجري لوطنه العربي الكبير، والأردن قلبه النابض بالحياة، فأيّ وجع ذلك الذي جعل الهديل يبعث ألماً، وحزناً؟ وأيّ وجع هذا الذي تمنحه الحياة للحمام؟ وأيّ وجع ومنطق يحكم إضافة الوجع للهديل؟. سرحان النمري صوت مهجري يحن للوطن العربي بأسره، فشوقه يصل إلى الخليل ويعانق العراق دون أن ينسى مسقط رأسه عجلون، حنين ممزوج بألم وحلم مكمم بالحزن، لما آل إليه حاله كما في قوله (ص 21): يا راصد الحدودْ/ يا جاحداً حَقودْ/ كلّ اللذينَ هاجَروا/ عَادوا وَلن أعودْ/ عادوا وَلن أعودْ. لعلّ محبة الوطن والحنين إليه واضحة، في ديوان» وجع الهديل» ممّا سمح ببعث عواطف الشاعر وارتداده إلى جذوره التي يعتز بها جاعلاً منها قوة باعثة للحياة، لما يبعثه ابتعاد الشاعر عن وطنه من حنين حاد ومؤرق يزخر بحبّ نبيل تشعله أحداث الحياة القاسية. الشاعر أسير غربته وحبيس أحزانه، بعدما أوقدت الغربة وجده، وغلفت شعره سحابة من الحزن واليأس والإحباط إمعاناً بفقدان الهديل لفاعليته وطغيان الوجع وانتشاره بفعل الغربة، فكيف يمكن قراءة العنوان جماليّاً؟. عند تفكيك العنوان، نجد أن كلمة (وجع) تشكّل بؤرة مركزيّة في قصائد الديوان بوصفها تعبيراً عن مكنون نفسي ذي وقع لا يمكن تجاوزه، لكن صدمة التلقي تبدو واضحة بإضافة الوجع إلى كلمة ( الهديل) وهو صوت الحمام رمز الحبّ والسلام، ممّا يصعّد من حالة التلقي، ويجعلها أكثر بحثاً عن إيجاد موائمة معنوية تحمل هذا التركيب اللغوي الصادم للفكر الباعث للوجدان. لا تلبث هذه الصدمة الطارئة أن تتلاشى تدريجياً مع البدء بقراءة قصائد الديوان، لما يلمسه المتلقي من حالة نزف وجداني، وحزن مقيم نتيجة غربة قاتلة يحياها الشاعر. يقوم عنوان» وجع الهديل» على تضاد لغوي فضلاً عن انزياح إضافي؛ فالوجع يتعرّف بالمضاف إليه (الهديل) ليغدو من لوازم الهديل متخليّاً عن دلالته المعجمية تعبيراً عن فقدان الهديل لفاعليته. إنّ ديوان « وجع الهديل» صرخة مدويّة في فضاء الشعر، عميقة الجذور؛ لفداحة أثر الغربة وشدة فتكها بالروح والجسد معاً، فبقدر وجود الوجع وانتشاره في الجسد الحيّ، فإنّه عندما يرتبط بالهديل يرصد انتكاسة الكينونة وانسحابها من الوجود، ليحلّ الحزن بوصفه نشيد الموت وعنوان الضياع. لقد وفّر سرحان النمري من خلال عنوانه فاعلية نصيّة عالية للمتلقي فضلاً عن الوظيفة الشعريّة وهيمنتها من خلال انزياح إضافي يُضفي لحالة عشقيّة لوطن لا يكاد يُفارق وجدان الشاعر وخياله؛ ليلوذ بالفضاء الجمالي، ممّا جعل عنوانات الشاعر لقصائده تتسم بالحداثة، وتفيض بالوجد الصادق. لعلّ الوجد الصادق للوطن الذي يبعثه الديوان جعل الصور الشعريّة تتفجّر شوقاً له، وسمح بحدوث انزياحات لغوية تقود إلى عناق أبدي لوطن لا يفارقه، كما في قصيدة (زائرة المساء) التي يقول فيها( ص23): «أرْوي رِمالَ الفؤاد الضّامئاتِ ولا/ تُروى الرّمالُ بِنَزْفِ العِشْقِ والسّمَرِ/ قَسَتْ عَليّ الغَوالي غَيْرَ حَانيةٍ/ وَحْدي أُسامِرُ ليلي، لَيْلَ مُنْكَسِرِ/ يا نَجْمَةً في مساءِ الرّوحِ هَائَِمةً/ ألسْتِ وَعْداً وخَطَّ البدءِ في القدرِ». الشاعر المهجري عيسى قنصل تجربة شعريّة تستحق الوقوف على تفاصيلها؛ فهو عاشق للوطن، شديد الحنين إليه، يرتدّ إلى طفولته البريئة فيه بعيداً عن انكسارات الواقع، يتمسك باللغة العربية بتعابيرها القوية وصورها المدهشة. في ديوانه» دمعة شاعر» نقرأ شعراً رومانسيّاً مليئاً بالشكوى والأنين، وزاحراً بتصوير آلام الغربة ومعاناة الحياة، عمّق منها موت زوجته التي أذكت نار الوجد في فؤاده، وأغنت قصائده بأعذب المعاني، يقول في قصيدة « دمعة شاعر حزين»( ص69): «دعوني أرتدي الأحزان عمراً/ وأمشي عارياً بين الحضور/ فرائعتي غدت جسداً بقبرٍ/ ورقماً حائراً بين القبور/ فلا ثغرٌ يناديني صباحاً/ ولا وجه حوى أبهى العطور/ وثانيتي كمشنقةٍ لعمري/ حبالُ الوقتِ قائلةٌ شعوري/ نهادُ إنّني وجعٌ رهيبٌ/ فراغُ العمرِ خاتمةُ المصير». يجد الشاعر في دموعه ما يرفد رومانسيته، ويزيد شكواها، إذ لا يخفى أثر الدموع في التأثير ونقل المشاعر للآخرين. فالديوان قصائد رثاء للزوجة، ممّا يشكّل نماذج مهمة لهذا الفن من فنون الشعر. ولمّا كانت تجربة الفقد في جوهرها واحدة، فإنّ ما يصيب المحبين من جفوة أليمة، وفراق قسري، يشكّل حالة فقد خاصة، تنبض بالهجر، وتشعّ برغبة جامحة في الموت، والاتحاد بالطبيعة، حيث الخلود والخلاص الدائم. وهذا جعل الرثاء يتولّد في حالة فقدان العلاقة العاطفية بين المحبيّن، أو حينما يفقد أحدهما الآخر بالموت، مما يشكّل خواءً عاطفياً، وخيبة أمل شديدة . دمعة شاعر ديوان حافل بالحبّ والحزن والرومانسية والألم معاً، يظهر في شعره الانفعال بالطبيعة وكلّ مظاهر الجمال فيها والشعور بالغربة في مجتمع مادي فضلاً عن إظهار عواطفه الإنسانية. ممّا يُبرز عمق أصالته وتجربته ودعوته إلى اللقاء بالأحبة في وطن لا يُفارقه. إنّ الحزن في سبيل الوطن وللوطن سمة واضحة في قصائده، إذ يشع بمعانٍ وجدانية وغزل شفيف، يتخذ سمة التوهج العاطفي غناءً وبكاءً، يفرح ويحزن، ينادي ويُناجي، يهدأ ويثور، لكنه في النهاية يستسلم لوطن معشوق. يظهر تأثر الشاعر بخليل مطران وجماعة أبولو، حيث الاتجاه إلى النزعة الوجدانية التي تجعل من شعره معيناً لا ينضب للوجد الشفيف، نلمس في ألفاظه رقة عاطفية، وشعوراً بحبّ دافق وحزين. فالشعراء يختلفون في إحساسهم بالكون وعواطفهم، ممّا ينعكس في معجمهم اللغوي وصورهم وأفكارهم، فهم ليسوا جميعاً سواء في الإحساس والشعور، ممّا جعله يتلذذ بالصبر، فجسّد مشاعره وكثف أحزانه، جاعلاً الصبر نتاج معاناة قاسية للغربة وفقدان الأحبة. مصدر : جريدة الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 21-04-2017 09:11 مساء
الزوار: 917 التعليقات: 0
|