عرار:

مع كتاب معين الطاهر "تبغ وزيتون ـ حكايات وصور من زمن مقاوم" ــ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017 ــ  يمكن الإحساس بوجود رثاء من نوع ما، لزمن كان مقاوما، استطاعت الثورة الفلسطينية خلاله، في صراعها مع الاحتلال، ومن يعزّزون وجوده، أن تنتج شخصيات روائية، واجهت الواقع بشجاعة خالصة، وإن لم يستطع الروائيون الفلسطينيون، والعرب، الذين عايشوا الحالة، واندمج بعضهم فيها،(وما يزال بعضهم الآخر يستثمرها جيدا)، أن يلمسوا ــ في كتاباتهم ــ صور هذه الشخصيات، وما فعلت في أوقات المواجهات الحقيقية، وكيف ركزت على هدف أساسي وحيد، هو مقارعة الاحتلال، والعمل من أجل تحرير البلاد، بكل التضحيات الممكنة، مع تمسك تام  بالثوابت التي تتعلق بالأرض وبالتاريخ.
الشهيد علي أبو طوق
شخصية الشهيد "علي أبو طوق"، التي يمتدّ حضورها طويلا في الكتاب، بما يناسب حضورها في النضال على المستويات والجبهات المفتوحة كلها، قد تكون نموذجا مناسبا يمكن أن يشار إليه، ممثلا للنماذج الأخرى، التي خاضت نضالها الشرس في سبيل ما نهضت من أجله، ولم تزغ منها العيون نحو مكاسب شخصية أو وقتية، أو تهتزّ القلوب أمام مخاطر تتضاعف يوما بعد يوم.
الشخصية مؤسِّسة وقيادية في كتيبة الطلاب، التي حملت بعد ذلك اسم "كتيبة الجرمق"، إحدى أبرز كتائب الثورة الفلسطينية منذ تشكلت، وإحدى الكتائب التي سجلت أروع صور البطولة خلال معارك امتدت على طول لبنان، مع حربه الأهلية، وإن كان هدفها الحقيقي بقي ثابتا، وهو مواجهة الاحتلال من أقرب نقاط التماس المتاحة معه، في الجنوب اللبناني.
حياة "أبو طوق"، كما يرويها رفيقه مؤلف الكتاب، تبلغ حدود المثالية في ما يجب أن يكون عليه الإنسان الثوري، في عدد كبير من السمات، قد يكون أوسعها صيتا هو الجرأة عند المواجهة، لكن بقية السمات الإنسانية لا تقلّ عن ذلك أهمية، وفي مقدّمتها القدرة على التعامل مع المجتمع الحاضن، لتحظى الثورة بالاحترام والمساندة، إضافة إلى الغيرية، وعدم الاستئثار بالمكاسب، أو حتى البحث عنها، وبذل كل الوقت والجهد في التركيز على الهدف الأساسي، وعدم تشتيت الجهود خارج هذا الهدف، إلا حين يتصل الأمر بحماية الثورة.
ربما كانت أكثر الشهادات التي يوردها الطاهر عن الشهيد "أبو طوق" حميمية وصدقا هي التي جاءت على لسان رفيقة دربه آمنة جبريل، التي تشهد أنه "حتى اليوم، إذا تشاجر شخصان في المخيم، ولم يفلح الجهد لوقف المشاجرة، يكون الاستنجاد بـِ"رحمة علي" كافيا لإنهاء الشجار فورا" ـ ص 291؛ وذلك بسبب مساحة الحبّ الذي زرعه عليّ الإنسان بين سكان مخيم شاتيلا، فاحتفظ له السكان بهذا الحبّ، حتى بعد رحيله بسنوات طويلة.
يقدّم الكتاب عن "أبو طوق"، ورفاق دربه في الكتيبة، تفاصيل لها أهميتها، توسّع كثيرا ــ ومن مصدر خاض التجربة قياديا في الكتيبة، إلى جانبهم ــ ما أشارت إليه ثلاثة مصادر سابقة أعرفها عن التجربة، لأنه يقدم هذه التفاصيل بدقة شديدة (قد تصل حدود الإحصاء)، وبكثير من التوثيق (الكتابات الأصلية والصور)، ومن مواقع الأحداث التي خاضها في الغالب، وبموضوعية واضحة، وكثير من التأمل الذي يفسر النتائج أو ينقدها، دون التخلي عن وجهة النظر الأساسية التي ينطلق منها، والتي تتساوى مع وجهة نظر الكتيبة، حول أولوية الكفاح المسلح، في كل ممارساتها.
قلعة الشقيف
وإذا كان "أبو طوق" هو الشخصية ــ المثال في هذه التجربة، فإن معركة الدفاع عن" قلعة الشقيف" ( ص 202 ـ ص 219)، في وجه الاجتياح الإسرائيلي، تقدم مثالا على المعارك الملحمية التي خاضتها هذه الكتيبة، ومن يؤازرها، في مواجهة العدوان. وإذا كان هناك ما كتب عن الشقيف من قبل (وبعضه كتبه العدوّ، وتطرق إليه الكاتب)، فإن ما ورد في الكتاب يضيف إلى ذلك كثيرا، وفي هذا المجال لا يكتفي بالشائع مما قيل، ولا يميل إلى التخيل أو الحماسة، ولكنه يمرّ بدقة على تفاصيل الاستعداد، بهدف تحويل قلعة قديمة مهملة (رغم رمزيّتها العالية) إلى حصن قادر على الصمود طويلا، أمام هجمة شرسة، لتكبد المحتلين خسائر لا تنسى. ومن أجل هذه الدقة في التصوير،  يمرّ الكاتب على المصادر المختلفة التي كتبت عن المعركة، ويترك للقارئ أن يقدّر ما كانت عليه التضحيات فيها، بل ما كانت عليه بطولة المقاتل الفلسطينيّ أيضا (والعربيّ المشارك فعلا)، كما يضيف إلى ذلك حديدا لم تقله مصادر أخرى: لم يستشهد  المقاتلون الذين دافعوا عن القلعة جميعا، فقد استطاع النجاة أربعة منهم.
تفاصيل أخرى
ركّز الطاهر في كتابه على وصف المعارك الكثيرة وتفاصيلها، في لبنان، وداخل الأرض الفلسطينية المحتلة، قبل الحرب الأهلية وخلالها، وقبل الاجتياح الإسرائيلي وخلاله، ثمّ بعد ذلك أيضا. وكمقاتل محترف ومسؤول، جاء بتفاصيل لا يستطيع أن يجيء بها إلا من كان في موقعه، بعضها يذكر لأول مرة عن الاجتياح نفسه، وعن حرب المخيمات وطرابلس والشخصيات التي قادت الانتفاضة بعد ذلك، والمواقف السياسية المتنوّعة، ومع ذلك، فإن عينه لم تغفل عن العامل الإنساني في كل الأوقات، إيجابا كما يمارسه الثوار المخلصون لقضيتهم، وسلبا حول التجاوزات التي ترتكب خلال ذلك. وكان النقد الذي وجه إلى بعض الممارسات والتوجهات، قاسيا جدا في كثير من الأحيان، ما يشير إلى الموقف الفكري الصلب الذي اختاره الكاتب من خلال انتمائه، وهو ما جعله يتوقف عند الحدود التي رأى فيها تنازلات لا تليق بالثوار.
ولعلّ أبرز ما يلفت النظر في الكتاب، ما تحدث فيه الطاهر عن عمليات غير معروفة، قامت بها الكتيبة بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. وهو يرى "أن هنالك قفزة كبيرة عن هذه الفترة، وكأن بعضهم يصاب بالحرج عند الحديث عن مقاومة ضارية ضدّ العدو بين عامي 1982 و1983 " ـ ص 242.
هذه العمليات كانت نوعية ومدوية، ومربكة للاحتلال، سواء أكانت وراء خطوط العدو، أو في العمق الفلسطيني. ولذلك حظيت باهتمام كبير من الكاتب، وحرص على تقديم تفاصيل غير معروفة عنها، لأن صورتها في الإعلام لم تكن كما يليق بها، خصوصا بعد رحيل منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.
وجاءت في السياق نفسه محاولات جادة، لا تكاد تكون معروفة، لاستعادة الوجود الفلسطيني العسكري في لبنان، خصوصا في جنوبه، وهو الوجود الذي ساهم بقدر كبير في تأهيل المقاومة الوطنية اللبنانية ضدّ الاحتلال، وكان يمكنه أن يكون أكثر تأثيرا، لولا القرار المركزي بضرورة اللحاق بمسيرة الحلّ السلمي، الذي ظلّ يواجه بمقاومة إسرائيلية كان تأثيرها حاسما في مؤتمر مدريد. ومثل هذا القرار، أو التوجه لا يحظى بقبول المؤلف، خصوصا ما تجسد منه في آخر الأمر، على شكل اتفاقيات أوسلو. 
حكاية لم تروَ
وفي باب تسجيل حقائق غير معروفة عما كان غامضا من عمليات مقاومة، قدم المؤلف "حكاية لم ترو"  حول "سرايا الجهاد"، التي قامت ببعض العمليات النوعية داخل الأرض المحتلة، وهي عمليات ادعت بعضها فصائل فلسطينية لم تربطها بها علاقة. وفي هذا الشأن أشار إلى أن السرايا كانت وليدة امتداد لتيار يساري داخل حركة فتح، نما في حضنها، ولم تكن فصيلا مستقلا. وهو تيار أساسيّ في الحركة، رفض التراجع عن خط الكفاح المسلح، ومنه انبثقت كتيبة الطلاب، واللجان الوطنية بعد حرب الخليج. وقد اختلف هذا التيار مع حركته الأم لدى سعيها إلى المشاركة في التسوية، واختار أن يكون في الموقف الأصعب، حين ربط النظرية بالممارسة العملية. أما سرايا الجهاد، فقد كانت منفتحة على التوجه الإسلامي، وقد انتهى وجودها كليا باغتيال قيادتها الثلاثية في قبرص 1988.
زمن الغياب
تستند مادة الكتاب في غالبيتها إلى ما كان مؤلفه شاهدا له، وفاعلا فيه، وفي قليل منها على مصادر أخرى، ما يمنح شهادته كل هذه المصداقية. لكن الكاتب تعرض لإصابات استدعت غيابه عن بعض الأحداث المهمة، بسبب العلاج، ففاته الحديث عنها بالدقة عينها. وقد يكون هذا الغياب مبرِّرا لغياب النقد الذي يخصّ تجربة إخلاء الجنوب بسرعة، ودون مقاومة تذكر، عند الاجتياح الإسرائيلي، رغم أن المقاومة أكدت طاقتها خلال حصار بيروت بعد ذلك. هذا النقد كان قاسيا داخل الحركة، خصوصا من القيادات العسكرية الشابة. وقد سمعت كثيرا منه خلال زيارة لمعسكر القوات الفلسطينية في عدن، كعضو في وفد المنظمات الشعبية الفلسطينية في الكويت، حين اشتد الحوار بين الزعيم ياسر عرفات وعديد من الضباط الذين ثبتوا في أماكنهم، عند مدخل بيروت، وعابوا على آخرين الهروب. كان الضباط غاضبين، وكانت روح التمرد لديهم واضحة، وربما كان ذلك مقدمة للانتفاضة التي جاءت بعد ذلك؟
الصورة التي يقدمها الكاتب للانتفاضة (الانشقاق حسب تعبيره) تحتاج إلى نقاش. المعروف عن قادتها أنهم كانوا جزءا من يسار فتح، مثل مؤسسي الكتيبة، وأنهم أرادوا تغييرا أو تقييم تجربة أو نقدا ذاتيا، حتى بعد تجربتهم في الأردن، وظلّ هذا المطلب يتأجل. الكتاب يقدّم انطباعا متناميا حول نوع من النزعة الاستقلالية (أو الفردية) لدى بعض أشهر هؤلاء القادة، منذ البداية، دون أن يشكك في وطنية أحد، وبذلك يوحي بنزعة انفصالية لديهم، حتى خلال مواجهة العدو. في هذا الموضوع، كان الحديث عن السلبيات مفصلا، بعكس إشارات عابرة سبقت عن سلبيات أخرى خلال المسيرة، ساهمت في تمكين أعداء الثورة من الوصول إلى أهدافهم في ترحيلها. ويبدو أن هذا الموقف انسحب على كل علاقة بسورية، منذ الصدام على أرض لبنان، وإن كانت الجذور تعود إلى ما قبل ذلك.
حرب الخليج و"أوسلو"
ويمكن مناقشة الكاتب في وجهة النظر التي أوردها حول موقف منظمة التحرير من حرب الخليج الأولى، التي شكلت كارثة ممتدة على قضيتنا المركزية.. إن موقف الكاتب، الذي يقع ضد الانحياز إلى العراق، واضح تماما، لكن تفسيره لموقف القيادة الفلسطينية لم يكن كذلك. بعد زيارة الكويت من أجل الوساطة التي فشلت، كان عرفات في حالة من الغضب. لا مثيل لها. لم يكن داخليا مع غزو العراق للكويت، مع ذلك قال قبل الحرب مباشرة، وبصوت واثق: لا حرب، لا حرب. وفسر سلوكه بأنه مع الاحتلال. وكان كل من احتك بالقضية يعرف جيدا أن الحرب على الأبواب، لأن الولايات المتحدة، عاشقة الحروب في هذا الزمن، لا تحشد كل هذه الجيوش من أجل الاستعراض، وهي لم تكن تسمح لقوة إقليمية بأن تزداد سطوة، ولا بأن تسيطر على واحد من أهم مصادر الطاقة في العالم.
خرج عرفات من لقاء الكويت وهو يغلي، لأنه سمع ما استخفّ بوساطته، وخروجا عن موضوعها. جلست معه طويلا بعد عودته من اللقاء، ولم يكن ـ في مرارته ـ  ذلك الزعيم الذي أعرف: فهل تدخل العامل الشخصي في موقفه، أم أن ظروفا أخرى سحبته إلى ذلك، كما فعلت مع زعماء آخرين؟
كما يمكن الإشارة إلى الحديث عما بعد أوسلو: موقف الكاتب رافض للنتائج التي خرجت من الاتفاقيات، وحين حاول، إخلاصا لقضيته، أن يجد بديلا، يتداعى مع زملاء معنيين إلى تأليف "هيئة وطنية للحفاظ على الثوابت الفلسطينية"، عقدت مؤتمرها الأول في دمشق، في تناقض مع ما ورد من قبل من رأي سائد في المواقف، ما يعني أنه لا ثوابت في السياسة، وربما يفترض ذلك في الباحث أن يجد عذرا ما، أو تفسيرا، للموقف الذي لا يتفق معه.
هذه الملاحظات المقبولة إنسانيا، خصوصا في قضية يخشى أن تضيع البوصلة نحوها، بسبب عديد من الظروف، لا تؤثر على قيمة الكتاب، ولا صدقيته، ولا تخفض من مستوى الأمل الذي يستمرّ الكاتب في التمسك به، والذي يعبر عنه في فقرة تلخيصية: "ما زالت قناعاتي بشأن القضية الفلسطينية كما هي، وما زلت مؤمنا باستحالة أي حلّ مرحلي أو جزئي نظرا إلى طبيعة الكيان الصهيوني، كما أن إيماني بحتمية النصر.. لم يتزعزع يوما، وهو نابع من اقتناعي بأن فلسطين قضية قومية، وهي ملك للأمة العربية كلها" ـ ص333.