قال د. هشام غصيب إن الإمبريالية ليست معنية بالهوية، وإنما معنية بالقوى الاجتماعية الفاعلة على الأرض، وفي مقدمتها الدولة السياسية، وتسعى إلى تفكيك الدول المستقلة وتقويض سيادتها بما يضمن خضوعها لمشيئتها، وخضوع مواردها المادية والبشرية لها.
واضاف غصيب في المحاضرة التي القاها أول من أمس في منتدى عبد الحميد شومان بعنوان "العولمة وأثرها على مفهوم الهوية"، وأدارها د. ماهر الصراف، أن مفهومي العولمة والهوية لا يفيدان في فهم ما يجري، وإنما يبدوان مضحكين وكاريكاتوريين في ضوء هول أحداث اليوم.
خطاب العولمة، هو خطاب أيديولوجي لا يضيء الواقع بقدر ما يحجبه ويزوره، بحسب المحاضر، وهذا الخطاب عالميا نشأ بصورة مفاجئة عقب انهيار المنظومة الاشتراكية الأوروبية في العام 1989، وقبله ساد خطاب التنمية والاستقلال والتحديث، وجاء خطاب العولمة تعبيرا عن شعور الغرب بنشوة الانتصار على المعسكر السوفييتي، كان خطاب نشوة واحتفال أكثر منه خطابا معرفيا واقعيا.
ورأى غصيب أن خطاب العولمة أوحى أن الرأسمالية تخطت ذاتها نحو نظام عالمي جديد يتضمن كل حسنات الرأسمالية التي طالما تغنى بها خطاب الحرب الباردة ويتجنب كل سيئاتها ومآسيها، وأن هذا النظام هو نهاية التاريخ، وأنه نظام الرفاه والتقدم التكنولوجي الباهر، وتعبير مباشر عن ثورة المعلومات والاتصالات، ونظام الحرية المطلقة وحقوق الإنسان، وأنه يخلو من أزمات الرأسمالية التقليدية.
واوضح أن بعض اليسار ردد هذا الوهم القاتل، فلم نعد نسمع بالرأسمالية والإمبريالية وتدهور مستوى المعيشة والخدمات، وشكل هذا الخطاب أساسا واضحا للانقضاض على الدول المستضعفة والجماهير الكادحة ولخوض الحروب الاستعمارية التدميرية الشاملة.
غصيب اشار إلى أن النظام الرأسمالي العالمي، نشأ وتطور عالميا وقد يندثر عالميا، وهذا يتضح عند قراءة بعض الادبيات الثورات في التاريخ، ودخل النظام الرأسمالي العالمي مرحلة الإمبريالية، التي تحدث عنها هوبسون وهلفردنغ ولينين ولوكسمبورغ، منذ 1870. وما يزال في هذه المرحلة، وإن تسلسل في سلسلة من الأطوار الإمبريالية.
ورأى المحاضر أن الطابع الإمبريالي العدواني للنظام الرأسمالي العالمي تعمق وتعزز مع تطور الرأسمالية، ولم ينحسر بتاتا، وهذا يقودنا إلى مفهومي الرأسمالية والإمبريالية. فالأخيران يتيحان لنا المجال لإضاءة الواقع ورؤيته بحركيته وتغيره، في حين أن مفهوم العولمة يساهم في حجب الواقع الحي عن ناظرنا وبصيرتنا لصالح رؤية أيديولوجية مسطحة ومرتبة.
وتحدث المحاضر عن أبرز سمات الإمبريالية والرأسمالية هي "الاحتكار والاحتكارات"، ونمت الاحتكارات من حيث الحجم وتنوع الوظائف والنفوذ، ولم تعد الحدود القومية تحد من حركة الرأسمال بأشكاله النقدية والتجارية والاستثمارية، وإنما أضحى العالم كله ساحة لفعله، وهذه الاحتكارات الكبرى تتحكم اليوم بالتمويل والتكنولوجيا والمعرفة والأسعار والأجور والتسويق والإعلام والسلاح والتعليم والعمل، وتتحكم في كل شيء.
يسعى النظام الإمبريالي الغربي، كما رأى غصيب للسيطرة العالمية وتحويل العالم كله إلى ساحة خالية من المعوقات لحركة الرأسمال العالمي وانتقاله من مكان إلى آخر، والاحتكار والسيطرة وحرية الحركة العالمية إذن هي السمات الأساسية للنظام الإمبريالي الغربي العالمي.
واستعرض المحاضر المعوقات التي تواجه هذا النظام وهي: الأشكال التنظيمية للطبقات العاملة في الأقطار المختلفة، القوى الصاعدة خارج إطار الهيمنة الإمبريالية الغربية، الدول العالم الثالث التي تدافع عن سيادتها وحقها في تقرير المصير، لافتا إلى أن الإمبريالية ليست معنية بالهوية في حد ذاتها، وإنما معنية بالقوى الاجتماعية الفاعلة على الأرض، وفي مقدمتها الدولة السياسية، وتسعى إلى تفكيك الدول المستقلة وتقويض سيادتها بما يضمن خضوعها لمشيئتها، وخضوع مواردها المادية والبشرية لها تماما.
وشدد غصيب على أن هذا النظام يحارب الهويات التي تعزز من سيادة الدولة المستقلة ووحدتها وقوتها الذاتية وتماسكها، وتدعم الهويات المفوتة التي تقوض أركان الدولة والمؤسسات العمالية التنظيمية، فالإمبريالية تسعى إلى تفتيت دول الجنوب والدول الصاعدة والمؤسسات العمالية باستمرار.
وخلص المحاضر إلى أن القوة الموجودة على الأرض هي الأساس، وليس الهوية بوصفها كيانا جوهريا دائما، والقوة هي التي تصنع الهوية، والهويات هي تعبيرات عن قوى اجتماعية متصارعة، وهي في النهاية مشروعات لقوى ناشئة أو شائخة، وهذه القوى الدولة السياسية الحريصة على استقلالها وسيادتها، وهذه السياسة التي تتبعها الإمبريالية الأميركية منذ عقود، والمتمثلة بإطاحة أنماط معينة من الأنظمة السياسية، بحجة الديموقراطية بالطبع، وهذا ما نشاهده من تضامن وتحالف بين الدول الصاعدة وبعض دول الجنوب الحريصة على استقلالها، من أجل التصدي للغول الإمبريالي الغربي، الذي ما يزال يتمتع بتفوق مريع على جميع الصعد، الاقتصادي والعسكري والإعلامي.