وينقدُ بنباهةِ فرخِ الطير الحُرّ الذي يحاول بجناحيه اجتياز المدى دونَ حدود أو قيود.
هذا يستدعي من الكاتبِ الذي يتصدى للكتابةِ للطفل أن يعيدَ ترميمَ أجنحةَ الطيرِ داخلَه كي يتاح له ارتيادَ آفاقِ الطفولة المستَكشِفة الباحثة بحرِّيَّةٍ عن الذات والعالم والكون بكلِّ مفرداته. ليسَ هذا فحسب، بل يجدُرُ بالكاتب أن يرى العالمَ بانبهار الطفولة، دونَ إغفال ما استَجَدَّ على عالم طفل اليوم مما لم يختبرْهُ الكاتب في زمانهِ طفلاً، فيُدركُه بجوارحِ الكهل المُتَمَرِّس ولكنه يعيدُ صياغَتَهُ بلثْغَةِ الدهشةِ الأولى.
في مجموعته الخامسة من أناشيد الأطفال، الموسومةِ «أناشيد أسمى»، يخاطب الشاعر إيهاب الشلبي الطفلَ من هذه المنطلقات، فَلُغتُهُ المنتقاة بعناية تُعيدُ للأشياءِ معناها الصافي العذب عذوبةَ بسمة الطفل والتماعةِ عينيه، فهي لغةٌ سهلةٌ رقراقة قريبة تخلو من المباشرة والسطحية والوعورة، ويزيدها ألفةً أنَّ أغلبَ الأناشيد جاءت على لسانِ الطفل ذاتِه وببساطة وعفوية لغته السَلِسَة المحببة، وحتى النشيدَان اللَّذانِ جاءا على لسان راوٍ محايد، يمكنُ القول إن من يرويهما هو طفلٌ أيضاً يريدُ مشاركةَ أقرانه بمعلومةٍ أو فكرةٍ جديدة، دون تعالٍ أو استعراض مَنبوذَين.
تُناسبُ الأناشيد الأربعة عشرة في المجموعة الفئةَ العمريَّة للأطفال من سنّ الخامسة وحتى العاشرة، وقد تنوَّعت عناوينُ أناشيد المجموعة لتتطرق إلى الكثير من اهتمامات الطفل في هذه الفئة العمرية، وامتازت العناوين التي تراوحت بين كلمة أو كلمتين، بقرب دلالتها للطفل، فحين نستعرِضُ فهرس محتويات المجموعة نرصُدُ عناوين من مثل: «أُختي الصُّغرى»، «عُدُّوا معي»، «فَرَحُ العيد»، «لُعبتي الجميلة»، «هالة والبرتقالة»، «البرمائي»، «في المرعى»، «الولد الآلي»، «بيئتي» و»هلال رمضان».
وقد امتدَّت أناشيد المجموعة على ست وثلاثين صفحة من القطع المتوِّسط، ازدانت برسومات مُعبِّرةٍ وموحِية للفنان هاني مسعود، وصدرت المجموعة ضمن سلسلة كتب الأطفال التي تنشُرها وزارة الثقافة اضطلاعاً منها بدورها المهم في رفد المكتبة العربية بأدب الطفل الراقي والجادّ.
تناولت موضوعات أناشيد المجموعة علاقة الأطفال ببعضهم إخوةً كانوا أو أصدقاء، وما تَتَّسِمُ بهِ من محبّة وتعاون، معنى العيد وقِيَمه الدينية والاجتماعية، ألعاب الأطفال التقليديَّة ومحمولِه القِيَمي، حبّ الوالِدين وتقدير فضلهما، بعض المعلومات العلمية حول الفيل والضفدع والسمكة والبقرة وغيرها، دور العُمَّال وأصحاب المهَن في المجتمع وتحيَّتهم وتقديرهم، البيئة المحيطة بنا وعلاقتنا بها، شهر رمضان الكريم وفضائله، وتعظيم الخالق عزَّ وجلّ وتمجيده.
اللافت في طريقةِ التناول لهذه الموضوعات التي كُتِبَ الكثير في بعضها، هو تلك الرؤية الشاملة والحديثة التي تحترمُ سعة أُفق طفل العصر واتِّساع مَعارفه، فمثلاً في نشيد «تَفتَّحي يا وردتي» يستفيد الشاعر من مشهد محبب وقريب للطفل، من خلال لعبة شعبية معروفة تلعبها الطفلات، ويستمتعُ بمراقبتها ويتوقُ للمشاركةِ بها الأطفال الذكور، وهي لعبة «فتَّحي يا وردة» -التي تغنيها الطفلات باللهجة المصرية-، ويحافظ الشاعر في أنشودتهِ على رشاقة ايقاعها، دون الخروج عن الفصحى، ويستفيد الشلبي هُنا من استحضار جماليات هذه اللعبة المألوفة ليقدّم مفهوماً أعمق للصداقة يشمل الصداقة مع الأتراب ومع الطبيعة بكائناتها المختلفة من فراشات وورود وعصافير وغيرها.. فنسمعه يقول:
«تَفَتَّحي يا وَردَتي / تَفَتَّحي يا وَرْدَتي
وَلْتَملَئي هَذي الرُّبى / بالعِطْرِ والمَوَدَّةِ
ها نحنُ في سَعادَةٍ / أَنا وكُلُّ رِفْقَتي
نُشابِكُ الأَيْدي مَعَاً / وَنَلْتَقي كالوَرْدةِ
تَفَتَّحي لا تُغْمِضي / وابْتَسِمي للصُّحْبَةِ
تَفَتَّحي يا وَرْدَتي / تَفَتَّحي يا وَرْدَتي
هَيّا افْرَحي فَرَاشَتي / وَزَيِّني حَديقتي
وأَنتِ يا عُصْفورَتي / غَنِّي مَعي أُغنِيَتي».
أما في أنشودة «هالة والبرتقالة» فَلا يكتفي الشاعر بالتأكيد على قيمةِ المشاركة التي تكتسب أهميّةً إضافيّة في عالم الطفولة، بل يتعدَّاها فيرسِّخ لدى الطفل معلوماتٍ صحيَّة تتعلّق بالقيمة الغذائية للبرتقال بما يحويه من الفيتامين، كلُّ هذا في حوار بين طفلتين، يجيء مَرِحاً لَطيفاً فيحُثُّ خيال الطفل عبر المشهديَّة العالية التي تتَّسمُ بها هذه الأُنشودة، ومن أجوائها نقرأ:
«نادَت: تعالَي.. أقبِلي/نَلْهُو مَعاً.. فهيَّا
قُلْتُ لها ضاحِكَةً:/ في الحالِ يا شَقيَّةْ
فأنْتِ لي صَديقَةْ/ عَزيزَةٌ وَفيَّةْ
لكنَّ بُرتُقالَتي / هَذي التي لديَّا
مُفيدَةٌ للصِّحَّةِ/ بِ(الفيتَمين) غَنيَّةْ
أُهدي إليكِ نِصْفَها/ فَلْتَقْبَلي الهَديَّةْ».
وفي أنشودة «أختي الصغرى» التي يتألف كل بيت من أبياتها الثمانية من أربع كلمات لا غير، تشيع البهجة مع رشاقةِ الإيقاع الراقص على أنغام براءة الطفولة وضحكات الأختين الملائكية. فينشد على لسان إحداهما:
«أسمى الحلوةُ / أُختي الصُغرى
وأنا أكبرُ / منها عُمْرا
نرسمُ نكتبُ / ومعاً نلعبُ
ثمّ نُغَنّي / نُنشِدُ شِعْرا
حينَ أَعُدُّ / لأُختي تِسْعَاً
تُكْمِلُ هيَ / مُسرِعَةً: عَشْرا
أَضحَكُ نَضحَكُ / أَهتِفُ: مَرحَى
لَكِ يا أُختي / أُهْدي الزَّهْرا».
ولعل أكثر ما يستوقف المرء من أناشيد هذه المجموعة المميَّزة، هو نشيد «البرمائي»، الذي يُبَسِّط مفهوماً علميّاً ويُقَرِّبه إلى أذهان الأطفال بمنتهى الجمال، فالشاعر يثبت بهذه الأنشودة العالية بقيمتها الأدبية انتفاء الفواصل بين الآداب والعلوم، فالمعلومات العلمية المُقدَّمة للطفل من خلالها مكثَّفة، محقَّقة ومبسطة في آن، ويوظِّف الشاعر حِرَفيَّته في استفزاز خيال الطفل ليسَ لإدراك المفاهيم فحسب، بل ولِتذوُّق الأسلوب الفني والأدبي الرفيع الذي قُدِّمت به، وهي جديرة بأن تكون ضمن منهاج العلوم العامة في المرحلة الأساسية، ذلك أنها من الأناشيد ذات السويَّة العالية التي تسهم في تقريب المفاهيم إلى أذهان الأطفال وتُنمِّي ذائقتهم الأدبية في الوقت نفسه.. يقول الشلبي في هذه الأنشودة:
«بينَ العُشْبِ وَقُرْبَ المَنْبَعْ
كانَ يَعيشُ هُنالِكَ ضِفْدَعْ
كانَتْ تَعْجَبُ مِنْهُ السَّمَكَةْ
تَسأَلُهُ عَنْ تِلكَ الحَرَكَةْ
كَيْفَ يَنُطُّ بِأَقْصَى سُرْعَةْ
بَيْنَ البَرِّ وَبَيْنَ النَّبْعَةْ
وَيُحمْلِقُ صَاحِبُنا الضِفْدَعْ
في وَجْهِ المِسْكِيْنَةِ.. تَفْزَعْ
ثُمَّ يَقولُ: أنا البَرْمَائي
بَطَلٌ أبْقَى في العَلْياءِ
أَقْفِزُ فَرَحَاً حينَ أَشاءْ
مِن يابِسَةٍ نَحْوَ الماءْ
إنّي الأَشْجَعُ.. إنّي الأَسْرَعْ
سَأَفوزُ بِ(كَأسِ المُسْتَنْقَعْ)».
«أناشيد أسمى» للشاعر ايهاب الشلبي تُعَدُّ ارتقاء في الأسلوب والمحتوى واللغة بمستوى ذوق الطفل، كما يطمح صاحب الأناشيد في إهدائه، وهي تستحقُّ الالتفات نقدياً، على أمل الوصول إلى نقد أدبي تطبيقي منهجي متخصص، يهدف إلى الابتعاد عن المستهلَك والتجاري والمكرور في ما يقدَّم للطفل.
المصدر : الرأي