|
عرار:
في روايته "مقتل بائع الكتب" يطرح علينا الروائي العراقي سعد محمد رحيم سؤالا نتفاداه ونشيح بوجوهنا عنه: هل انتهى دور المثقف؟ ألم يعد لنا نحن المثقفين من مهمة غير التهكم والاستياء والقراءة والدهشة والغضب والتفسير الصحيح أو الخاطيء لكل شيء مع التقاعس عن تغيير أي شيء؟ ويتخير سعد محمد رحيم لروايته حبكة بوليسية على نمط رواية اسم الوردة للكاتب "أمبرتو إيكو" التي نشرت بالايطالية عام 1980، وفيها يقوم المحقق بدور رئيسي في جمع المعلومات حول جريمة في دير رهبان. المحقق عند سعد محمد رحيم صحفي يكلفه البعض بتقصى الحقائق الخاصة بمقتل محمود المرزوق واعداد كتاب عن حياته ومصرعه، فيسافر من بغداد إلي يعقوبة حيث قتل المرزوق لجمع المعلومات من معارف وأصدقاء القتيل. ويكفل القالب البوليسي للرواية عنصر السرد المشوق، وينعش الكاتب ذلك العنصر باللجؤ إلي الحوار الطويل مرة، ومرة بالرسائل التي يتلقاها من معارفه أو التي كتبها المرزوق لصديقته الفرنسية، ومرة بمذكرات القتيل ذاته. وتضمن الحبكة البوليسية التي تقطر لنا المعلومات والحقائق شيئا فشيئا قراءة ممتعة يلهث المتلقي خلالها وراء جمع أطراف الصورة والحقيقة المشتتة. لكن ذلك القالب لا يعني أن الرواية بوليسية، فهي على العكس تماما عمل سياسي واجتماعي من الطراز الأول يعرض لمراحل من تاريخ العراق قبل الغزو والاحتلال الأمريكي وبعده، ولدور المثقف الفرد المعزول إما بحكم شروط الظرف التاريخي أو بحكم تكوينه الضعيف ونقائصه الذاتية التي تنخر في قدراته. حياة المرزوق وشخصيته نموذج لحيوات وشخصيات الآلاف من المثقفين العرب، هو فنان رسام سجن قبل الاحتلال الأمريكي لأنه كان قريبا من الماركسيين رغم أنه لم ينتسب لتنظيم، وركب قطار الموت إلي السجن في نقرة السلمان، ثم خرج وهاجر إلي تشيكوسلوفاكيا وبعد ذلك إلي فرنسا ثم قرر أن يعود إلي العراق وأن يفتح محل لبيع الكتب، وفجأة يتم اغتياله. تكشف المذكرات والرسائل عن حبه لناتاشا الروسية في براغ، كما تكشف حسب قول المرزوق نفسه عن جبنه وخوفه من أن يقول الحقيقة ليفتدي ناتاشا وينقذها من أيدي المخابرات التشيكية، ووفقا لرسائل أخرى كان المرزوق فاجرا قادرا على اغواء فلاحة بسيطة والتخلي عنها، وهو أيضا ثرثار لا يكف عن إطلاق النكات والسخرية من كل شيء والاستشهاد بكافكا وسارتر وماركس وألبير كامي، يرسم لوحات تنم عن نصف موهبة، أو موهبة لم تتحقق، ولم يقم في حياته بعمل ملموس لتغيير الواقع، لكنه كمعظم المثقفين قام بتفسير الواقع بشتى التحليلات من دون السعي لتغييره. وعندما يقول له أحد أصدقائه :"ماذا تنتظر هنا غير الموت؟" فإنه يعقب على ذلك: "كأنه يقرأ ما في رأسي"! ماذا غير الموت؟. إنه كما يصفه أحدهم: "بطل من هذا الزمان"، إنه رمز لموت المثقف، والدور، والمهمة، والمشاركة الحية. وسنجد لدي سعد محمد رحيم نماذج أخرى لمثقفين مهزومين، تخلوا عن دورهم، أو لم يعد لهم دور، مثل صديقيه اللذين تعرف إليهما في باريس :"أندريه" و"محمد المنياوي" الذي يقول للمرزوق:"ابحث عن خلاصك الشخصي فعصر البطولات قد انقضى"! ومثل الحاج الهادي منصور الذي كان يساريا فيما مضى وارتد إلي الغيبيات، كلهم مثقفون مهزومون، لا يجدون أنفسهم، ولا يرون لأنفسهم دورا ولا تأثيرا. إنهم يفسرون ولا يغيرون، يتكلمون ولا يفعلون. الأكثر إيلاما أن تحقيقات الراوي المكلف بكتابة كتاب عن المرزوق تنتهي إلي مفاجأة من العيار الثقيل: لقد تم قتل المرزوق خطأ، ولم يكن هو المقصود على لائحة من اغتالوه في آخر النهار في شارع الأطباء بمدينة بعقوبة. حتى موت المثقف أصبح عبثيا بلا معنى، بالمصادفة، أو بالخطأ، لكنه خارج سياق رحلة تحقق ذات معنى. استطاع سعد محمد عبد الرحيم أن ينجو من مطبات روائية كثيرة كان يمكن لأي روائي أن يقع فيها، كأن يتكلم بحماسة عن مواجهة الاحتلال الأمريكي، أو المقاومة الوطنية، أو الوطن المستباح، لكنه بدقة الكاتب الشديدة تجنب كل ذلك، واستطاع أن يفي السرد والصور حقها لكن بإيجاز قاطع. نحن إزاء عمل ممتع جدير بالقراءة لكنه يفتح الباب أمام سؤال واضح: هل حقا مات المثقف؟ وانتهى دوره؟ هل لم يستطع الروائي في لوحة الواقع العربية المعقدة أن يجد أملا أو نموذجا آخر إلي جوار كل تلك النماذج من المثقفين المهزومين؟ ألم يستطع أن يرى في نصف الكفاح، نصف المحاولة، نصف السعي، عملا قد يصبح يوما كفاحا وسعيا كاملا؟. على أية حال تظل رواية "مقتل بائع الكتب" تؤرق من يقرأها، وتستحثه باللوحة القاتمة على الإمساك بالفرشاة وصبغ الواقع بألوان أخرى. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأربعاء 29-11-2017 10:30 مساء
الزوار: 903 التعليقات: 0
|