طلال أبوشاويش / كاتب وروائي فلسطيني عن دار «كل شيء» للنشر والتوزيع بحيفا يباغتنا الشاعر الجميل سليم النفار، في محاولة لتقديم كلّ شيء... خطا خطوةً هامة ليضع عصاه في دولاب الانحدار وليقطع الطريق على المدعين والمتصنعين والمزيفين وعرسان حفلات التوقيع الصاخبة لإصدارات باهتة لا تنتمي الى الأدب في شيءٍ سوى الأغلفة ذات الألوان البراقة! نعم، سليم النفار يتكئ على قطار الأدب ويدفعه بكتفه بكل قوته في محاولة لمنعه من الانزلاق نحو مساحاتِ الخواء الملغمة بالضحالة والجهالة والكذب المقنن والأقنعة المصنعة باحتراف! وسط هذا المشهد الأدبي السوريالي وخصوصاً في قطاع غزة، والذي لوثه المدعون بحبرهم الأسود، يباغتنا الشاعر سليم النفار،_ والروائي أخيراً_ بهدية من عشرين فانوساً دفعةً واحدة... أنار شعلتها ووزعها على سريةٍ من المحاربين الحالمين القابضين على الأمل والمصرين على الاستمرار والتقدم مهما ثقلت أقدام التاريخ وترنحت... يرفعون فوانيسهم أمامهم ويتقدمون في محاولة لقشع ظلام المشهد... فأبو صابر يحمل فانوسا و يتمترس قرب «أفلوكته» التي يواصل إعدادها للعودة إلى يافا... وزوجه أم صابر برمزيتها العميقة تحمل فانوسها و تصادق التوتة العتيقة الهرمة لتبشّر بحكايا فرح قادمة... تغزل الذكريات وتدثر بها أجساد أبناء المخيم الباردة... مصطفى / أبو علي، يقدم النموذج الأصيل، فيرحل بعد أن يسلم الفانوس لولده «علي»... الحالم الشاعر المثقف المناضل الصلب... الكيانية المتحفزة الحامية لكل ما هو مشرق... يمضي وسط الزحام متسلحاً بثروة عظيمة تركها له والده الشهيد واكتنزها في دماغه الملتهب... «سوسن»، المرأة التي لا يمكن إلا أن يحب فانوسها كل الشباب، ويحلمون بها كل ليلة... المرأة الملائمة لكل حلم... ولكل زمانٍ ومكان... امرأة الجمال والفن والثقافة والمقاومة والرغبة والعشق المجنون... محمود وخالد، ومرجعيتهم ذاك الشيوعي القديم... الرموز الصادقة التي تحيا ويقترن معها القول بالفعل،لم يطفئوا فوانيسهم ابدا... ولم يغرقهم وحل التنظير بتهدلاته البلاغية المجردة الفظة، ولم يخنقهم الحب المتزمت للوطن والحلم المتواصل بالعودة. عبد الله، النموذج التائه المتشكك... لا يتخلى عن الحلم، لكنه يغلق عقله أمام فهم متناقضات الواقع المستعرة في ضوء شعلة فانوسه المتوترة! وفاطمة ابنة سمير اليافاوي، الإنسانة الجميلة التي تنتقل بفانوسها و تتحرر من احتمال الترف والحياة المخملية وتنحاز إلى عشقها وحلمها وصوتها وفنها وحزنها الكبير! في مخيم « العائدين « أو « الرمل الجنوبي « أو « حي القدس « في « قعر اللاذقية «، التقى كل هؤلاء ذات لجوء... ولكي يبقى الحلم ملتهباً فقد لامس الكاتب التفاصيل الحية لوجودهم في المكان والزمان... ولكي يبقى الأمل قائماً، فقد مرّ هؤلاء جميعاً بمساراتٍ وأمكنة مختلفة... فمن وادي الصرار في روبين في يافا، إلى عمان، إلى بيروت، ومن المخيم الرابض على الساحل الغزي إلى مخيمات لبنان، برج البراجنة وصبرا، إلى طرابلس عبر وادي خالد، إلى الفاكهاني إلى شارع الفنادق... وأثناء تنقلاتهم الطوعية والقسرية لا يهمل كل هؤلاء شحن فوانيسهم بإكسير الحياة والحب، فمروا بحديقة « مار تقلا « واسترقوا حياة من العشق وساروا على كورنيش « البطرني « مصطحبين شوقهم و شغفهم و تساؤلاتهم، وأثناء تجوالهم هذا ظلت عيونهم دوماً شاخصةً نحو المتوسط، وكان عبوره جنوباً على « أفلوكة « أبو صابر أو غيرها هو الحلم والوجع! بكل هؤلاء البشر وكل هذه الأمكنة، يطلق الكاتب المبدع شرارته الأولى، يعلن الضوء الأول لينشر فوانيسه لتنير مساحات شاسعه وذلك بسردٍ ذكي سريع يوازن بين الشعرية المتأصلة في روحه، والواقعية التي يتقافز بروحه الشقية في دهاليزها المتشابكة... يرسم لنا الشاعر/الروائي في تجربته الروائية الأولى عالماً موجوعا نشأ منذ عدة عقود عقب نكبة وطن وقبح محتل... هذا العالم الملتهب كان منسياً إما بقصدٍ وإما لأن الآخرين من الأدباء لم يتجرأوا على الولوج إليه خوفاً من عجز أقلامهم عن الإحاطة بكل خطوط المشهد المتشابكة لمخيم « الرمل « بأهله المتأهبين على ساحله الصغير في «قعر اللاذقية» للعودة إلى أمكنة ظلت قريبة إليهم مهما ابتعدوا... حلم ظلّ ملاصقاً ممتزجاً بكل حالاتهم بل ورافقهم في تنقلاتهم من لجوءٍ إلى آخر ومن حربٍ إلى أخرى ومن حصارٍ إلى آخر! فوانيس الشاعر سليم النفار العشرون أنارت مرحلة زمنية هامة كنا بحاجة إلى الولوج إليها كي لا تفرّ منا التفاصيل أو تتلاشى الذكريات... التقطها معاً في عمله الأدبيّ هذا... غير أنه أبقاه مفتوحاً على مرحلةٍ لاحقة... وأظن أن آفاق الشاعر قد تلامست و تفاعلت مع آفاق الروائي تجربةً حياتيةً ولغةً ومكاناً و مشروعا واعدا... وبأن الكاتب سيستمر بالإحاطة بهذا المزيج وإدارته بقواعد لعبة الذكريات والحقائق الممتدة عبر عقودٍ ليصل بنا إلى قعر الواقع المعاش حالياً... سليم النفار لا يصطنع المفارقات ليجامل ذكرى أو يصنع دهشة، إنما هو ذاكرة شابة متفجرة تتشظى بقواعد محددة تحت سيطرته الذكية وبتوجيهٍ دقيق من قلمه الشاعر والراوي... يقبض بكفه على كل خيوط النور المنبعثة من فوانيس المخيم فلا يسيلُ الشعاع إلا بتوجيهٍ من وعيه الأصيل والغرض دائماً إنارة الأمكنة المعتمة وإذابة كلس المفاهيم وتصليب المواقف المهتزة... سليم لا يراهن أبداً على كبار الساسة ولا يلتف لبراجماتيتهم المقيتة، بل يدير كتفه لكل هؤلاء الصغار ويكتفي دوماً بإيجاز ثكلى مخيم برج البراجنة التي فقدت أبناءها في حرب الفنادق وفي حصار بيروت لاحقاً : «الناس ومصائرها ليست محل اختبارٍ لا هنا ولا هناك «!
مصدر : الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 23-02-2018 05:39 مساء
الزوار: 896 التعليقات: 0