ورحلة البحث عن ملاذات رزق، كانت أولها بعد دبلوم المحاسبة من كلية المجتمع الأردني العام 1985، العمل باحثاً في دائرة الإحصاءات العامة، ثم محرراً في جريدة «آخر خبر»، ثم سكرتيراً تنفيذياً لرابطة الكتاب الأردنيين، ثم صحفياً في جريدة «الوطن» القطرية، والكتابة في الصحافة الخليجية، إلى أن حطت ركاب العيش به أخيراً صحافياً في الزميلة «الغد».
وفي رحلة الإبداع وحفر المعنى فوق سديم الكون ، كتب الذيبة عضو رابطة الكتاب الأردنيين، واتحاد الكتاب العرب، إضافة للشعر، سيناريو عدد من المسلسلات التلفزيونية منها على سبيل المثال سيناريو مسلسل «ذاكرة الجسد» المأخوذ عن رواية الجزائرية أحلام مستغانمي التي تحمل الاسم نفسه. شعرياً، ومن بين أكثر الأجواء حرارة وشعبية وجموحاً، أصدر الذيبة: «جمل منسية»، «دقيقة وأخرج حياً»، «حافة الموسيقى» و»مفاتن الغيب».
هو إذن، شتاءٌ معمّد بالبلور، وأعراس الكروم، وآمال المطر المقبل، وأناشيد البرتقال، يحاول الذيبة أن يقيم من شتاته جميعه، لحظة مسكونة بالمعنى، وحول هذا المعنى، ووجهات الشعر، ومنابره الجديدة، والمساحة النقدية المؤملة، وفرصة الإيقاع في زمن الموسيقى الداخلية، ومواضيع أخرى، كان ل «الرأي، مع الذيبة، هذا الحوار.
في ظل القصيدة الكونية التي تكتب في الميادين، ما الذي بقي للشعراء أن يفعلوه؟
لا أظن أن الشعر الذي ولد غريباً، وعاش غريباً بين الناس، غريب اليوم عنهم. إنه مدد الحرية، وطريق إلى اجتراح معجزة خلوده. أنت توارب في سؤالك، كأنك تتهم الشعر بالغياب عن المشاركة في الحضور. صحيح أنه ليس حاضراً على نحو مادي في ميدان القصيدة الكونية، لكنه ممتلئ بها. هو من أعدها وشكّل تفاصيلها، بل ونفخ فيها الروح.
حين حمل التونسيون مطلقو شرارة أعظم القصائد في عصرنا الحديث، أبو القاسم الشابي على أكتافهم، لم يسأل أحد لِمَ حملوه. كما لو أن من الطبيعي أن يكون الشاعر هو معد هذه اللحظة، وأن يحمل على الأكتاف، بدون أن ينافس البوعزيزي.
لا.. كان على سؤالك أن يقف هنا، أن يستشهد بغياب الشاعر عن الفعل المباشر في اللحظة الكونية الراهنة. هل الشعر فعلا هو غائب؟. سأتماس مع فكرتي الأولى حول غياب الشعر ومدد الحضور والحرية، لأتمكن من التقاط اللحظة.
الشعر تمكن عبر قرون طويلة من الملاحقة والمنع والتشرد، من ترسيم حدود فاعلة بين الواقع والخيال. وقبل أن تنعتق جنيات الثورة من قمقمها، صحب الثورة عفاريت الشعر، ليتأرق العالم كله بهذه اللحظة، وليتفاعل معها.
منذ مطلع القرن الماضي، والعرب يحاولون الخروج على سائدهم الشعري، عبر محاولة ابتكار أوزان ورؤى وآفاق شعرية جديدة. كانوا في خروجهم هذا يتقدمون نحو ذواتهم، يجهزون للثورة على سيادة الاستبداد.
في القرن العشرين، حتى شعراء البلاطات الحاكمة، على نذالتهم، حاولوا أن يروا الثورة، رغم غيابهم عن الوعي. الشعراء الذين عُلّقوا على المشانق، والذين حملوا على الأكتاف في الميادين، والذين رسموا وعي الشعوب، هم من ساروا في ميادين فلسطين وتونس والقاهرة واليمن وليبيا. أما المناطق الساكتة عن الحق، فشعراؤها سينفجرون بعد لحظات، لم يعد مقنعا استمرارهم في الأسونة.
ما تبقى للشعراء أكثر مما فعلوه أثناء غيابهم. إنهم اليوم فقط، يستعيدون حضورهم، لأنهم رأوا أن ما قالوه يتحقق. الأيام السوداء التي قضوها يحلمون بالحرية، بدأت تزهر، وهم من سيوأليذها (من الإلياذة) بعد قليل.
لماذا هرب بعض الشعراء إلى منبر مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل يستشعرون فيه مساحة أقل محاكمة نقدية وأكثر مجاملة اجتماعية؟
لا، لم يهربوا.. أسألُ لماذا غابت الصحف والمجلات والدوريات عن إفراد مساحات مبجلة للشعر؟ شخصيا أجد عنتاً في نشر قصائدي، حتى أدونيس أو سعدي يوسف، منذ متى لم نقرأ لهم شعرا في صحيفة أو مجلة. هناك تقصد في تغييب الشعر عن المساحات المكتوبة. دور النشر تدعي أن كتب الشعر لا تبيع، وأن الناس لا يقبلون عليها. أصحاب هذه الدور كذابون. في الدوحة مثلا وهي بحجم حي في عمان، طبعت من كتابي الشعري «حافة الموسيقى» ألفي نسخة. نفدت خلال أقل من شهر.
هناك حالة من الاستغفال للقارئ والشاعر معا، دفعتنا إلى أن نذهب بقصائدنا إلى أماكن أكثر التصاقا بالناس، وقربا منهم. مواقع التواصل الاجتماعي قد تمنحنا نوعاً من مجاملات القراء، لكن قل لي منذ متى قرأت نصاً نقدياً حول عمل لشاعر أردني من ناقد أردني في صحيفة أو مجلة؟
لا، الشعراء لا يهربون إلى هذه المواقع الاجتماعية لأنهم خائفون من نقادنا، أو يستمتعون بالمجاملة، بل لأنهم لم يجدوا منابر تمنحهم الحق في نشر نتاجاتهم، ولم يجدوا نقاداً يقومون بمهمتهم في قراءة أعمالهم.
ثم أنت واحد ممن يتواصلون مع هذه المواقع. بربك ألم تجد فيها، محلا يقيك الغياب؟
صحيح أنّ هناك غث وسمين في هذه المواقع. وأن هناك من يسبق اسمه بعلامة فارقة تشبه الماركات الرديئة للبضائع الصينية، مطلقاً على نفسه صفة كاتب أو شاعر وهو يخطئ في الإملاء، لكن في المقابل، هناك كُتّاب محترفون وشعراء حقيقيون تقرأ لهم بانهماك وامتنان أن هذه المواقع منحتك الفرصة الالتقاء بهم.
مواقع التواصل الاجتماعي ألغت تكريس وتكريش الأسماء التي سادت في الشعرية العربية، وقدمت أسماء عظيمة من الشعراء الذين لولا هذه المواقع لما عرفناهم.

هل ما يزال الإيقاع هو الفاصل في سياق تقويم القصيدة العربية ورواجها وانتشارها وجمع مريدين حولها؟
هذا سؤال قد لا يجدي أن أقايس عليه، فتجربتي الشعرية، تمنحني حكماً قد يبدو مطلقاً، الشاعر شاعر حتى في تقليم أظافره. بمعنى أن الشاعر الذي يقف عند الوزن، هو ربع أو خمس شاعر، أنا أقول إن الشاعر يجب أن يكون قادراً على الكتابة في مختلف ألوان الشعر، الموزون والتفعيلة والمنثور والمحكي والموشح والأغنية والأهزوجة.. وسوى ذلك يبقى قاصراً، مصبوباً في منطقة محصورة، زنزانة.. سجن، والشعر لا يقبل السجون ولا الزنازين.
الإيقاع، هو أداة شعرية، أحبها جداً، وأتفاعل في جل انشغالاتي الشعرية معه، ولكني لم أر أن الإيقاع هو من يعزز جماهيريتي، أو شعبيتي، لا.. هذا لا دخل له في المسألة، وارى أن الموضوع الشعري وطرائق تناوله ومعالجته هي من تذهب بالشعر إلى تحقيق بعض الانتشار.
هناك شعراء عاديون، لكنهم تمكنوا رغم إيقاعيتهم الباهتة، من جذب الجماهير إليهم، لأنهم اتكأوا على موضوعات حساسة، وعالجوها برؤى تتوافق مع الرؤى السائدة، أي كرروا منوال سابقين لهم، وفازوا بالجماهير. أنا ضد هذا الفعل. لأني أرى أن الشاعر، ثائر، انقلابي، متوتر، لا يقر بسائد، ولا يؤمن بشعار، ينطلق إلى برارٍ غير مطروقة، وعلى الجمهور أن يصله، اليوم أو غداً.
الشاعر الذي لم يجذب الجماهير إلى قاعته، ليس فاشلاً، ولكن الجماهير التي لا تعرف من هو الشاعر الجيد هي الفاشلة.
أما المريدون فهم أخوان الشياطين. كيف يمكن أن يكون الشاعر مختلفاً إذا اتفق مع سابق له، كيف؟ هذه هرطقة، لا يمكن للشعر أن يقبلها. مريدو الشعراء العظام لا احد يشير إليهم. الشاعر يمشي مع الجميع وخطوته وحده.

في كثير من قصائدك تعتمد الإيقاع (الرتم) السريع والكلمات الحاسمة الضاربة على وتر التوتر والتوهج «ولا تحتفل بالخراب وسر كالمنوم في توقه وسر كالذهاب كسرٍ كثير يداهمنا بالعدم وسر كالندم كدمع الحبيبة كالليل كالموت سر حافيا كالصنم»، وأمثلة أخرى كثيرة، إلى أي مرجعية ووجهة ترد ذلك؟
بكل هدوء، لا احتمل التوقف طويلا على الدور، لا أريد انتظار القطار ولا الطائرة ولا السيارة، أريد أن امضي وحدي. أنا أسأم بسرعة من التأمل. لا املك هذه الطاقة الغبية على مراقبة الأشياء لأخرج بعدها بحكمتي التي لن يخلدها إلا حمقى، لا يرون في الوجود أعظم الحكم.
ثم أريد أن أقول كل ما لدي قبل أن امضي، لهذا تراني مسكوناً بالسرعة، وبالإيقاع حتى في النثر، ثم أن أجدادي الذين بنوا مناجم النحاس والحديد في أصقاع أوروبا لم يتأملوا طويلا في عبورهم البحر إلى تلك الأصقاع، هم من منحني هذه الطاقة على السرعة. أعني أجدادي الكنعانيين.
وبعيداً عن التفكير التقليدي المعاصر أن الإيقاع السريع هو ابن العصر السريع الذي نحيا به، فإن ما يتملكني دائماً هو عدم التوقف، والسير نحو ما أريد، تماماً لأني أراه، كما يقول محمود درويش. أريد أن يشاركني القارئ شغفي بالوصول إلى منطقة غير مشبعة، يظل يحتاج فيها إلى ما يرويه مما أنتجه، ليظل يلحق بي.
أستطيع أن أرد ذلك في جزء منه أيضا إلى قوة الإيقاع على التغلغل في الذات، وتدريبها على الطيران. ألا تظن معي أن مثل هذه التوق للوصول هو حرية مطلقة، لا يمكن ضبطها؟
الشعر لا يحتمل الهدوء، ولا يمكن أن يقبل الاستكانة، أو التطلع إلى لحظة يتمايل فيها على الجنبين مسترخياً. هو عاصفة، ثورة، فيضان. ولذا فإنني امتثل للطبيعة في تفجرها داخلي، لأقوله بمثل هذه القوة والاندفاعة والسرعة نحو الحياة.

ثمة صدق في معظم قصائدك، وثمة انحياز واضح للفقراء، للمهمشين، ماذا تقول في ذلك؟
ولدت حافيا، وأتمنى أن لا أموت إلا مع الحفاة واقفاً..
هؤلاء المهمشون، لا احد ينتبه إليهم. وأنت تعرف أني منهم، لم ابتعد عنهم ولن ابتعد، لست معنياً بفكرة الترويج لهذا، ولكن أنا مهمش تماماً.. ومعني بالمهمشين، أقف إلى جانبهم لأنهم وقفوا ويقفون إلى جانبي، وحين أنده عليهم يكونون معي. ولا يتخلفون، لأنهم يدركون أن ما لدي لهم.
لست شاعر مهمشين أيضاً ولا شاعر فقراء. خرجت من بينهم.. نعم، وأدافع عنهم نعم، ولكني شاعر بكامل دقتي في الارتباك أمام طفل يحلم بثياب جديدة ليذهب بها إلى العيد في مخيم جبل الجوفة أو الوحدات أو البقعة.
هؤلاء منفيون، لا يجدوا من يقف إلى جانبهم، لقد عشت النفي معهم وارفضه، وأناضل من اجل أن أوجه الأنظار إليهم بما اكتبه، لأنهم يحتاجون إلى من يوصل ألمهم إلى عالم ليس لهم، عالم مشحون بالكراهية والحقد، لا يرى أبعد من أرنبة أنفه.
ولأن صوتي واضح، وأتمنى أن يكون قوياً، فإني لا أجد مساحة من مساحات القول إلا وأحضرهم فيها، وأحاول أن أثير الانتباه إلى جوعهم وفقرهم وهامشيتهم وحاجتهم إلى الحرية والحياة الطبيعية، وللحقيقة فإنهم يستحقون ما هو أفضل، لذا سأظل إلى جانبهم، وانحاز إلى آلامهم.
أما الصدق في قصائدي، فلم أكتب قصيدة، إلا وعشت تفاصيلها، أو تخللتني حيوات أصحابها. وقد قلتها ذات مساء.. أعذب الشعر أصدقه، لا أكذبه على ما قال بعض المتأملين.
في ديوانك الأول، ظهر واضحاً تأثرك بالأمثال الشعبية، واستخدمت في قصائد من ديوان «دقيقة وأخرج حياً» بعض الكلمات المتداولة في المخيمات والأحياء الشعبية، ما الرسالة التي كنت تحاول إيصالها عبر ذلك؟
لا اكتب لإيصال رسائل. أكتب لأتنفس، لا تحرر من الوقت، ولأحرر الكلمات من سيادة المعاني العادية لها، أكنب لأدرك أني سأترك أثراً جميلاً، ولأفصح عن كينونتي. أنا الآن في غاية الامتنان للحياة، لأني أشهد أني قد عشت، كما قال بابلو نيرودا..
الرسائل.. اتركها لمساحات تعبير أخرى، كالمقالة والنصوص النثرية، والكتابة التلفزيونية. أما الشعر، فهو التحام مع الحقيقة، مع الإنسان، لا يحتاج إلى حمل رسائل. هو رسالة وجودية كاملة بذاتها.
من هنا، كانت حركة انتباهي للمحكي وفصحنته، مشتقة من حياتي في الهامش. كيف اكتب شعرا عن أناس يعيشون تحت الصفيح وأخاطبهم بلغة أبناء القصور. قلت علي أن استحضر هواء حارتي ومخيمي وأعيد تشكيل مفرداته وتقنياته في القول والتعبير، لأكون حقيقياً، ولتأتي كي تسألني عن الهامش، واللغة المنسية، تلك التي أغفل فيها الإنسان أيضاً ونسي، ووضع في مكان غير لائق بإنسانيته. بلغة المهمشين أعيد لهذا العالم إنسانيته التي فقدها في بيوت الغبار.
هذه الإحاطة بالحالة، مكنتني من أن أجد منطقة أسلوبية في برية الشعر، ربما لم يقترب منها احد بعدي، لكن عز الدين المناصرة كان قد اشتغل عليها ببراعة عالية من قبل.
المحكي .. أو اللغة اليومية، والتي أكتب بها أحياناً، تمنحني حرية غير محدودة في توظيف عناصر الحياة داخل نصي كما هي، وتجعلها أكثر إشعاعاً، بل ويدفع الكثير من شعراء القصور إلى التوقف عندها، وتجريب إمكانياتهم في التساؤل حول جدواها وقدرتها على جعلهم حقيقيين.
الكلمات هي كنوزنا نحن الشعراء، فلماذا لا نستخدمها ونعيد صقلها في مناطق تجعلها تشع أكثر وتلتمس الوجود بكل ألوانه، لتحيا فينا وفي من يمسك بها.
من الشعر .. إلى الدراما.. وبينهما محطات عديدة اشتغلت عليها وفيها. ما الذي يدفع بالشاعر إلى أن يتحرك في أكثر من منطقة بعيدا أحيانا فيها عن مهمته كشاعر؟
الحرية.. الحرية هي من يدفع الشاعر أن يتخطى الحدود إلى مناطق جديدة. الشاعر هو المكتشف، الساحر، الكاهن، صانع التراتيل. الأنبياء قبل أن يصدق بهم الناس يتهموا بأنهم شعراء، لأن الشعر كينونة خارج منطقة العادي. من هنا يمكن أن يكون التنقل بين الشعر وأي مناطق موازية، أو تحاول أن تكون على مقربة منه، فعل ليس استثنائيا، بل طبيعي في مهمة الشاعر.
ذهبت إلى كتابة النثر، لدي الآن أربعة كتب لم اطبع أي منها بعد، هي في مساحة النثر، شيء أشبه بالرواية، سيرة ذاتية، أو كتب نثرية، لا اعرف ما هي أنواعها بالضبط، لكنها خلاصات فعلية لحيوات عشتها.
وفي الدراما، أو الكتابة للصورة، أشتغل كما لو اني اكتب قصيدة. هذا عالم مغفل من شعرائنا وكتابنا، لا يدركون كنهه، ذهبت إليه بمحض إرادتي، لاكتشف لاحقا كم هو مسكون بقوة الفعل.
عمليا.. لم اترك بابا في الكتابة إلا وكتبت فيه، حتى إني من باب السخرية حين أُسأل في الكتابة، أقول أكتب حتى في الفيزياء النووية.

اليوم، ومع انتقال وسائط الإعلام إلى آفاق أرحب ومساحات أوسع عبر ما أتيح في شبكة الانترنت ووسائط الميديا من فضاءات حرة للتعبير، كيف ترى حركة نشر الشعر في هذه الوسائط؟
مؤلم ما تعرض له الشعر من إقصاء عبر المطبوعات الورقية، ومؤلم ما يتعرض له على يد الناشرين، لكن فضاء الانترنت مكن شعراء كثر من البروز، ومنحنا افقا جديدا لنقرأ لشعراء جدد أو كانوا مختفين لعدم تمكنهم من اختراق لوبيات الإعلام المطبوع.
وسائط الإعلام أتاحت حرية مطلقة لانتقال الشعر من ساحة النخبة والتكريس المرضي لأسماء بعينها إلى ساحة التنوع، حد إعادتنا إلى زمن الدهشة.
صحيح أننا ما نزال نتعامل مع هذه الوسائط بحرفية منقوصة، وثمة ارتباكات فيما ينشر، وفي ادعاء الجدية والحرفية، إلا أن هذا كله ينتج فضاء رحبا لشعر منوع.
ولعل ما يمتلئ به الفضاء الانترنتي من نصوص وكتابات شعرية، ليس كله سمينا، إلا أن هذا يفصح عن توقد الذهنية العربية في إنتاج الشعر والأدب الذي يتم إقصاؤه لحسابات مبهمة، لا تقدم ولا تؤخر في حركة الإبداع والنهضة العربيين.
أنا فرح بالانترنت، ولو كان هذا الوسيط قبل قرن، لكان حال العرب على غير ما هو عليه اليوم، ولمكّننا من تجاوز عقد كثيرة في النشر وانتشار المعرفة والآداب.

الكتابة الدرامية.. إلى أي حد ترى أنها تتفق مع رؤية الشاعر في إماطة اللثام عن الحياة ضمن توليفة تقنية مرسومة في إطار واقعي محض؟
الكتابة الدرامية للتلفزيون فعل إبداع متعمد على حد قول رسمي أبو علي.مساحة
تسكنها القوة لإنتاج واقع مواز للواقع ولكن ضمن مساحة زمنية مختزلة. ما يمكن
أن يقال في الحياة خلال عشر سنوات، يقال في الدراما بدقيقة أو ساعة ربما.
هنا تكمن قوة الكتابة الدرامية، بل وعبقريتها في إنتاج زمن متفق مع الزمن الواقعي، وبشروطه، لكن وفق منظور تحدده آليات إنتاجية وتقنية، وحين يقترب منها الشاعر، الذي يعد الأبرع في قياس اللحظة، يستطيع أن يجترح زمنه الدرامي بارتياح لأنه خبير في الاختزال.
بهذا وبمساحات أخرى مثل قوة استحضار الصورة، يمكن للشاعر ان يبرع في الكتابة للدراما، لأنه معلم في ابتكار الصور، والدراما تحتاج إلى هذه المنطقة التي تعيد تشكيل اللحظة في صورة.
لذا، لا يبتعد الشاعر حين يقترب من الكتابة الدرامية عن هجسه الرؤيوي، بل هو الأقدر للحفاظ بالدراما عليه.
كيف يمضي تأثير الصحافة على الشعر، على الأقل بالنسبة لك شخصياً؟
اعترف أن الصحافة مكنتني من أن أزداد قربا من الشعر، وان أعيش كتابتي للقصيدة بحرية مطلقة، وزودتني بمساحات بصرية ومعرفية ورؤيوية عالية، طورت من كتابتي ومدتني بأفق شاسع من الاحتمالات في إنتاج نص يمكنه أن يكون متوقدا قادرا على فلح سهوب المعنى كما ابتغي.
لا أعرف من اتهم الصحافة أنها تستنزف الشاعر أو المبدع. أظنه شخص كسول، لا يحب التمارين اليومية على الكتابة، ويعشق التمترس وراء عمائه.
أنا اعمل في الصحافة وأكتب يومياً، واعتقد أن كتابتي اليومية للشعر أو المقالة، لا تبعدني عما أريد أو تنأى بي عن فرحي بالضوء القوي الذي يمدني به العمل في الصحافة والإمساك بحقائق العالم ووقائعه عن كثب.