|
عرار:
أعادت الهيئة العامة المصرية للكتاب نشر كتاب “أيها الفحم، يا سيدي (دفاتر فنسنت فان جوخ)” في طبعة حديثة، حيث صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 2015 بالبحرين، وهو نتاج منحة تفرغ إبداعي حصل عليها الشاعر البحريني قاسم حداد من “أكاديمية العزلة” في ألمانيا، ضمن برنامج “زمالة جان جاك روسو”، وهي منحة تفرغ مخصصة للأدباء في العالم، لإنجاز المشاريع الأدبية. عبر مقاطع نثرية يفوح منها الشعر ورائحة حقول عباد الشمس، يبعث الشاعر البحريني قاسم حداد بصوت مُلهمه الهولندي فينسنت فان جوخ للحياة على نهر صفحات كتابه “أيها الفحم.. يا سيدي”، ويصنع له مسرحا للبوح والتقاط الأنفاس وجمع شذرات الذاكرة المتفرقة بين الطفولة، والوعظ، والفن، والوجود، والأحلام. الكتاب يقع في 348 صفحة، يحتفي بسيرة الرسام الهولندي الأبرز فينسنت فان جوخ بلغة قاسم حداد الشعرية، والهائمة بين ثنائية الرسم والكلمة، وإذابة الحوائط الوهمية بين فنون التعبير المختلفة التي تُفككها سيرة فان جوخ في فصول الكتاب المكتوبة بلغة الرسائل، فيقول حداد على لسان فان جوخ: “أضع ألوان قلبي في كلمات، أقرأ الرسم بالرسائل، وأكتب الرسائل بالشكل. تلك أجمل أحلامي التي لم يسعني الوقت لابتكارها، في طفولة النزق وفتو العناد وعنفوان التجربة وانفجار الأسئلة. كان عليّ أن أكتمل بعد ذلك. لذلك أضع روحي في المهبّ، وأبدأ في كتابة الرسم”. جعل قاسم حداد مسألة العمر مفتاحا من مفاتيح الكتاب، ففان جوخ الذي بدأ الرسم في الـ30 من عمره، كان مشغولا بمسألة الإنجاز، والوقت المتبقي، واتساع العمر للأحلام، فيقول: “37 عاما، ليس عمرا مديدا لكي يتسع كل الأحلام”.. فقد عاش فان جوخ 37 عاما كان نصيب مشواره الفني منها هو 10 سنوات فقط، وأنجز أعماله الفنية ورسائله، التي تتجاوز الـ900، في هذه الفترة القصيرة فحسب وعلى امتداد الكتاب يمتد بساط ذكريات فان جوخ مع بداياته الشاقة مع الرسم، وفلسفته الخاصة بخطوطها، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالكتابة بالنسبة له، ويتساءل: “هل الرسم هامشٌ للكتابة، هل الكتابة هامشٌ للرسم”، عبر الرسم كان فان جوخ يفرض على العالم فكرته عنه، ويستغني عن الصلات الاجتماعية التي كان لا يجيدها لفهم الحياة “وفي الرسم تعرف الطبائع والمشاعر والمعاني وتحولات النهار والليل”. يجعل الكتاب كذلك من الرسم محاولة لفهم التاريخ، فيقول بلسان فان جوخ: “الرسم هو ساحة المعترك الفني في أوروبا، حين يتعلق الأمر بالتنوير والإصلاح. الفن هو أيضا رغبة عارمة من التنوير، تستدعي المعرفة قبل الموهبة”. وبذكر فهم العالم، كان لسيرة “ثيو” أو “ثيودور” شقيق فان جوخ النصيب الأكبر من ذاكرة فان جوخ، فهو الذي يناديه عبر صفحات الكتاب مرّات، وتعد رسائله لشقيقه ثيو أبرز وأهم رسائل القرن الـ20 على الإطلاق، وبها تنطق فلسفة فان جوخ عن الحياة والفن والحب، تجد عبر نداءاته المتكررة لشقيقه عتبا لا ينضب من قبل فينسنت لعائلته التي كانت تراه شخصا ناقص الأهلية لا يستحق سوى العقاب والتوبيخ، ولم يكن بها سوى فرد واحد فيها تولى إنقاذه وهو ثيو، الذي ينعته بلسان قاسم حداد بـ”شمس تنتشلني من العتمة”، كان ثيودور هو عائلته الوحيدة.. الأب والأم والابن. يقرأ الكتاب حوارات الشقيقين المُعبأة بالألوان والأشجار والغابات، والمُهمات التي اتفق الشقيقان على تنفيذها إيمانا بأحلام فينسنت “يبعث لي ثيودور الأصباغ ورزمة الورق، ثم ينتظرني في البيت، لكي أرسم الأشجار والأكمات الغامضة التي لا تشبه شيئا قبلها، فقد سئمنا تلك الغابة. ثيودور سوف يعمل على بيع الرسوم على مستنطقي الجدران، وأبقى في غابتي أخلط الألوان وأكدسها، وأنتظر دون أن أعرف مصير ما أصنع. وحده سيعرف كل شيء عني، يدرك الحياة من أجلي”. يمر الكتاب على واحدة من أبرز الحوادث التي أسهمت في تشكيل ضمير فان جوخ الإنساني وفهمه للدين والفن، وهو قيامه بالتبشير في أحد مناجم الفحم، التي عرف فيها معنى لون الظلام، وبات يُميزه كما يُميز اللونين الأزرق والأصفر، وشكلت منعطفاته الفكرية والروحية. يتسع الكتاب لحضور أصدقاء فان جوخ “النادرين” من الفنانين الذين شكلوا وجدان فان جوخ، منهم أنطوان فان رابار، الذي كان دائم المراسلات له، ورمبرانت الذي استفاض في شرح معنى نظرة أعين بورتريهاته، وإميل برنار، الذين قدم لهم قاسم حداد في سير استرشادية مختصرة في ملحق خاص في نهاية الكتاب، وضم كذلك العديد من الأماكن والشخوص والتعريفات التي وردت في نصوص الكتاب، وتحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء لفهم سياق الحدث التاريخي الذي تدور فيه الأحداث، كما ضمّن إلى جانب هذا الفهرس والهوامش، شذرات من رسائل فنسنت فان جوخ، ما يجعل الكتاب يجمع بين النص الأدبي والمرجع التاريخي. يطرح قاسم حداد في ثنايا كتابه عن سيرة فان جوخ تساؤلات ربما شغلت الشاعر البحريني نفسه، فأراد أن يُطلقها لهواء التأمل وإعادة القراءة لعبقرية الرسام الهولندي الأشهر، منها ما جاء على لسان فان جوخ: “سمعت صديقا يهمس عني: لو لم يرسم لما كتب. ليرد أحدهم: لو لم يكتب لما عرف طريقه إلى الرسم. كيف ستعالجون هذه المعضلة؟”. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 01-03-2019 10:05 مساء
الزوار: 1131 التعليقات: 0
|