كانت مكةُ قبل الإسلام عاصمةَ العرب دينيًّا وسياسيا واقتصاديا وحضاريًّا، وكان يقطنها في غابر الأزمنة قبائلُ من جُرْهُم وبقايا من العرب البائدة، ثم نزلتها قبيلةُ خُزَاعَةَ اليمنية، وفي منتصف القرن الخامس الميلادي تقريبا يظهر قُصَيّ بن كِلاب القرشي فَـيُـخْرِجُ منها خزاعةَ، لتستقرَ قريش بعدئذٍ حول الكعبة، وبطونها هم : هاشم وأميَّة ومخزوم وتَيْـم وعَدِي وجُمَح وسَهْم وأسد ونَوْفَل وزُهْرة، وهؤلاء كان يُطْلقُ عليهم قريش البِـطاح لاستقرارهم في بطحاء مكة التي هي في وادٍ غير ذي زرع، وأما مَنْ يسكنُ في ظاهرها فأُطلقَ عليهم قريشُ الظواهر لأنهم يسكنون في ظاهر مكةَ ومعهم العبيد والصعاليك والموالي وغيرهم، ومن قريش ظهر هاشم، وهو: ابنُ عبدِ مَـنَـاف، وإخوتُه من الولد هم : المُطَّلبُ وعبدُ شمس ونَـوْفَـل، وأما أبناءُ هاشم من الولد فهم: أسد وصيْفي ونضْلة وعبد المطلب، ولم يبقَ لهاشم من عَـقِـبٍ إلا من عبد المطلب كما قال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب، ومن عقب عبد المطلب سيدنا محـمد عليه الصلاة والسلام، وقد رُوِي في الصحيح الثابت ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : «إن الله اصطفى كنانةَ من ولد إسماعيلَ، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم «، وقد كانت قريش نفسها كما العرب جميعا تعترف لبني هاشم بعلوِّ الشرف والسيادة، فقد روى ابنُ كثير في البداية والنهاية أن معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه، قد سُئِلَ – وهو مؤسس الدولة الأموية ومن بني أمية من ولد عبد شمس – أيكم كان أشرفَ، أنتم أم بنو هاشم ؟ فأجاب كنا أكثَرَ أشْـرَافًا وكانوا هم أشْـرَفَ، وكان فيهم عبدُ المطلب ولم يكن فينا مثْلُهُ فلما صرنا أكثرَ عددا وأكثر أشرافا ولم يكن فيهم واحِدٌ كواحِدنا فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبيٌّ لم يسمعِ الأولون والآخرون بمثله محـمد صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ يُدْرِكُ هذه الفضيلة وهذا الشرفَ! ومما زاد في شرف بني هاشم توليِّـهم سقايةَ الحجيج وإطعامَهم ورفادتَهم والمحافظة على أمنهم، قال ابنُ إسحاق صاحبُ السيرة التي هذبها ابنُ هشام من بعدُ : فوليَ الرفادةَ والسقايةَ هاشم بن عبد مناف، وذلك أن أخاه عبد شمس كان رجلا سفَّارًا قَـلَّمَا يقيمُ بمكةَ، وكان مُـقِلّا ذا ولدٍ، وكان هاشمٌ موسرا فكان إذا حضرَ الحاجُ قام في قريش فقال: » يا معشرَ قريش، إنكم جيرانُ الله وأهلُ بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوَّارُ الله وحجاجُ بيته، وهم ضيفُ الله، وأحقُّ الضيف بالكرامة ضيفُه، فاجْـمَـعُـوا لهم ما تصنعونَ لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها، فإنه والله لو كان مالي يسعُ لذلك ما كلفتكموه »، فيخرجون لذلك خَـرْجًا من أموالهم، كل امرئ بقدرِ ما عندَه، فيصنعُ به للحجاج طعاما حتى يصدرُوا من مكة . وكان هاشم فيما يُروى أنه أول من سنَّ الرحلتينِ لقريش: رحلتي الشتاء والصيف. وأول من أطعم الثَّـريد – وهو طعام من خبز مفتوت ومرَقٍ ولحم - للحجاج بمكة، وإنما كان اسمُه عَـمْـرًا ؛ فما سُمِيَ هاشما إلا بهشمهِ الخبزَ بمكة لقومهِ بعد أن أصابهم الجدْبُ فقال حينئذٍ شاعرٌ من قريشٍ : «قل للذي طلبَ السماحةَ والنَّدى هَلَّا مررتَ بآلِ عبدِ مَنَافِ هلّا مَرَرَتَ بهم تُرِيْدُ قِراهمُ مَنَعُـوكَ مِنْ حَرٍ ومن إكفافِ الرائشـينَ وليس يوجدُ رائشٌ والقائــلينَ هَلُمَّ للأضـيـافِ والخالطــيـنَ غنيَّهُم بفقيرِهم حتى يكونَ فقيرُهم كالكافي والقائميــنَ بكلِّ وعدٍ صادقٍ والراحلينَ برحلةِ الإيلافِ عمرو العلا هَشَمَ الثَّرِيْدَ لقومِه ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عِجَافِ سَفَرَيْنَ سَنَّهُمَا لهُ ولِقَوْمِهِ سَفَرَ الشتاء ورحلةَ الأضيافِ». وكان إيلاف قريش أكبرَ اتفاق تجاري عربي قبل الإسلام، عقده هاشم بين قريش وعظماء ممالك الروم وفارس وغسّان والحبشة و اليمن، وقد ذكر عبد الملك الثعالبي في كتابه ثمار القلوب «أن قريشا كانت لا تتاجر إلا مع مَنْ ورد عليها مكةَ في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وكانت في الأشهر الحُـرُم لا تبرحُ دارها، ولا تجاوز حرمها للتحَـمُّس (التدين) في دينهم، والحُبِّ لحرمهم، والإلفِ لبيتهم، ولقيامهم لجميع مَنْ دخل مكةَ بما يصلحُهم» . وكان هاشم أولَ من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك فعقد معهم «الإيلاف»،(مصدر - آلف - أي جمع بينهم )، وهو اتفاقية أو عهد بينهم، إذْ كان هاشم يقدم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعًا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلا مع إبله ليكفيَهم مئونةَ الأسفار، ويكفي قريشا مئونة الأعداء. فكان أن أخصبتْ قريشٌ وأتاها خيرُ الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالُها وطابَ عيشها الذى ذكره الله وكانت لقريش رحلتان : رحلةٌ في الشتاء نحو اليمن و الحبشة،ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم . وبعد أن قام هاشم بهذا الإيلاف مع الأقوام المجاورة عقد إيلافا مع رؤساء القبائل العربية التي ستمرُّ بها قوافلُ قريش وأقنعهم بأن يؤمِّنوا القوافل المارة عبر مناطق سيطرتهم من ذؤبان العرب وصعاليكها وأصحاب الغارات وطلابِ الطوائل مقابلَ أن تحمل تلك القوافل تجاراتِ تلك القبائل، وإن لم يكن لها تجارةٌ فتُعطى مالا مقابل تلك الحماية سُمِّيَ (الجُعْلَ)، وقام هاشم كذلك بإقناع أغنياء قريش بوضع نسبةٍ من أرباح تجارتهم لتكون معونةً لفقراءِ مكة. ولما مات هاشم أشرفَ على الإيلاف أخوه المُطَّلِبُ، فلما مات المطلب قام بذلك عبدُ شمس، فلما مات عبد شمس قام به نَوفل وكان أصغرَهم ثم عبدُ المطلب ابن هاشم وجدُّ الرسول محمد عليه السلام . وكان من نتائج ذلك الإيلاف، تحقيق العدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي في مكة وبقية الحواضر العربية، وتأمين الطرق التجارية داخل الجزيرة العربية وهي الطرق ذاتها التي يسلكها الحجاج الوثنيون إلى مكة، فانتشرت الأسواق التجارية وثُـبّـِتَـتِ الأشهرُ الحُرُمُ لوقف القتال والتخفيف من أسباب النزاعات بين القبائل، وكل ذلك كان له دورٌ في توحيد القبائل العربية على لهجة قريش التي أصبحت لغةَ الشعر والأدب، وقد تنزَّلَ القرآن بها من بعدُ ؛ فكان لهاشم ولِعَـقِـبِه من بعده الزعامة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية قبل الإسلام وبعده، فقد أخرجوا مكة من المحلية إلى التشابك الاقتصادي والفكري مع الدول المجاورة وتلك رؤية سياسية ثاقبة، جعلت العرب قبيلَ الإسلام يتأثرون ويؤثرون حضاريا في الأمم المجاورة، فكانَ تلاقحا معرفيا أفضي من بعدِ مجيئ الإسلام إلى تقبل الثقافة العربية والمساهمة في رفدها بطرائقَ كثيرةٍ من مفاتيحِ الحضارة الإنسانية ومعارجها في التاريخ البشري.
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 15-03-2019 11:45 مساء
الزوار: 463 التعليقات: 0