|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
الوصف واللغة في قصة (حرائق لا تنطفئ) للكاتبة صديق صديق علي / سوريا بقلم حيدر الأديب قراءة استكشافية
عاشقة
الصحراء :
المعني بالقراءة الأستكشافية هو تحري مقومات الأداء السردي ومناقشة ابنيته من اللغة والوصف ولا تعنى هذه القراءة بالدلالة والتأويل وتقديم رؤية نقدية فقد اغفلت ذلك للحديث عن ذلك مستقبلا بدراسة أعمق
اجتمع لهذا النص من عناصر البناء ومستويات اللغة ومهيمنات الجماليات وحركية الوصف مما جعله نصا ممتازا يتحرك في الوجدان مبلغا رسالاته ومانحا فضائله البلاغية واثاراته التخيلية وذكاءه في توزيع الدلالة وتجزيئها كلما احتاج تحقيق المقصدية الى ذلك السطور القادمة تحاول خلق مسافات استكشافية بما يسمح به النص فالنص وحده من يقترح كيف تقرأه ويهبك فهرسا لأدواتك النقدية وعدتك المعرفية وامكاناتك الذوقية اذا ان الذوق غير المعنى وغير الاستجابة فالمعنى ينتسب الى مقصدية الكاتب في ظرف تحقق الفكرة في الذهن وفي محددات اللغة ونظامها العلامي الذي انتخبه ذلك الكاتب والاستجابة تنتسب للمتلقي لأنها حقل دلالي منفعل بذخيرة وتاريخ كل تلق وان كانت تحت هيمنة سياق السرد اما الذوق فهو معايشة وجودية لطبقات القيمة الجمالية الثاوية في تاريخ التراكيب بحيث عند كل تجل لقيمة جمالية يقابله تمظهر سلوكي داخل المتلق فيغدو النص طبعا من طباع الذات هذا النص لا ينطفئ وكيف ينطفئ والعلاقة التعويضية ثكلى لم تبق لوحة لم تحترق الا لوحة شجرة سنديان عليها راس معلق ومن تحته رماد الغابات كنز ( المجاهدين ) وكلما اقتربت من الرأس يتلو عليك (لا علاقة لي بالدولة، لا أعرفها، أنت دولتي وأبي، ويضحك بطفولة) وتقول له ان الرماد من تحتك وكثر هم الخونة فيرد الرأس عليك ( لا وقت للتأمل ) تشع الشعرية منذ عتبة النص (حرائق لا تنطفئ) فهذا التركيب ينشطر الى إحالة بصرية لأول وهلة ليستقطب كل موروثها الجمعي ثم الى إحالة ذاتية فهذه اللفظة تفتح في النفس كل تواريخها الحافلة بالتوجع والألم والحرمان والعذاب ويحيل ثانية عبر ( لا تنطفئ ) الى افق مغلق ومحكم في اليأس النص بناء لذا فان المكوث عند عتبته ضرورة تحمل سلامة التوغل في جهات النص اذن " فلا يمكننا الانتقال بين فضاءاته المختلفة دون المرور على عتباته "(1) اننا إزاء حرائق الذات في حضورها وغيابها وحرمانها الذات التي تماهت في وجود محترق زمانا ومكانا ومتواليات من المباغتات الشائكة بالأسئلة حرائق ظاهرة وحرائق مضمرة وحرائق تشعلها اللغة وأخرى يشعلها الصمت حرائق جاءت نكرة امعانا في فتح افق التوقع وتفعيل التشويق للتهادي الى تفاصيل هذه الحرائق وكيف تمكن الأداء السردي من تشكيل المهيمنات الجمالية ليظهر بهذا التماسك الخلاق لا نتفق مع الجاحظ ان المعاني مطروحة على الطريق وان التمايز ينتج من خلال التعاطي وعرض هذه المعاني ولا نتفق مع هيرش في ان المعنى يبقى واحد وثابتا وان صور التعبير عنه تبين الكيفيات العارضة له مع ثبته نرى ان المعاني لا تكمن في دلالات الأشياء والكلمات فهذه هويات ذاتية وليست معاني وانما المعاني تكمن في العلاقات بين بينها فحياة الشيء في التركيب غيرها خارجه والكلمة في التركيب غير حياتها في خارجه هذا من جهة ومن جهة أخرى يتولد المعنى مما يثيره التركيب في ذهن المتلقي لذا فان المعاني تكتشف خلال ممارسة الكتابة لدى الكاتب فالمفردة لها رصيد ومعايشة في معجم الكاتب تمثل تاريخها الذوقي والمعرفي والجمالي لديه فهو حين يكتب يكتشف لا انه يلتقط على الطريق ثم يعيد صياغة التعبير عن هوية الملتقط (حرائق لا تنطفئ) تشكيل وصفي احتضن ممكنات الشعر ووظفها في لغة شعرية يتضايف فيها السرد والشعر حفلت بعلاقات ولدت معان او اعادت خلقها بحيث تنقلك من مرتبة وجودية الى أخرى وهذا جوهري فالمعنى الجديد هو تأسيس شعوري متمكن في يتمظهر في سلوكيات المتلقي وهذا سر بقاء الاعمال الخالدة دون ان يستهلكها التكرار او تقادم الزمن وقبل الخوض في بيان بنية الوصف في هذه القصة وتمثلات اللغة الشعرية فيها نطرح السؤال التالي كيف يمكن للقصة القصيرة من التعاطي مع اللغة الشعرية ونحن نعرف ان ماهية الشعر تستلزم تذويب الأصوات ومحو النوايا والهويات ولا يبقى الا صوت الشاعر مستهدفا معانيه ورموزه وإيحاءاته بينما القصة تعمل على عكس ذلك في تؤكد الأصوات وتبرزها وتمنحها حوارها ووصفاتها وتشخصاتها وتسمح القصة للغات الأخرى بالحضور كاللغة اليومية يكمن الجواب في انه ليست الإشكالية إشكالية لغة تستخدم وظائف لغة أخرى بل هو تحاور لغات وهذه الحوارية يقوم بها التركيب اعتمادا على طبيعة الكلمة وانفتاحها الدلالي كذلك قابلية السرد للصورة ووظيفتها كما تقبلها المثل القرآني هذا أولا وثانيا ان القاص يضبط اشكال الخطاب المنزاح شعريا على مسافات تخدم تحقق ما تخطط له القصة
مظاهر الشعرية في القصة 1- لم تكن علاقتي بأحمد علاقة رئيس بمرؤوسه، بل علاقة تعويضية، فقد رسمته ابناً لي، وهو أحبّ اللوحة، فاتّبع خطوطها ليتمه نلاحظ ان التركيب علاقة تعويضية قد حولت السياق الى صبغة شعرية موحية بان تاريخ أبو نور مشدودا الى هذه التعويضية كذلك فان عبارة فقد رسمته ابنا لي يشي بانه خطط وبنى وعلق امالا عليه فالرسم يستبطن الحلم او الاتخاذ بالتدريج وليس الحتم ففي سورة يوسف (عسى ان ينفعنا او نتخذه ولدا) جاء طلب امراة العزيز باتخاذه حتما وان يكن التعبير (وهو أحب اللوحة) حسم الامر هذا السبك الملون بالشعر هو من جعل المطلع مشعا في أحد مستوياته وقذف الشوق في تتبع ما يليه 2- منذ ذلك اليوم وأحمد يكبر في العمل، ويكبر في قلبي هذا التقابل الآسر بتكرار يكبر ثم الانزياح في يكبر الثانية هو اخذ صورة لشخصية احمد اجتماعيا ومهنيا ونفسيا بدل ان تستغرق الكاتبة في متواليات الوصف الخطي لبيان ارتفاع شانه 3- فأصبح سائقاً لسيّارتي ورفيقي في كل الدروب الوعرة والسالكة، في كل الليالي المقمرة والعاتمة. 4- أنت دولتي وأبي، ويضحك بطفولة. 5- لقد حملّوك عود ثقاب، 6- أي صوت يوثب القلب، وأنا الأعزل إلا من بقايا إيماني المشوش بوفاء أحمد. 7- اجتزت النهر مع غياب الشمس، لأتسلق الهضبة، يطالعني وجه المدينة، وهي تمضغ أمنها بهدوء، غير آبهة بجبال تتلظّى الإخبار الناقص دأب القران المجيد على سياق رائع هو انه لا يورد القصة كاملة لأنه يستهدف من القصة ما يلائم هدفه ومقصده فياخذ منها ما تتوفر عليه من خدمة هذا الهدف مع انه خالف هذا السياق في سورة يوسف لكن الاعم الاغلب هو سياقه الأول كما يحدث في أحوال موسى وعيسى وإبراهيم هنا في حرائق لا تنطفئ نشاهد ما يشبه هذا فالسرد لون احتياجه من الوصف وجزأه في بناء أحوال الشخصيات فنلاحظ مثلا احمد (وكان قد مشاها سيراً على قدميه بنصف حذاء، جعلني أقبله عاملاً لدينا دون تردد/ كان يعشق غابات السنديان ويتفانى في الدفاع عنها، لذلك استحقّ لعدة أعوام لقب بطل الإنتاج/ حتى عندما اندلعت حرائق خفيّة لا مرئيّة، كان قد اكتشفها بفطرته / أحمد لم يخف يوماً من وحوش الغابات ولا من نيرانها / وهكذا افتقدت ضحكته، ثرثرته، حيويته، كان أحمد وحده مخولاً بمناداتي بأبي النور/ لأتبين انها درّاجة نارية أعرفها، أعرفها جيداً، أذكر فرحته باستلامها، فقد كانت أقصى أحلامه/ انطلقت في درب الغابات بسرعة هائلة، ذات الدرب التي استبسل أحمد يوماً في إطفاء) ان توزيع هذه الاوصاف كان ضرورة دلالية وليست جمالية فقط فهذه الاوصاف هي من تحدد زمن ظهورها فهي ليست زوائد بل هي فواعل في ابراز دلالة السياق التي وضعت فيه اللوحات التي انتجها النص هذه اللوحات تتنوع من تجريدي الى بصري الى سينمائي الى شعري مما يدل على ثراء لغة الوصف وقوته وتنوعه في انتاج الدلالة ومن الممكن جدا رسم هذه اللوحات 1- لوحة الأبوة / لم تكن علاقتي بأحمد علاقة رئيس بمرؤوسه، بل علاقة تعويضية، فقد رسمته ابناً لي، وهو أحبّ اللوحة، فاتّبع خطوطها ليتمه 2- لوحة الارتياب / في أحد الصباحات الضبابية وصلت إلى موقع عملي متأخراً كان الهدوء مريباً 3- لوحة الهروب والقلق / سلكت درب الحرش كالمسرنم، لكنني استيقظت على حفيف الشجر، ورحت بحذر شديد أراقب الأدغال، أشتمُّ رائحة البشر مصدر الخطر الوحيد، لا يوجد أحد، أي صوت يوثب القلب، وأنا الأعزل 4- لوحة الذكريات / رافقني، بمسير الهروب الطويل، وجه أحمد الطفولي، وعيون بناتي 5- لوحة العرس / يرقصن في عرسه، يومها أقمن له حفلاً مميزاً، وكأنه شقيقهن، ويومها غمرتهن محبة أهل قريته، كنّ كزهرات 6- لوحة النجاة / اجتزت النهر مع غياب الشمس، لأتسلق الهضبة، يطالعني وجه المدينة، وهي تمضغ أمنها بهدوء، غير آبهة بجبال تتلظّى 7- لوحة البشاعة / باب المخفر يحترق، والنار تأكل أضابير العمال، وعلى شجرة السنديان رأيت رأس أحمد معلقاً.
بنية الوصف وصف المكان لم يعد المكان ذلك الرسم الهندسي او قيمة ساكنة يخبر عنها بل امسى المكان دالة كاشفة عن الحدث وعن حقيقة الشخصيات والمكان مدخل لقراءة الأحداث قراءة تأويلية يمهد بها الكاتب عبر وصفه له ولنتبين ذلك وصف القرية ينحدر احمد من قرية فقيرة في كل شيء قاسية في عوزها وصخورها وثلوجها وواضح اشتراك القسوة بين المعنوي ( العوز ) وبين المادي ( الصخور والثلوج ) مما يوحي اثر ذلك في بناء شخصية احمد الذي يقطع المسافة منها بحذاء واحدة وان جل حلمه كان دراجة وصف الشخصيات سنأخذ أبو نور مثالا هنا وندع /ام نور / احمد / بلغ الوصف هنا ذروته الجمالية في شتى أحوال النفس فأبو نور يعيش ابوة التعويض ويرسم لوحة للسعادة تغطي تكاليف اليتم التكاليف النفسية والوجودية حتى تنامى به الاحسان لحد ان احمد تملك قلبه وتسلل ذلك الى اسرته أبو نور يعيش الشك وإعادة النظر في في كل ما تبنى من حياة وعلاقة باحمد هل باعه احمد هل يخطط لقتله هل هذا وقت التثبت من الخذلان والحقوق هل يكفي الايمان المشوش لتعضيد الايمان بالهرب هل الوقت كاف لسحب دفعة أخرى من الحياة هل يديرعجلة الموت ام الحياة ام عجلة الشك واليقين توزعت لغة الوصف بين شعرية مجازية وأخرى خبرية من المظاهر الأخرى التي تجلت بوضوح في النص هي الثنائيات التي استخدمها الانزياح لتوكيد السياق وهي 1- ( وأحمد يكبر في العمل، ويكبر في قلبي ) 2- (ورفيقي في كل الدروب الوعرة والسالكة، في كل الليالي المقمرة والعاتمة.) 3- أأدير عجلة الموت أم الحياة؟ عجلة الشّك أم اليقين؟
حيدر الأديب العراق
حرائــــق لا تنطفــــئ... لم تكن علاقتي بأحمد علاقة رئيس بمرؤوسه، بل علاقة تعويضية، فقد رسمته ابناً لي، وهو أحبّ اللوحة، فاتّبع خطوطها ليتمه، قصدني ذات يوم آتياً من قريته الفقيرة في كل شيء، القاسية بعوزها، وصخورها، وثلوجها. أشار لي بيده إلى مشرق الشمس، ليدلّني عليها، كانت تبعد بضعة كيلومترات عن المخفر الحراجيّ، وكان قد مشاها سيراً على قدميه بنصف حذاء، جعلني أقبله عاملاً لدينا دون تردد. منذ ذلك اليوم وأحمد يكبر في العمل، ويكبر في قلبي، بتُّ أشعر بالمسؤولية تجاهه وتجاه أسرته التي يحمل أعباءها بسنواته السبع عشرة. قضينا معاً ليالي طويلة في إطفاء الحرائق، أكلنا معا لفائف زعتر ملوثة بهباب الفحم، كان يعشق غابات السنديان ويتفانى في الدفاع عنها، لذلك استحقّ لعدة أعوام لقب بطل الإنتاج. علّمته قيادة السيّارة، فأصبح سائقاً لسيّارتي ورفيقي في كل الدروب الوعرة والسالكة، في كل الليالي المقمرة والعاتمة. كان أنف أحمد لا يخطئ، لذا أسميته زرقاء اليمامة شميّاً، حتى عندما اندلعت حرائق خفيّة لا مرئيّة، كان قد اكتشفها بفطرته، أسرَّ لي يوماً، عن محاولات البعض في قريته لتأليبه ضد الدولة، فسألته بابتسامة العارف للجواب: وأنت ما رأيك؟ فيجيب ببراءة: لا علاقة لي بالدولة، لا أعرفها، أنت دولتي وأبي، ويضحك بطفولة. جاءني يوماً يحدثني بمرارة، وخجل، عن دعوة خطيب الجامع له للجهاد، رأيت الخوف في عينيه، أحمد لم يخف يوماً من وحوش الغابات ولا من نيرانها. بعد تلك المصارحة بدأ حاله يتغير، وهكذا افتقدت ضحكته، ثرثرته، حيويته، كنت أحاول إطفاء الحرائق، لكنه لم يساعدني قلت له: لقد حملّوك عود ثقاب، بدلاً من خرطوم المياه. لزم الصمت طويلاً، ثم اختفى مقفلاً هاتفه في وجهي، وكان عليّ إبلاغ الإدارة بتغيب أحمد عن العمل، واختفاء السيّارة. * هل تتهمه؟ ** لا، ماذا لو قتلوه واستولوا على السيارة؟ * لكن هناك من أكدّ بأنّه سلّمها للمسلحين في قريته، انتبه، إن لم تتهمه ستدفع غرامة السيّارة، وأنت تعرف بأنها باهظة الثمن. ** لا أعرف ظروفه، ما أعرفه أنّ أحمد لا يخون. تمتم المحقق: لو لم تكونا مختلفين، لاتهمتك بالتواطؤ معه، في هذه الحرب كثر هم الخونة. في أحد الصباحات الضبابية وصلت إلى موقع عملي متأخراً كان الهدوء مريباً، تغيّب العمال كلّهم، حاولت الاتصال بهم لكن لا مجيب، وصلتني رسالتان منه: (خالتي أم النور تريد منك الذهاب إلى البيت فوراً)، (رُح بطريق الحرش). لماذا طريق الحرش الأقرب لقريته، والأبعد عن الطريق العام، هل باعني أحمد؟ هل يحاول إنقاذي؟ بدأ صوت زوجتي يطن بأذني (من بداية الأحداث لم يعد أحمد كما كان، احذر منه، لابد أنهم سيغسلون دماغه، وقد بتّ عدوه)، كنت أكذّب ظنونها بنظرة لائمة مني، أحمد ابني ولن يخذلني؟ (أنت لم تصدقني ستبقى على نياتك الطيبة، ها هي السيّارة قد سرقت) آنها انشغل الجميع بسرقة السيّارة، وغضّوا النظر عن أحمد المسروق. أحمد، هل أسلك درب الحرش؟ أم أنك نصبت لي كميناً هناك؟ اتجهت بنظري صوب قريته، أغمضت عيني وأخذت نفساً عميقاً جاءني صوته من أعماقي (لا وقت للتأمل انجُ بجلدك يا أبا النور)، كان أحمد وحده مخولاً بمناداتي بأبي النور. سلكت درب الحرش كالمسرنم، لكنني استيقظت على حفيف الشجر، ورحت بحذر شديد أراقب الأدغال، أشتمُّ رائحة البشر مصدر الخطر الوحيد، لا يوجد أحد، أي صوت يوثب القلب، وأنا الأعزل إلا من بقايا إيماني المشوش بوفاء أحمد. زاد توتري بمعركتي مع الوقت ضياع هاتفي، فأزيز الرصاص بدا قريباً ولا يمكنني الاستنجاد بأحد. رافقني، بمسير الهروب الطويل، وجه أحمد الطفولي، وعيون بناتي، يرقصن في عرسه، يومها أقمن له حفلاً مميزاً، وكأنه شقيقهن، ويومها غمرتهن محبة أهل قريته، كنّ كزهرات توليب في حقول العوسج. ها أنا أصل إلى الحرش، الطريق المفضي إلى النهر ترابي، مغطى بالأدغال، لكن يلزمني ساعات طويلة لأقطعه مع مخاطره، شممت رائحة بنزين، فاختبأت خلف صخرة، لا يوجد أحد، بل هناك كتلة سوداء مركونة على جذع شجرة، لأتبين انها درّاجة نارية أعرفها، أعرفها جيداً، أذكر فرحته باستلامها، فقد كانت أقصى أحلامه، والآن يا أحمد هل أفتى لك خطيب الجامع في قتلي وفخخت الدراجة؟ أم أنك ستطلق الرّصاص في ظهري؟ أعلم بأن عينيك لا تستطيع مواجهتي ولن تأتني طلقاتك في صدري ماذا لو أن الطريق الذي رسمته لي كان طريق نجاتي، ماذا لو أنك كفرت عن السيارة بدراجة، هي الأثمن، تفصلني عنها سبع خطوات ثقة، هل أخطوها؟.يممت بوجهي شطر قريته مغمضاً عينيّ ( انجُ بجلدك يا أبا النور، لا وقت للتأمّل) خطوت الخطوة الأولى، وكانت الأصعب، وكأن أثقالاً من حديد بكاحلي، لم ألبث أن تحررت منها تابعت بسرعة إلى الدراجة، أأدير عجلة الموت أم الحياة؟ عجلة الشّك أم اليقين؟ لا وقت للتثبت من العقوق والخذلان، حسمت أمري، فإن صحّت مخاوفي سيزيل الموت آلامها. بيد مرتجفة فتلت المفتاح، لم يحدث ما توجّسته، سخونة خزان الوقود يشير إلى أن أحمد قريب جداً، همست له: أحمد، أنت هنا؟ برمشة عين مسحت المكان، لم أره، لكنني شعرت بنظراته تخترقني، هل كان صوتي مسموعاً أم بخلدي؟ لا أدري. انطلقت في درب الغابات بسرعة هائلة، ذات الدرب التي استبسل أحمد يوماً في إطفاء حرائقها، عند ضفة النهر الشرقيّة تركت درّاجة النجاة، والقذائف تحفر الطريق من خلفي، اجتزت النهر مع غياب الشمس، لأتسلق الهضبة، يطالعني وجه المدينة، وهي تمضغ أمنها بهدوء، غير آبهة بجبال تتلظّى. مشيت ساعات وساعات، بفردة حذاء واحدة، وبعطش شديد، والكثير الكثير من الأشواك والمرارة. نقلتني إلى بيتي سيّارة عابرة ارتاب سائقها لحالتي المزرية، حيث زوجتي وبناتي الثلاث يبكينني، بعيون معلّقة على شاشة تلفاز ينقل حرائق المخفر الحراجيّ. أكفهن تتلمس وجودي غير مصدقة، وتابعت دموع الابتهاج بالانهمار، بينما المذيعة مبتهجة لاستيلاء (المجاهدين) على رماد الغابات. بتتبعي الملهوف والدقيق للأخبار، على مواقعهم في الأنترنت رأيت باب المخفر يحترق، والنار تأكل أضابير العمال، وعلى شجرة السنديان رأيت رأس أحمد معلقاً.
صديق صديق علي/ سوريا / اللاذقية الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الجمعة 15-05-2020 06:47 مساء الزوار: 881
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
قراءة في رواية «النبطي المنشود» لصفاء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
ميزان النقد في رأي المجتهد بقلم نجم ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
قراءة في كتاب «معاصر السمسم بين الماضي ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 22-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 09-06-2024 |
«شذرات نقدية».. إصدار جديد للكاتبة ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 09-04-2024 |
«زهوة تلتقي طيفا» للكاتبة ميسون عوني | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 09-03-2024 |
قراءة في رواية صفاء أبو خضرة «اليركون» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 14-02-2024 |
أدب المقاومة الفلسطينيّة عند سناء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
«العبور على طائرة من ورق»... رواية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
قراءة في ديوان «المشكال» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 22-12-2023 |
قراءة في رواية( عشرُ صلواتٍ للجسد) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 24-07-2023 |
لمحة عن كتاب «سحابا ثقالا» للكاتبة ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 04-06-2023 |
قراءة في كتاب «للأشياء أسماء أخرى» لروند ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 28-05-2023 |
قراءة في رواية «ثلج أحمر» لأمل أبو سل | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 26-05-2023 |