قراءة نقدية لنص "عمر شارد " الكاتبة حنان الرقيق / تونس
بقلم الأستاذة الناقدة  :حسناء حفظوني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إننا إزاء نص قصصي واقعي تتلبس فيه القاصة منذ مفتتح السرد بالشخصية اطلاقا من التداخل الجلي بين الضمائر ضمن رؤية داخلية واضحة المعالم إذ تتخذ الساردة زواية نظر داخلية أو ما يسمى بالراوى العليم لتنفذ لأعماق الشخصية دون أن تبالغ في الكشف ثم فسحت المجال للشخصية لتعبر عن ذاتها بذاتها فإذا هي تعرض تفاصيل من حياة البطل في علاقته بالأنثى :
"شارف عمري على الأربعين وطالت بي سنوات العزوبية..."
على هذا النحو أنطقت الساردة البطل بما لم ينطقه كثير من الرجال عن نظرتهم التشييئية السيئة الظن بالمرأة فإن هي إلا قيد أو جمال خداع أو متعة عابرة على حد قول الشخصية...
ولعل نقطة الارتكاز التي استندت اليها القاصة تكمن في الحوار الباطني الذي بلغ في بعض المواطن من القص حد استبطان الشخصية لذاتها تطرح عيوبها تباعا حتى بدت شخصية من لحم ودم تعيش بيننا في الواقع مستمتعة بحياتها كما تعودت عليها لا قلق يسودها ولا منغص يكدر صفوها غير إلحاح الأم على ضرورة الزواج حتى تحول إلى هاجس سردي خلق بؤرة التشويق في القص ليدفع المستقبل نحو التساؤل :
ترى هل سيغير الرجل من رأيه ليذعن لطلب أمه؟
وهل سيعثر على امرأة بإمكانها أن تصلح ما رسمته المواضعات الاجتماعية والعادات الذكورية البالية من صورة مشوهة عن المرأة تجعل بعضهم يعزف عن الزواج؟.....
كل هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يدور بخلد القارئ أجابت عنها القاصة من خلال تسارع نسق السرد الذي اعتمدته لتسير بخط الأحداث إلى المنعرجات الهامة في النص وهي التعرف السريع على المرأة والزواج منها
وهنا لعب السر التلخيص دورا مهما في طي كثير من الأحداث لبلوغ حدث آخر مفصلي في القصة وهو محاولة الاغتصاب التي تعرضت لها الزوجة الذي مثل المعراج الخطير والمحرك الأساسي للتيه بالنسبة إلى البطل
لأنه ضاعف منسوب عقدته النفسية الأولى وأعني شكه في المرأة عموما وفي زوجته خصوصا
والعمر الشارد يتشكل هنا في تخبط الشخصية بين حبها وبين شكها وبين عقدة الضعف الإنجابي الذي تعاني منه أمام منعرج اخر لا يقل أهمية عن سابقه تمثل في حمل الدكتورة...
وعلى الرغم من استثمار القاصة للوصف فإن قدرتها على تطويع الأبعاد الزماكانية أوضح وذلك بطريقة وظيفية تتلاءم مع مسار البطل لتعكس ذلك الضياع والتيه في غياهب الشك إلى حد الهروب
في محاولة للافلات من حصار الشكوك ورغم أن العودة بسبب هاتف مفاجئ مقنعة إلى حد فإن الحبكة القصصية متماسكة تقريبا
مع مسار بطل مهزوم منذ البداية في تكوينه النفسي والفكري والقيم والاجتماعي وان بدت حياته شبه عادية فإن نهاية الأحداث ضمن مفارقة مشهدية كبرى تؤكد ذلك العود على البدء في عناق الأب مقابل تبخر طيف الزوجة فاذا به يعود طفلا يتيما بعد وفاة أمه وتيه زوجته وابنه كأنه لم يكبر قط ولم يتزوج ولم ينجب ، وهو ما يخلق خيبة التوقع لدى المتقبل ذاك الذي ظن أن اللقيا ممكنة لحظة شهقة الجد حين رأى حفيده :
سبحان الله من شابه أباه فما ظلم... "
وهكذا أمكن للقاصة أن تفتح الأحداث على المأساة وهذا العمر الشارد شرد مع فقدان الأب لأمل حياته لا لشيء الا لأنه حصد ما زرعه وما زرع فيه من بذور الشك في الذات وفي المرأة وذاك هو الشك الهدام الذي لا يقين معه.

(( القصة موضوع القراءة  / عمر شارد )

شارف عمري على الأربعين و طالت بي سنوات العزوبيّة.. كنت أرفض القيود، كيف لي أن أقبل بامرأةٍ تكبّل أنفاسي ؟كنت أفرض على أمّي شروطي المجحفةَ..فتسقط في جُبّ اليأسِ و أسمع بكاءها الصّامت .. لم أحسن الظنّ يوما بجمال المرأة الخدّاع..
قد أتسلّى بإحداهنّ في أويْقاتِ نشوتي ثمّ أرميها في قمامة الإهمال.. كانت تتبدّى لي في صورةِ حرباء متلوّنة أو هرّة ناعمة تكشّر عن أنيابها كلّما داعبتَ أنوثتها الطاغية. ربّما يتحرّك شغاف قلبي لزرقة العيون و للشّعر المسافر بين سبائك القمح، قد تسحرني بيضاء فارعة الطّول ممشوقة القوام.. فيسخر أبي مشيرا إلى أمي:
" طلبك غير موجود في السّوق..هل تبحث فقط عن عظام تكسوها بعض الخرق الممزّقة ؟و هل سيشبع قوامها الرّشيق سغب الأربعين؟؟ اُنظر إلى أمّك و انتق على مقاسها ، أكل الزّمان ما اشتهى و استبْقى لنا مخزونا نأمن به غدر الصّحة" فنضحك كثيرا و تضحك والدتي بمرارةٍ..فأفِرّ من سِياط إصرارها إلى حضن أختى و هي أخصائيّة في العلاج النّفسيِّ.. أقتحم عليها عيادتها فتُلملم ما تبعثرَ في وجداني ..
جمعتني الصّدفة بإحدى صديقاتها الشّقراوات فتشبّثت بأذيال هدوئها الأخّاذ.كانت "سليمة" طبيبة أمراض نساء و تفرغّت لعلاج العقم..تأجّج نبضي لحضورها البهيّ ..تنثر حبّات البهجة متى صرخ بين يديها المخمليّتين مولود جديد..
بسرعة غير متوقّعة عقد رباط الزّواج على قلبينا و رقصت أمي بمناديل الانتصار ..
لم أخف انزعاجي من عملها و انشغالها الدّائم بأخبار الولادة و الإجهاض..لكنّها أغلقت منافذ تبرّمي بوداعة ردودها و بكفّها المعطّر على شفتيّ كلّما هممت بالشكوى..فانكفأت على غيرتي الممضّة و شكّي الهدّام..عشقي لها لم يدفن سوء ظنّي بالنساء لذلك كنت أترصّد خطاها و أحسب وقعها. فالرّجال يتردّدون على عيادتها يوميّا أكثر من النّساء..
فهل أصاب الجدب كل الأراضي المتناسلة؟؟
لم يكن ينقذها من رقابتي اللّصيقة إلاّ سفري للعمل لاستكمال مشاريعي..
طلبت مني ذات صيفٍ حارق أن تصاحب أسرتها في عطلةِ على شاطئ البحر.
فمانعتُ بشدّة لكنّني رضختُ عن كَرهٍ خشيةً عليها من الوحدةِ..أبى القدر أن تسمع صرخة مولودنا و رفضت العلاج على يديها بل منعني كبريائي من البوح بأنّ الأمل ضعيف كما أسرّ لي أغلب الأطباء..
عدتُ بعد أسبوعٍ فلم أجدْ "سليمة" في المنزل، هاتفها مغلقٌ..توجّهتُ إلى مسكن والديْها.قرعتُ الجرسَ قرعا يصمّ الآذان..الحيرةُ تثقل كاهل الجدران المظلمة..
راودتني مخاوف سامّة أقضّت نعيمي و جعلتني قابعًا كالتّمثال الأخرس إلى أن حلّ الدّجى..و تصبّب عرقي و دمعي شلاّلا..أ تكون قد فرّت دون أوبةٍ من جحيم شكّي
و غيرتي ؟؟
مرّت ساعاتٌ و أنا أحرس الباب المنيعَ. و لا أعرفُ كيف تهاوى جسدي على الحائط المنهك بالسّؤالِ. فغلبني نعاس كريهٌ و لم أفق إلاّ على زمجرةِ سيّارةِ والدهَا.غشت بصري أضواؤها السّاطعة .فلم ألمح شبح زوجتي المتداعي بين ذراعَيْ أمّها..ابتلعت أسئلتي و خيّم الصّمت القاتل و زوجتي طريحة الفراش ..آثار حرق على يديها البيضاويْن و خدوش على خدّيها و جرح غائر على رقبتها ..
قطعت "سليمة" جنازةَ الشّك بصوتها المتحشرج المخنوقِ :
" كانت ليلة قمراء فراقَ لي ترشّف ضياء البدرو تنسّمَ العبير المضمّخَ بالطّحالب على ضفاف البحر. خرجتُ مع أخي الصّغير فأخذتنا أقدامنا المحمومةُ إلى مكان بعيدٍ..لاحَ لنا عن بُعد شبحٌ عملاقٌ يعدو نحونَا. فتسارعت دقّاتنا مع لهاثنا و القمر يسقط في عمقٍ مدلهمٍّ..أمسك بقبضةِ أخي و أسقطه أرضا و داس بقدمه الكُبرى على أنفاسه ثمّ جذبني من شعري و هوى بي على رمل نتأت أشواكه..أطفأ سيجارته المستعرةَ على يديّ و بدأ يتحسّس جسدي بلا ورع على مرأى أخي المتوجّعِ..مزّقَ ثوبي و لكنّه لم يستطع أن يسطُوَ على عفّتي ..فزاد حنقُهُ فسدّد لكمةً على أشداق أخي ففقدَ الوعيَ..ثمّ طفقَ يجرّني من ضفائري إلى بلغ بي صخرةً مطلّةً على أوجاعي ، و كاد رأسي يرتطم بسطحها المسنون لكنّني ركلته على بطنه المنتفخِ فسقطَ أرضا مُستأسِدًا نافثا سُمّ سكّينه في خاصرتي .. ربّما صدّق ادّعائي أنّني مصابة بمرض تناسليّ مُعدٍ..فانسحبَ من الحلبةِ بعد أن اجتثّ سلسلتي من رقبتي و اقتلع خاتمي فكسر أصابعي..لم أستفق من غفوتي إلاّ في المستشفى و أخي ممدّد يبكي بكاء عنيفًا..أخبرني الطّبيب أنّ الصدمة حفرت عميقا في نفسه.. ألفيتني روحًا هائمةً تنتظر صكّ التّصديق.."
لم أنبس بكلمة..نما جدار عال بيننا ..إنْ نجت من الاغتصاب فهل أصدّق أنها ليست مصابةً بالمرض المزعوم ؟ و كيف لي أن أتأكّد من صدق روايتها..لا حلّ سوى الطّلاق..
عُدت إلى نظرات أمّي الذاويةِ و إلى صراخها المكتوم ..لم تكد تفرحُ بزواجي حتّى كدّرها خبر جدبي..و عندما اقتنعت بالنّصيب صدمها فكّ الارتباط ..
بعد شهور بلغني نبأ حمل"سليمة"فزاد يقيني أن نطفة الوحش زُرعت في أحشائها..
فكيف بنهري العليل أن ينبت زهرا يانعا؟؟
همز الجيران يذبحني من الوريد إلى الوريد.. اِضطرمت نقمتي فقرّرت الرّحيل ..
نأت الطائرة بهمومي بعيدا إلى جزيرةٍ آسويّة ..أحسستُ أنّها تتمايل مثقلةً في الفضاء..
دفنتُ أوتار مشاعري في الفراغ المقيتِ و لم أتجرّأْ على ارتياد الشّواطئ ..كلّما تناهى تلاطم الأمواج إلى مسامعي تشّكل في ذهني مارد من دخان يقطعُ أوصال جسمي إربا، فيتسايل لعابهُ على قطعي المبعثرة فتتجمّع من جديد ..مرّت السّنوات مالحةً دون بحر..
اِستفقتُ يوما على هاتف مزعج يخبرني في خشوع بأنّ صحّة أميّ تعكّرت ..
عدتُ فأزحت الوحش عن كاهلي. لكنّ أمي لفظت أنفاسها الأخيرة قبل وصولي ..
كان المنزل يغصّ بالمعزّين و كنت أبحث بين الوجوه عن صفحات آفلة لكنّها سرعان ما تطايرت متراقصةً في مهبّ الذّكريات..
خنقتني العبْرات فهربت إلى الشارع الفسيح حيث يصطف الرجال لقبول التعازي ..لاحت لي امرأة تتهادى في خطو بديعٍ و معها طفل وسيم ..يا الله..صاح أبي ماسحا دموعه الساخنة :
"من شابه أبــــــــــــــــــاه ............ما ظلم.."
كان نسخةً منّي ..قطعةٌ من جسدي ..نطفتي النّفيسةُ تبلّل روحي العرجاء و تسعفني من الكلس و الصّدإ.كم تجرّعتِ يا "سليمة" شكّي ترياقا مرّا ‼ كم ضاع من سنوات عمري المضمّخ بالخيبات‼ عانقت أبي ثمّ تبخّر طيفها بين الصّفوف..