«شاطئ من نار» ديوان للشاعر محمود فضيل التل يتأمل مرايا العشق وينحاز للعروبة
عرار:
أحمد الكواملة
عاشق هادئ الصخب، يسكنه أمل بأن تأتي ولا تأتي، ورغم هذا الانتظار والألم ألممض ما زال يحلم وينتظر بهدوء عاشق تبدو ناره باردة خضراء، وحقه أن يشتعل ويشعلها باشتعاله، ذلك هو الشاعر محمود فضيل التل، في ديوانه الصادر عن دار أزمنة للنشر والتوزيع «شاطئ من نار»، يقول: «قد عشت عمرا وما آنست لي أملا ألا بحبك كي يحلو به العمر ويا حياتي أنا لا شيء يقنعني لذا يئست ونار اليأس تستعر ذاك المكان الذي قد كان يجمعنا ما زلت آتيه ما زالت به صور فكم أتيت وعاد القلب منكسرا ما زلت اسأل ما أنساك ما الخبر». في مقارنة خاسرة بين من ينظر أو ينتظر من بعيد وبين أولئك الشهداء الذين مشوا في الظل ليدرك الناظرون أو المنتظرون ذلك السر المبجل الذي عرفوه ولم يدرك كنهه إلا الشهداء الذين نفضوا عنهم ذل الحياة إلى مجد الخلود تاركين من ينتظرون يحاولون ولا يستطيعون أن يذرفوا على خيباتهم ولو دمعة.. دمعة واحدة فقط:
«قد رأيت السر فيما بيننا أو بينهم خيطا رفيعا عندما ماتوا جميعا فغدا الفرق كبيرا كلنا في الذل نحيا فاذرف الدمع عليهم كلهم أضحي بعيدا كلهم أضحى شهيدا». قصيدة محدودة الألفاظ تحمل شحنة عالية من الحس الإنساني النبيل حيث ذلك العاشق الذي يبحث عن دفء اللقيا في تناص قرآني (أتيكم منها بقبس) «كلما آنست نارا شدني الدفء إليها» ويتكرر التناص القرآني (أو أجد على النار هدى) واحتواني النور (معادل الهدى) كي لا يعتريني الخوف في هذا الظلام إنه التوق إلى دفء العشق ونور معرفة ما له في خافق معشوقه من أثر ود، إنه يبحث في مدار العمر عنها يبحث ويبحث حتى نسي وضيعته الدروب ومات فيه الأمل الذي يرنو إليه أو كاد. بصبر أيوبي يحاول الشاعر العاشق أن يثير في قلب محبوبته ولو ضوء حب ينوس ولا شيء غير الخيبات ومع كل هذا الجحود يبقي في قلبه رسيس أمل، وهي تحرق آدنا بارقة، إنها تنسى كل شيء وهو لا ينسى، يقيم على أمل أن يجود الزمان بظل شيء مخادع كأنه ظلها الأثير: «فلماذا صرت تنسى كل شيء؟ بينما لم يعرف الحب بقلبي لك وقتا أو حدود أنت هذا العالم الباقي فماذا ظل شيء من زمان الحب تهوى أن تعود؟». «جدي الذي أناجيه شوقا» قصيدة جميلة مؤثرة تحيلنا إلى ماض أثير ما زال يراوح مكانه في دواخلنا لقطات تصويرية كأنها فلم سينمائي يعرض جانبا لم نعشه واقعا غير أنا نعيشه في أحلام اليقظة بكامل بهجته وحضوره الثر: «يجالسنا ثم يحكي من العمر شيئا ويصمت بين ثنايا الكلام ترى دمعتين تقولان شيئا مريرا لديه يلملم إطراف هذي الحياة يعيد علينا جميل رؤاه». «سقط الراوي» قصيدة أقرب إلى قصة قصيرة فيها استعارة للراوي الذي طالما حكى تاريخنا بنبرة واثقة ثم انحسر عن بصره الحجاب فرأى الحقيقة صارخة بكل قبحها: «دم ابن يعقوب» قصيدة تحمل فيضا من التناص الذي يحيلنا إلى قصة يوسف عليه السلام، قصة الظالم والمظلوم، قصة المتهم القاتل والبريء، وقصة من يشار إليه بالتبجيل، وهو القاتل الواضح الخفي في كل العصور، هو إرهابي الماضي والحاضر والمستقبل، انه العربي الفلسطيني دائما في قفص الاتهام رغم براءته التي تفقئ عين الشمس. بوح جميل شفيف وعميق واضح شاعري وفيلسوف عميق، لسان حاله كأنه يقول ما جدوى الحياة، فكثير ما تكون موت في الحياة، وكثير ما يكون الموت حياة في الموت، فليأتي الموت ألان: «ماذا لو جاء الموت إلي ومت ألان فليأت إذا و ليأت ألان إن عشت بها أو مت فذا عندي سيان هما لونان مخاتلان». ورغم البعد والناي كل ما يتوق له المحب إشارة من بعيد ليطير بقلبه إليه لسان حاله أنا طوع يدك، لا عتب ولا ملام ليس كمثل حبي لك شيء هكذا يبوح شاعرنا العاشق في قصيدته (لا تؤاخذني حبيبي): لا تعاتبني لأني عندما حاولت يا قلبي اقترابا منك يوما قد نأيت رغم كل البعد عني سوف أتيك أنادي مثل حبي يا حبيبي لك حبا ما رأيت». وثمة في الديوان رفض صارخ لما آلت إليه أحوال الأمة من خنوع وذل وسعى حثيث لنيل رضا ومودة العدو المغتصب، وجع يهيج الشاعر فيجأر بشكواه: «وإننا امة باتت بلا أمل أحلام يقظتها تعطيك ألوانا لأنها نسيت حتى مواجعنا مذ صار من سلبوا الأوطان إخوانا صرنا نفاوضهم نرجو مودتهم ونلتقي ألان من تحتل أوطانا اشك أن أمتي كانت كما زعموا فأين تاريخها مما أرى الأنا؟». قصيدته (درب المتاهات) طوفان من الأسئلة تسلمه إلى مزيد منها ولا جواب وإن جاء جواب غشيته غيوم الريبة والشك والضياع والغربة. أسئلة فلسفية وجدانية تبحث في العشق والحياة والموت المرأة الوطن ومن أين وإلى أين، وإلى أين تسلمنا متاهات الحياة: «أشق الطريق إليك وامشي فاحتار أي المسالك اختار كيلا أضل الطريق فتوقف سيري المتاهات وأسأل ما عشت أين الطريق» وتأخذنا قصائد كثيرة إلى مثل هذه المناخات من ذلك على سبيل المثال قصيدة (لكل إنسان طريق). وإذ نقلب صفحات هذه المجموعة الثرية التي تكشف عن عاشق عذري عميق الهوى صادق شاعر تسكنه أسئلة الكون والوجود الموت والعدم والحياة والخلود، وإذ يبوح بعشقه لفلسطين وانحيازه لأوجاع الأمة، يعبر بلسان شعره وقلبه عن حبه العالي للوطن الغالي الأردن، نبض القلب وحنين الروح ورائحة الغوالي الذين سبقونا إلى المجد، حين عطروا ترابه بعرقهم ودمهم، وهو يرفض كل من يضمر شرا لهذا الحمى الغالي، معلنا انه جنة الدنيا. إن جذوة العروبة في روحة وقلبه لم تقف عند حدود الوطن والشعب الواحد (الأردن وفلسطين) فها هو يعلن شوقه لمصر كما سائر بلاد العرب مكانها في القلب والوجدان، ففي قصيدة (عمان والليل ) يقول: «سرنا طريقا من الأردن يحملنا شوق إلى النيل من أشواق عمان يا مصر جئنا وحب النيل يحملنا من سهل حوران حتى سهل حلوان». رغبة في تتبع اثر بعض الكلمات ودلالتها الصورية والنفسية على الشاعر والمتلقي والنص، حيث لفت النص انتباهي لتكرار كلمتي النور والعتمة، بمرادفاتهما،فأحصيت مئة وخمس تكرارات لكلمة النور وما يرادفها، وخمس وسبعون تكرارا لكلمة عتمة وما يرادفها، إذا كان لهذا من إشارة، فهي تؤكد على غلبة الأمل على اليأس في قلب شاعرنا، رغم ثقل المعاناة، وهذا ما تركه النص من اثر ايجابي في وجدان وحس المتلقي بوضوح. و قد انتهينا من نظر سريع موجز في هذه المجموعة الرائقة (شاطئ من نار) للشاعر الصديق محمود فضيل التل فلا بد من إشارات سريعة تجلي بعض ملامح هذه المجموعة منها: حضور القصيدة العمودية بثوبها القشيب المؤثر إضافة إلى قصيدة التفعيلة الغنية بإيقاعاتها اللافتة الآسرة. لغة المجموعة رشيقة معبرة تنأى عن الإبهام، تحمل رؤيا فكرية فلسفية تشير إلى شاعر ممتلئ ثقافة وحسا وبصيرة وأمل بالقادم، صاحب تجربة شعرية غنية عريضة، جديرة بالتأمل.